الطريق الوحيد إلى غزة، هو اجتياز معبر رفح البرى، لتصل منه إلى رفح الفلسطينية فى طريقك إلى غزة التى لا تبعد سوى 35 كم تقريبا عن بوابة المعبر الحدودى مع مصر، صحفيون ومراسلون أجانب لم يحصلوا على تصاريح بالعبور ينتظرون الموافقات الأمنية واقفين أمام المعبر، بينما يتواصل توافد الفلسطينيين ومغادرتهم من المعبر بشكل طبيعى. مصدر أمنى بالمعبر قال ل«الشروق» إن هناك تشديدات أمنية على العبور، والتأكيد على ضرورة استيفاء جميع الأوراق المطلوبة حتى لو استغرق ذلك عدة أيام مشيرا إلى أن هناك طواقم عمل إخبارية لا تزال فى انتظار التصريحات الخاصة بالعبور. أصوات القنابل والصواريخ التى تلقيها قوات الاحتلال الإسرائيلى بالغارات الجوية لا تنقطع على مدى الساعة، فحال العاملين فى المعبر لا يختلف كثيرا عن حال الفلسطيينين، وأهالى رفح المصرية، الجميع قلق من أن يصيب صاروخ طائش المعبر الحدودى.
أحمد عويضة، شاب فلسطينى لا يتجاوز العقد الثالث من عمره كان آخر العابرين للمعبر برفقة زوجته السيدة الفلسطينية المنتقبة، فهما آخر من مرا عبر الحدود المصرية قبل أن يغلق المعبر فى وجه المسافرين قبل الخامسة مساء بقليل، جلسا معا فى انتظار تحرك اتوبيس شركة غرب الدلتا حيث يصل للجانب الآخر من المعبر.
«المرة دى دفعت فلوس مصر كرسوم للمغادرة 105 جنيهات، رغم أن المرة الماضية خلال زيارتى لمصر دفعتها لدى المغادرة فقط وليس العودة لبلدى، وفوجئت بتذاكر للأتوبيس الذى ينقلنا من الجانب المصرى إلى الفلسطينى، ب20 جنيها للتذكرة الواحدة رغم أن المسافة لا تتجاوز بضعة أمتار، والحمد لله ان كان معايا مصرى، لاننا غالبا ما بنحبش ناخد العملة المصرية معانا تانى للقطاع»، كلمات يقولها عويضة يصف بها الاختلاف ما بين رحلة عودته من مصر أمس الأول والرحلة التى كانت قبل عامين تقريبا.
موظف قطع التذاكر للأتوبيس الداخلى يعرض خدماته على العابرين للقطاع، فهو يحمل عشرات الشيكلات وهى العملة الإسرائيلية التى تستخدم بقطاع غزة فى التعاملات المالية حيث يقوم باستبدال المائة جنيه المصرية بسبعين شيكل وهى تقريبا نفس أسعار تجار العملة الموجودين على بوابة المعبر، لكنه بحكم عمله يستطيع العمل داخل المعبر واستبدال العملة قبل الصعود لاتوبيس المغادرة، موفرا خدمة خاصة لزبائنه.
« مع اقتراب الساعة من الخامسة مساء، تحرك الأتوبيس حاملا اخر ثلاثة ركاب مغادرين للقطاع، بينما كانت إدارة الجوازات فى المعبر تنتهى من إحصائية عدد المسافرين ذهابا إيابا، وقام غالبية الموظفين بإغلاق مكاتبهم استعدادا للرحيل، لكن بقى عدد قليل للغاية منهم انتظارا لوصول أى حالات صحية طارئة حيث يعمل المعبر 24 ساعة لنقل الحالات الحرجة لمستشفيات العريشوالقاهرة إذ تطلب الأمر.
نغمة دينية على تليفون أحمد تلفت الانتباه إلى رنين هاتفه، ليصاب بالذهول للحظات قبل أن يترحم عليهم، هم ثلاثة من اصدقائه، يعرفهم جيدا ويعيشون معه فى مدينة رفح الفلسطينية، لكن صاروخا إسرائيليا اطلق من طائرة حربية إسرائيلية استهدفهم، فأوقعهم شهداء.
«الله يرحمهم، كانوا بكتائب القسام الجناح العسكرى لحركة حماس وطائرات إسرائيل صورتهم ورصدتهم قبل استهدافهم، هم فى العادة يقومون بذلك قبل إطلاق الصواريخ، يصورون من يريدون استهدافه ويستهدفوه بالطائرات، لكن هذا الكلام لا يفرق معانا».
وصلت السيارة إلى الجانب الآخر من المعبر، فارق كبير فى المستوى بين الجانبين من المعبر، المصرى متواضع من حيث المستوى، بينما الجانب الفلسطينى يشعرك أنك داخل صالة الوصول الجديدة بمطار القاهرة، تكييفات ومقاعد انتظار وبجوارها صورة كبيرة لرئيس الوزراء الفلسطينى المقال إسماعيل هنية تعلوها عبارة «لن تسقط القلاع ولن تخترق الحصون».
الجانب الفلسطينى من المعبر تم تنفيذه بمنحة مالية من دول مجلس التعاون الخليجى، تتصدره صورة لأحد إنجازات حكومة حماس وهى إنشاء 10 مدارس لمراحل تعليمية مختلفة، والشروع فى 30 أخرى بمختلف أماكن قطاع غزة، بينما يضم صورة كبيرة لمدينة رفح تعود لعام 1946، حيث كان يقف جندى مصرى وإلى جواره آخر فلسطينى فقط ويقفان معا أسفل شجرة كبيرة، توضح الفارق الشاسع بين الحدود الآن والحدود قبل أكثر من 60 عاما.
أحمد أنهى إجراءات العودة على الجانب الفلسطينى ليخرج برفقة زوجته ويجد أقاربهم فى انتظاره بالسيارة، بينما كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تحلق فى الجو، أصواتها واضحة بقوة، صوتها يخيم على المنطقة ما بين المعبر وحتى الوصول إلى رفح الفلسطينية.
«أنا رجعت علشان ببقى قلقان قوى طول ما فى قصف بره وانا مش موجود مع أهلى» هكذا يبرر أحمد عودته فى ظل الحرب على غزة، فهو يتواصل مع اسرته كل ساعة أيام العدوان بينما يترقب الاخبار من التليفزيون والقنوات الاخبارية لمعرفة الاماكن المستهدفة وإلى أى مدن ينتمى الشهداء.
فور وصوله إلى منزله، بدأ أحمد فى السؤال عن مكان تلقى العزاء لأصدقائه، «الرقم ده رقم صديقى اللى استشهد النهارده، بس انا مش همسحه، التليفون ده عليه اسم 30 واحد من زمايلى استشهدوا فى كل مرة حد جديد يستشهد اجيب الرقم واقرا الفاتحة على روحه، وعلى روح كل اللى سبقوه»
حكاية أحمد مع قوات الاحتلال الإسرائيلية ليست وردية، فرحلته للقاهرة لم تكن للتنزه أو الدراسة، بل للعلاج من آثار إصابة لحقت به خلال الاجتياح البرى لقطاع غزه قبل 3 سنوات تقريبا، حيث أصيب برصاص مطاطى خلال اشتباكات بينه وبين جنود الاحتلال.
إصابة أحمد كما يروى ل«الشروق» أقعدته عن العمل لأكثر من عام، فالإصابة منعته من الحركة 9 شهور قضاها على سريره فى منزله والدته وكان زوجته الشابة ترعاه، قبل أن يحصل على تصريح بالسفر والعلاج على نفقة حكومة حماس التى أجرت له عملية جراحية تكلفت 37 ألف دولار وتم إجراؤها له فى تركيا.
«علاجى لم يكن ممكنا بمصر، فالإمكانيات الطبية التى كنت بحاجة لها لا تتوافر إلا بتركيا، وحكومة حماس وفرت لى الاموال اللازمة لتلقى العلاج، وإجراء عملية جراحية لى بتركيا حيث الزمتنى العملية بالاسترخاء على الفراش لمدة 3 اشهر أخرى، قبل أن أعود مرة اخرى للقطاع.
الظلام الدامس يخيم على غالبية شوارع رفح الفلسطينية، فالكهرباء مقطوعة عن غالبية المناطق، ويتم إيصالها للمنازل بنظام المبادلة، حيث تعمل فى كل منطقة 8 ساعات فقط، فالمنزل الذى يتمتع بالكهرباء ليلة يحرم منها الليلة التالية، ويضاء نصف الليلة الثالثة، بينما تعتمد المحال على البطاريات المشحونة والتى تضىء لمبات محدودة على بوابتها.
«غالبية المحال تغلق أبوابها مع غياب ضوء الشمس خوفا من أن يتسبب استمرارها بالأضواء فى استهدافها» كلمات يقولها مدحت العامل بأحد المحال بمخيم الشابورة والذى لا يغلق أبوابه إلا بعد منتصف الليل نظرا لوجوده فى منطقة سكنية آهلة بالسكان
يشير مدحت إلى بعض البضائع الإسرائيلية الموجودة فى المحل قائلا: «البضائع دى أغلى شوية من المصرية المهربة بس عليها إقبال كبير خصوصا أنها افضل فى الطعم، لكن فى ناس كثير اليومين دول عاملين مقاطعة من أجل التاثير على اقتصاد إسرائيل».
يوضح مدحت أن هناك بعض المنتجات التى لا غنى عن شرائها من الشركات الإسرائيلية فى مقدمتها الألبان والزبادى والتى تأتى يوميا طازة بسبب طبيعتها التى لا تتحمل تخزينها عدة أيام لافتا إلى أنها كانت تأتى من مصر لكن مع بداية الحرب وتوقف الأنفاق بات المتوافر من هذه المنتجات إسرائيلى فقط.
هذه المرة كانت هى الرحلة العلاجية الثانية للشاب أحمد، فالإصابة لا تزال تؤثر على حركته بشكل واضح، لكنها لم تمنعه من الحركة أو توثر على قيادته لسيارته، بينما يأمل فى أن ينتهى علاجه وينجب ابنا من زوجته بعد فترة المعاناة التى عاشها خلال السنوات الماضية.
يجلس محمد متابعا لاجتماع وزراء الخارجية العرب على شاشة قناة الاقصى والتى تبثه على الهواء، بينما يتابع أخبار القصف فى منطقة خان يونس والتى لا تبعد سوى عدة كليومترات محدود عن رفح الفلسطينية، ويدير مؤشر القناة للبحث عن قناة ذات تردد قوى بسبب تأثر بث القمر الصناعى بالطائرات التى استمرت فى التحليق طوال الليل.
«موقف أبو مازن عار عليه، فهو لم يعد يمثل الفلسطينيين بعد تخاذله بهذه الطريقة المهينة مع الهجوم على غزة، لكن الحمد لله إمكانيات حماس وكتائب القسام فاقت تصورات إسرائيل، وهذه القرار بأيدينا نقبل بالهدنة أو نستمر بالخلاف، ولكى يعرفوا مكانة حماس وقدرتها».
«حماس قدمت لنا الكثير، فخلال فترة إصابتى كان راتبى من الحكومة يصلنى وبزيادة كمان، والعلاج هم من تكفلوا به وأجروا لى العملية التى جعلتنى أعود للمشى على قدمى مرة أخرى، ولو كنت قعدت اشتغل 20 سنة مكنتش هقدر ادفع تكاليفها» كلمات يعبر بها أحمد عن اعتزازه بحركة حماس ودعمها له.
«إسرائيل تعرف جيدا أنهم لو اقتحموا بريا فلن يخرجوا سالمين، فالأهالى سيجعلون غزة مقبرة لهم» فنحن نعرف الطرق والشوارع فى المخيمات ضيقة للغاية فلن يستطيعوا أن يفعلوا معنا شيئا، هم قدرتهم فقط فى الطائرات، ويجب أن يقوم العرب بإرسال طائرات لنا بدلا من الأموال التى تقول لنا موتوا أنتم وسندفع لكم التعويضات» كلمات يعبر بها أحمد عن غضبه من الموقف العربى وثقته فى قدرة الغزوية على التصدى لقوات الاحتلال.
«الليلة الماضية كان القصف عنيفا على المعابر، والدخول عبر الأنفاق الان أصبح يمثل شبه انتحار» كلمات يعبر بها هشام صديق أحمد عن حالة المدينة بعد أن توقفت الحركة بالأنفاق والتجارة وبدأت المحال فى رفع اسعار منتجاتها بسبب توقف حركة التجارة القادمة.
تضم مدينة رفح الفلسطينية مجموعة كبيرة من اللاجئين الفلسطينين والذين اطلقوا على مخيماتهم نفس أسماء قراهم المغتصبة، منها «أسدود»، «الشابورة»، «التنور» وغيرها، بينما تحلق الطائرات بشكل متواصل على مدى الساعة ويسمع صوت لانفجارات بين الحين والآخر.
لم تمنع الطائرات وأصواتها شباب كتائب القسام وشباب رفح من السير فى الشارع، ومتابعة مباراة الأهلى والترجى التونسى، حيث كانت أحد المقاهى تفتح أبوابها وتذيع المباراة وسط حضور لعشرات الشباب، لكن المقهى كان مغلقا وغير مضاء بالشكل الكافى خوفا من الطائرات.
كل شاب بيده راديو أو هاتف محمول مشغل على إذاعة الاقصى التابعة لحماس، فهذه الإذاعة تبث على مدار الساعة، وتنقل الأحداث من مراسليها المنتشرين فى القطاع لذا يعتبرها الشباب الوسيلة الأسرع للتحرك، كما أن سيارات الاسعاف والمطافئ تتحرك أحيانا وفقا لما يذاع بها، مع محاولة لتحديد مكان الانفجار بالاقتراب منه خاصة فى ظل تشويش على شبكات التليفون المحمول من الطائرات المحلق.
يجلس مجموعة من الشباب على جانب أحد الشوارع فى رفح مستمعين للراديو لمتابعة آخر تطورات الغارات ليلا، بينما يسمعون صوت انفجار بالقرب منهم، يسرع حذيفة إلى هناك ليعود بعدها بدقائق قليلة «ضربوا بيت أم بلال القيادى بالقسام بصاروخ تحذيرى»، قبل أن ينهى حذيفة حديثه يسمع صوت انفجار قوى قادم من نفس المكان تقريبا ويقطع التيار الكهربائى ليقول سريعا» كده دى ضربة آلاف 16 يعنى خلاص البيت بقى متساوى مع الأرض وكويس ان غالبية السكان كانوا خرجوا فعلا مع الصاروخ الاول».
يشير حذيفة مازحا «صحيح الصهيانة دول أعدائنا بس ليهم حركات جدعنه، يعنى بيقولوا على البيت اللى هيضربوه قبل ما يقذفوه، بالصاروخ التحذيرى اللى بيتضرب من طائرة الاستطلاع، فيقوم السكان بإخلاء المنزل والمنازل المجاورة لتقوم بعدها طائرة الاف 16 بضرب صاروخ يهدم المنزل ويساويه بالأرض، لكن يبدو أنه هذه المرة أصاب أيضا محول الكهرباء، حيث انقطع التيار الكهربائى لنحو ساعة قبل أن يعود من جديد بعد إصلاحه».
يقاطع حذيفة صديقه محمود الذى يؤكد أن الصاروخ الأول الصغير ليس سوى علامة لقائد طائرة ال«إف 16» حتى يعرف المنزل بدقة ويطلق صاروخه، مؤكدا ان استهداف القيادات فى الغالب يكون خلال قيادتهم لسيارتهم أو منازلهم بشكل مباشر دون إطلاق الصواريخ الأولية.
«الطائرات لا تقذف المنازل إلا نادرا لذا لا تجد أى يتحرك أو يجرى عندما يسمع صوت انفجار قريب منه، لكن القنابل هذه المرة تأثيرها قوى للغاية فهى تتسبب فى هز المنازل فى المنطقة المحيطة لمكان إطلاق الصواريخ» شرح يصف به سامر أحد شباب القسام تأثير العدوان الاسرائيلى على المنازل، مشيرا إلى أنهم اعتادوا التعايش مع أصوات الانفجار والنوم عليها دون قلق.
يشير سامر بيده إلى السجن الموجود بالمدينة وقد اصبح خاويا من المحبوسين بداخله موضحا أن حماس افرجت عن جميع المقبوض عليهم فور بدء الحرب، خصوصا أن الاماكن الشرطية تكون الهدف الاول دائما للطائرات الحربية الاسرائيلية، فيما يتم إعادتهم مرة اخرى بعد استقرار الوضع.
بنوك رفح الفلسطينية أغلقت أبوابها أمس، فيما نشطت محال الصرافة وتجار العملة بكثافة منذ الصباح الباكر، فيما وقف المواطنون أمام بعض فروع البنوك على أمل أن تفتح أبوابها فى أى وقت، فيما استمرت تحركات سيارة الاسعاف بكثافة فى جميع الاتجاهات نتيجة استمرار الغارات الاسرائيلية على المدينة.