يحتار العقلاء فى فهم كيف استعصى على العالم العربى التحول إلى أى شكل من أشكال الديمقراطية الحقيقية رغم انقضاء عقود طويلة على انتهاء الحقبة الاستعمارية، التى عطلت فيما مضى تقدم الكثير من دول العالم المستقلة الآن. ولا أقصد هنا الدول التى استقر فيها حتى الآن على الأقل النظام الملكى واسترخت فى خيمته الفضفاضة الشعوب، ولكن المقصود هى الدول التى اتخذت من النظام الجمهورى نهجا للحكم ولحقوق المواطنين، وحيث كانت الديمقراطية وحكم الشعب فى إطار الحريات الفردية هى الشعارات الأعلى رنينا. كان التمسح بالشعب وبحقوقه هى النغمة السائدة التى طالما دغدغت مشاعر الجماهير، والتى استخدمها كل من ادعى تمثيل الطموحات الوطنية لتسلق سلم السلطة دون تفويض من أحد. تعاودنا التأملات فى هذا الشأن بمناسبة رحيل رئيس السودان الأسبق جعفر محمد نميرى منذ ثلاثة أسابيع، وقد كان واحدا من أربعة ضباط استولوا على الحكم فى بلادهم بانقلابات عسكرية فى عام 1969، واستحقوا بذلك لقب «نخبة 69»، وإليهم ينسب جانب مهم من تراجع التحول الديمقراطى فى العالم العربى. وأما الثلاثة الآخرون فهم الرئيس السورى السابق حافظ الأسد، الذى أورث ابنه الحكم، والرئيس الصومالى الأسبق محمد سياد برى، الذى تحول الصومال بعد سقوطه فى عام 1991إلى كومة من الأطلال، ثم العقيد معمر القذافى، الذى ستبلغ فترة حكمه الممتدة أربعين عاما فى سبتمبر المقبل. هناك سمات مدهشة للتقارب بين الانقلابيين الأربعة تكاد تجعل من «ثوراتهم» نسخا مكررة من انقلاب الضباط الأحرار فى مصر ليلة 23 يوليو عام 1952. فهم جميعا نتاج المؤسسة العسكرية التى وظفوها لتنفيذ مخططاتهم، والتى استندوا إليها فى إحكام قبضتهم على سلطة الحكم. جميعهم انتسبوا لطبقات اجتماعية بسيطة بل أحيانا مهمشة (مثل العلويين فى حالة حافظ الأسد)، وجميعهم أقاموا دولة الحزب الواحد، والزعيم الأوحد، والنظام الواحد بغض النظر عن تنوع أطياف الشعب، وجميعهم اعتنقوا التوجه الاشتراكى أو «البعث العربى الاشتراكى» كل الوقت أو لبعض الوقت وتحالفوا مع الاتحاد السوفيتى فى فترة الحرب الباردة قبل أن يتحولوا عنه لمغازلة الغرب، وجميعهم تحصنوا ضد اتجاهات التغيير بقمع المعارضة وتفريغ الساحة السياسية من المعارضين، وكلهم اعتمدوا على أجهزة المخابرات لإقامة الدولة البوليسية القمعية، وبعضهم ادعى بعث القومية العربية كشعار يكتسب به شرعية مفتقدة لم يحصل عليها من شعبه. وجميعهم أطلقوا مسميات رنانة على نظم حكمهم الدكتاتورية. وجميعهم انتخبوا وأعيد انتخابهم فى استفتاءات شعبية لا تسمح بوجود منافسين وبنسب تقارب كثيرا الرقم السحرى 99.999%، وجميعهم افتتنوا بفكرة القومية العربية وبشعارات الرئيس عبدالناصر وأفكاره. وجميعهم فى نهاية المطاف حكموا بشرعية هتافية مزيفة وبقبضة بوليسية محكمة خنقت الحريات وآمال التحول الديمقراطى. ولأن نخبة 69 جاءت إلى الحكم بتدبير انقلابى فان غاية همهم كان منع أى طامح آخر من تكرار نفس المسلسل، ولذلك انتشرت أجهزة المخابرات المختلفة بين صفوف الشعب وداخل القوات المسلحة، وبلغ عددها 15 جهازا فى نظام حكم حافظ الأسد وحده، ترهف السمع لكل كلمة وترصد كل اعتراض أو نقد، وانتشرت طبقة كتبة التقارير السرية عن كل من له رأى. لكن العقيد جعفر نميرى كان الأكثر عرضة لهزات الأحداث والتقلبات العنيفة، حيث أوشك أن يفقد قبضته على السلطة أكثر من مرة. ففى أعقاب الانقلاب الذى قام به فى مايو 1969 مع خمسة ضباط آخرين أطلقوا على أنفسهم أسم «حركة الضباط الأحرار»، قام نميرى باعتقال أكثر من 300 من كبار ضباط الجيش السودانى درءا لغواية الانقلاب المضاد. وبداية استند نميرى فى تدعيم نظامه الضعيف (مجلس قيادة الثورة) إلى دعم الحزب الشيوعى السودانى القوى، وخضع بالتالى لتوجهاته الأيديولوجية من التأميمات إلى قمع جماعة «الأنصار» السياسية الدينية، وانتهاء بحل جميع الأحزاب السياسية. لكن قصة الحب مع الحزب الشيوعى لم تدم طويلا إذ رأى نميرى فى شعبية الحزب ونفوذه فى اتحادات نقابات العمال خطر عليه فقام بالالتفاف حوله بإنشاء الاتحاد الاشتراكى السودانى، ووضع اتحادات النقابات تحت إشراف الدولة مما زلزل مكانة الحزب الشيوعى. فقام فى عام 1971بمساعدة أنصاره فى الجيش بانقلاب هاشم العطا الشهير الذى اعتقل فيه الانقلابيون نميرى ورفاقه فى القصر الجمهورى ثلاثة أيام قبل أن تتدخل القوات الموالية له للإفراج عنه، بمساعدة مصرية. وبعد القبض على المئات وإعدام العشرات لجأ نميرى إلى إضفاء شرعية على حكمه بعيدا عن التحالفات الحزبية والفئوية فنظم استفتاء على رئاسة الجمهورية فاز فيه بأغلبية 98.6% لكن هذا التحول، مع إلغاء التأميمات والإفراج عن الزعامات الدينية المعتقلة، لم يحصن نميرى ضد الانقلابات أو المعارضة المتصاعدة لحكمه. كان انجاز نميرى الحاسم هو اتفاق أديس أبابا لعام 1972 الذى حصل جنوب السودان بموجبه على الحكم الذاتى و اعترف بالانجليزية لغة رسمية وبالمسيحية كديانة معترف بها فى الجنوب. لكن الدكتاتوريات لا تنام مرتاحة طويلا، فتوالت محاولات الانقلاب ضد نميرى فى 1975 بقيادة حسن حسين عثمان ثم محاولة انقلاب أخرى فى عام 1976 بقيادة عناصر من الجبهة الوطنية (الإسلامية)، انتهت بإضعاف قوته وابتعاده تدريجيا عن قاعدته التقليدية فى الجيش واعتماده على حكم الفرد الدكتاتور المباشر، وانتهى إلى التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين. لكن التأرجح بين التحالفات سعيا لاستقرار السلطة الفردية أدى إلى المزيد من المشاكل، ففى ظل ضغوط الإخوان المسلمين اضطر نميرى إلى إعلان أحكام الشريعة الإسلامية فى جميع أنحاء السودان، مما اعتبره الجنوبيون انتهاكا لاتفاقية أديس أبابا وأدى ذلك فى عام 1983 ضمن أسباب أخرى إلى اشتعال التمرد فى الجنوب بزعامة جون جارانج وجيش تحرير الشعب السودانى، الذى أنزل خسائر فادحة بالقوات المسلحة السودانية طوال عقد من حرب العصابات. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية فى السودان، واتساع حركة الاعتقالات واندلاع مظاهرات الاحتجاج، قام اللواء عبدالرحمن سوار الذهب بانقلاب ضد نميرى فى أبريل 1985أثناء عودة نميرى من زيارة للولايات المتحدة، فلجأ إلى القاهرة، التى بقى بها حتى عام 1999حين سمح له الرئيس عمر البشير بالعودة إلى السودان وممارسة الحياة السياسية مرة أخرى، لكن نجمه كان قد هوى دون رجعة. أما الرئيس حافظ الأسد فقد كان أوفر حظا وأشد قمعا، فهو لم يتردد فى قتل ما يقدر بعشرة آلاف من سكان مدينة حماه وتقويض نصف المدينة بقنابل المدفعية الثقيلة فى عام 1982 لإخماد حركة الإخوان المسلمين المناوئة لحكمه العلوى، والتى قام أعضاؤها بقتل 50 طالبا من العلويين فى الأكاديمية العسكرية فى حلب، ثم حاولوا قتل الأسد نفسه بإلقاء قنبلتين يدويتين عليه فى عام 1980 (أبعد إحداهما بقدمه وارتمى حارسه الشخصى على الثانية فانفجرت فيه). لم يكن الأسد يحتمل أى اختلاف معه، ولكنه بحكم ثقافته فى حزب البعث العربى الاشتراكى كان شديد الإيمان بتوجه القومية العربية وبالعداء الشديد للصهيونية ولإسرائيل. وكغيره من نخبة 69 السلطوية فإنه وصل إلى الحكم مع جماعة صلاح جديد كوزير للدفاع، ثم ما لبث أن أطلق انقلابه الخاص فى عام 1970، وقام بتطهير صلاح جديد وجناحه اليسارى (صلاح البيطار ميشيل عفلق أمين الحافظ محمد عمران)، وظل قابضا على أدوات السلطة حتى وفاته فى عام2000، بعد أن عاصر أكثر أزمات الشرق الأوسط تعقيدا، من حرب أكتوبر 1973 إلى الحرب الأهلية فى لبنان إلى الغزو الإسرائيلى للبنان وأزمة منظمة التحرير إلى العقوبات الأمريكية ثم التحالف مع إيران وتبعاته. وإذا كان الجنرال محمد سياد برى، الذى قاد الانقلاب العسكرى فى الصومال بعيدا عن قلب الأحداث فى المنطقة العربية، فإنه كان أقرب ما يكون إلى أسلوب الحكم، الذى درج عليه جيله من نخبة 69.. ديكتاتورية الرجل الواحد والحزب الواحد وفلسفة «الاشتراكية العلمية» والتحالف مع الاتحاد السوفييتى لفترة ثم الانقلاب إلى صف الولاياتالمتحدة بعد الحرب مع إثيوبيا حول إقليم «الأوجادين»، حيث رحبت به أمريكا كثقل موازن فى القرن الأفريقى ضد أثيوبيا الماركسية. وكبقية نخبة 69 اتخذ من الاعتقالات السياسية والتعذيب الوحشى حتى الموت ومقاتلة العشائر القبلية المعارضة له، وانتخاب نفسه رئيسا لفترات رئاسية تمتد سبع سنوات كل مرة، أدوات للحكم حتى فقدت حكومته المركزية سلطتها لأمراء الحرب وسقط من الحكم قبل أن يتمكن من توريث ابنه «مصالح» الحكم، ثم هرب إلى نيجيريا بعد اندلاع الحرب الأهلية فى عام 1991، مخلفا وراءه تركة من عشرات آلاف من القتلى، ومن ضحايا الاضطهاد السياسى والقبلى، وحربا أهلية مازالت تلتهم الصومال بعد 18 عاما من هروبه من الحكم. وفى ليبيا مازال سجل العقيد معمر القذافى قائد «ثورة الفاتح من سبتمبر» 1969 (قبل شهر من انقلاب سياد برى) قيد الفحص التاريخى وإن كانت الملامح المشتركة مع ممارسات جيل انقلابات 1969 تتجاوز الحصر. تلك بعض ملامح جيل من ثوار العالم العربى الذين تأثروا ولاشك بحركة «الضباط الأحرار» فى مصر عام 1952. والحديث عن الظروف والملابسات والمؤثرات المحلية والإقليمية والدولية ما زال فى حاجة إلى تحقيق ومجلدات. وحتى ذلك الوقت سيظل السؤال الحائر عالقا: ماذا يبقى منهم للتاريخ؟