إنها ليست تلك الصورة الظاهرة على شاشة التلفاز تحت عنوان «مباشر قطاع غزة» والتى تٌظهر ليلة حالكة الظلمة وعدة بنايات متفرقة مضيئة، وبين الحين والآخر يدوى صوت القذائف وتظهر سحابة دخان. المشهد البعيد للصورة يحتوى على أصوات سارينة سيارات الإسعاف المتواصلة، وأطباء لا يعرفون النوم فى مستشفى يستقبل كل ساعة عشرات الإصابات والشهداء، ومبانٍ مأهولة بسكان يتلون الشهادة مع كل صوت قذيفة فى انتظار الموت، وشوارع خالية ومظلمة تملؤها رائحة الصمود والمقاومة وليس الخوف والهلع.
عبرت قافلة غزة، التى يزيد عددها على 500 ناشط سياسى وأعضاء أحزاب ومستقلين فى العاشرة من مساء يوم الأحد الماضى شوارع رفح الفلسطينية متجهة لغزة فى 8 أتوبيسات تهتف «غزة غزة يا أرض العزة»، و«رددها جيل ورا جيل تسقط تسقط إسرائيل».
القافلة استقبلها عدد من الكتائب الفلسطينية التطوعية، بعد عبور المعبر مباشرة، وخلال الرحلة التى استمرت ما يقرب من الساعة من رفح الفلسطينية إلى غزة، كان سائق القافلة أبوسالم يستعرض ل«الشروق» الشوارع والأحياء التى تمر بها القافلة.
«هذه الأصوات مثل الألعاب النارية اعتدنا عليها ولم نعد نخشاها» قالها أبوسالم مع أول صوت قذيفة سمعته القافلة داخل الحدود الفلسطينية، مطمئنا الركاب «إسرائيل لا تقذف بشكل عشوائى ولكنها تختار المؤسسات الحيوية وشبكات البنية التحتية وأماكن تمركز المقاومة».
كانت القافلة فى شوارع خان يونس عندما قال أبوسالم البالغ من العمر 60 عاما، «هذا مبنى جامعة القدس المفتوحة بجوار مستشفى السلام»، فى إشارة منه إلى مبنيين كبيرين ومضيئين فى مدينة صغيرة مظلمة وخالية. وكلما مرت القافلة على منطقة سكنية يرتفع الهتاف «تسقط تسقط إسرائيل»، ويخرج سكانها لتحية الشعب المتضامن الذى هدم الحدود ودخل فلسطين ببطاقة الرقم القومى، وكانت علامة النصر هى اللغة الصامتة بين الشعبين.
بعدها وصلت القافلة إلى منطقة دير البلح، التى قال عنها أبوسالم «كانت مستوطنة لليهود فى 2005 وكانت تسبب للفلسطينيين الكثير من المشاكل والمتاعب لأنها واقعة فى منتصف الطريق بين غزة ومعبر رفح، وكنا نتعرض للكثير من المضايقات أثناء عبورنا عليها، مثل عبورنا الآن لأى منطقة محتلة».
وعند تقاطع شارعين كبيرين بينهما فى المنتصف ميدان صغير، كان ذلك هو «مفرق الشهداء»، حيث استشهد محمد الدرة ووالده فى 30 سبتمبر 2000، وتبعهما مجموعة من الشهداء فى نفس المنطقة، حمل المفرق هذا الاسم، على حد قول أبوسالم.
«فى مثل هذا الوقت فى الأيام العادية تكون الشوارع مضيئة والناس تسهر لما بعد منتصف الليل وتسير فى الشوارع والطرقات فى أمان، ولكن هذا الوضع الأشبه بحالة الحرب نتيجة القذف المتواصل لستة أيام»، مفسرا حالة الصمت والهدوء التى تخيم على المدن والأحياء التى مرت بها القافلة، مؤكدا أنها ليست حالة من «الصمت والخوف»، ولكنها «نبض المقاومة الخفى الذى تخاف منه إسرائيل»، على حد قول أبوسالم.
وصلت القافلة غزة، واصطفت الأتوبيسات أمام مستشفى ودار الشفاء لزيارة المصابين وعقد مؤتمر صحفى فى داخلها، ونزل ركاب القافلة يهتفون «هنرددها جيل ورا جيل.. تسقط تسقط إسرائيل»، و«غزة غزة يا أرض العزة»، وأعلام فلسطين ترفرف بين الحشد الداخل للمستشفى من بوابتها الرئيسية والذى تنحى جانبا للسماح لسيارات الإسعاف بالحركة السريعة من وإلى المستشفى.
وفى الداخل استمر الهتاف الإنشاد، لغزة والمقاومة، وبعدها عقد منظمو القافلة مؤتمرا مع وزير الصحة الفلسطينى ومدير المستشفى أمام الجموع، وشارك فيه طاقم الأطباء والتمريض والمتطوعون الذين لم يتركوا القافلة إلى عند معبر رفح المصرى فى اليوم التالى.
قضت القافلة ليلتها داخل ساحات المستشفى على الطريقة المصرية، فيما يشبه أجواء اعتصام ميدان التحرير، بعدما افترشوا الأرض وتجمعوا فى حلقات صغيرة، بعضها يغنى للشيخ إمام «ممنوع من السفر.. ممنوع من الغنا.. ممنوع من الكلام.. ممنوع من الاشتياق.. ممنوع من الاستياء.. ممنوع من الابتسام.. وكل يوم فى حبك تزيد الممنوعات»، حلقات أخرى قضت ساعات الليل مع أفراد من التمريض والإسعاف الفلسطينيين، والبعض الآخر وجد فى التجول حول المستشفى وسيلة لتمضية ساعات الليل والتعرف على الأحياء السكنية، خاصة أن المستشفى منطقة آمنة ممنوعة من القذف والاستهداف.
ومع ذلك وفى نحو الثانية بعد منتصف الليل، ألقت قوات الاحتلال قذيفة بالقرب جدا من المستشفى استهدفت قسم شرطة، وتسببت فى تهشم زجاج بعض أتوبيسات القافلة، وتحطم جزء من سقف المستشفى، وهو ما اعتبره أعضاء القافلة، رسالة من إسرائيل للوفد الشعبى المصرى، وهو ما أكد عليه أيضا وزير الصحة الفلسطينى وأعضاء الكتائب والحملات التطوعية.
بعض أعضاء القافلة تمكنوا من دخول المستشفى لزيارة المصابين والتحدث معهم ولكن فى نطاق ضيق، نظرا لتأخر ساعات الليل والالتزام بتعليمات الأطباء بالحفاظ على راحة وسلامة المرضى، لذا لم يتعد وفد القافلة حدود قسم الطوارئ والاستقبال.
للموت معنى آخر لدى أهل غزة، ففى قسم الطوارئ، وبينما وصل جثمان طفل فى نحو العاشرة من العمر، ارتفعت أصوت البكاء والنحيب من أعضاء القافلة الذين شاهدوا الجثمان الذى سقط جراء القذف، ولكنهم هالهم موقف والد الشهيد، الذى حمله بين ذراعيه، وقبله ودعا له ثم غطى وجهه وودعه فى صمت وصمود.
بعد أذان الفجر مباشرة استعدت القافلة للانطلاق وصعدت الأتوبيسات بعد صوت قذيفة قريب جدا من مقر المستشفى، وبدأت جولتها فى شوارع غزة لمشاهدة آثار القذف، ومرت بمجلس الوزراء الذى قٌذف مباشرة بعد زيارة رئيس الوزراء المصرى، هشام قنديل، ومنازل عائلات الدلو وأبوعزام وسيل، التى تم استهدافها، وشهدت على قذف استاد غزة الرياضى الذى كان مقررا للقافلة أن تبيت فيه، ومنه إلى معبر رفح مباشرة.