الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات تفرحنى، القصص غير المكتملة تلهمنى، الجلسات العائلية المرتبة السعيدة تربكنى والأمطار والنوات العاصفة تبعثنى من جديد» هكذا تصف بطلة رواية «سيجارة سابعة» نفسها، نادية الشابة التى تقترب من الثلاثين عاما تحكى عن طموحاتها وعن انهزاماتها وانكساراتها وعن لحظات سعادتها ومراراتها وشخوصها من خلال احداث الثمانية عشر يوما الأولى فى الثورة، فتشعر مع قراءتك للرواية وكأن الثورة هى انعكاس لحياة البطلة السابقة وربما لآخرين من نفس الجيل بكل ما فيها من عدم استقرار أو حتى عدم اكتمال فهى ثورة «الجيل الذى لا يجيد تقفيل النهايات» على حد تعبيرها. رواية «سيجارة سابعة» الصادرة عن دار ميريت هى الرواية الثانية للكاتبة الشابة دنيا كمال، ولقد صدرت روايتها الأولى منذ ثلاثة أعوام تحت عنوان «هى وضحى». التراتب الزمنى غائب فى الرواية فالأحداث متداخلة وجميعها تلتقى فى النهاية بميدان الثورة، وهذا يفسر الارتباط الوثيق بين التفاصيل الشخصية وتفاصيل الثورة، تحكى نادية بلغة رائعة عن الطفولة مع الجدة وغياب الأم والعلاقة المتوترة بها، وتحكى عن سنوات مراهقة غلب عليها الانعزال، تحكى عن الحبيب القديم زين الشاعر الساحر الذى مثل الأمان والإقبال على الحياة وكان يكبرها بثلاثين عاما وبقى حبه معها دائما، ثم تحكى عن فراق زين المفاجئ والذى تلاه فراق الأب المفاجئ أيضا وما تلى ذلك من كوابيس وخواطر عن الموت صاحبت البطلة فى كل حياتها، سبب موت زين صدمة وخوف وتشتت أما الأب فبموته انتهى التعلق بكل شىء، فمع شعور بالغضب والحزن والإشفاق على الأب من الحجرة المظلمة التى انتهى به الحال إليها، أصبح كل شىء إلى زوال. الاب كان محورا هاما فى حياة البطلة، هو كاتب وسياسى من جيل الستينيات حكاء بارع خاصة حكايات السجن ورفاقه وحكاياته عن ترحاله والذى ورثته عنه الابنة كثيرة الترحال، الأب حاضر دائما يواسى ويدعم ويسمع وينصح، حاضر فى الثورة بقوة فى كل أحداثها.
أما على هو الحبيب الذى تمثل عيناه صندوق الدنيا بما فيه من كل الأماكن والمدن والجبال والأكوان والعوالم الموازية والملونة التى طالما رغبت البطلة بالهروب إليها، على الذى احتفظ بعالم برىء طفولى دون تلوث والتقى مع نادية فى مساحة الفضول وعدم الاسقرار، قرر أن يرحل بنفس النهج الطفولى الذى يحتوى على قدر من الأنانية. وبقيت الوحدة، فالأصدقاء رحلوا والأب رحل وبقيت معها الكنبة الكبيرة فى الشقة الصغيرة التى استقلت بها نادية منذ سنوات عن أهلها، مثلت الملاذ وتحملت ثقل المرارات وشهدت يوميا السيجارة السابعة التى يبدأ مع انتهائها يوم جديد ثقيل، ربما يكون يوم عمل أو يوما للطبخ الذى تحبه نادية وتوليه عناية خاصة وروقانا خاص، ولكن غالبا ما يلقى الطعام فى القمامة حين لا يأتى على كالعادة، أو حين لا يشاركها فى تناوله الأب أو أحد الأصدقاء، الكنبة التى فترت عليها الرغبة فى زيارة الشلالات والبحور البرتقالية، وحتى زيارة من تبقى من أصدقاء على المقهى.
الثورة لم تمثل فى الرواية سوى امتداد للطموح الواسع والإصرار لجيل حالم من ناحية، واستمرار للقصص غير المكتملة والآمال المتحطمة من ناحية أخرى، تحكى نادية عن الدماء التى سالت بجوارها، تحكى عن طاقة الميدان الخاصة خارج مقاييس الجغرافيا والتاريخ على الرغم من كونه مصدر التأثير، تحكى عن الإحباطات والانتصارات وحس الفكاهة وتحكى عن رفاق الميدان، كل ذلك يدور خلال الأيام الأولى للثورة خاصة يوما 28 يناير ويوم موقعة الجمل.
يمكن القول إن هذه الرواية تصف، من خلال بطلتها الحالمة دائما والمنهزمة أحيانا القوية التى تكره الاستقرار والرتابة والقيود، جيل الثورة بامتياز. الجيل الذى ينتمى لطبقة وسطى لم يتعبوا فى شىء، حياتهم حل وسط ومتطلباتهم حل وسط لن يجوعوا أبدا من الحاجة، لا ينتجون شيئا بأيديهم ولكنهم يظلون حالمين، وتتعدى طموحاتهم حدود المعقول، الكاتبة غير مهتمة بسرد الأحداث بدقة بل بوصف الاشخاص بكل ارتباكاتهم وتعقيداتهم وأحلامهم وصدماتهم وانتصاراتهم