لم تمض عدة سنوات على وقائع حصار بغداد، حتى بايع العامة سنة 202 ه أحد أبناء البيت العباسى وهو ابراهيم بن المهدى لمناوئة المأمون وعناصره الفارسية، ورغم تغلب إبراهيم بن المهدى على بغداد ونواحيها؛ فإن المأمون سرعان ما قدم من بلاد فارس ليقضى على تلك الحركة الخطيرة. وحينما فر الخليفة المستعين من سامراء إلى بغداد هربا من سطوة القادة الأتراك، عازما على مقاومتهم اعتمادا على نائب بغداد (نائب الخليفة) محمد بن عبد الله بن طاهر الذى شرع فى تحصين بغداد، ولجأ إلى الاستعانة بالعيارين، وعاملهم لأول مرة معاملة الجند حيث ضمهم إلى سلاح المشاة والفرسان، وأعطاهم رواتبا منتظمة.
وعندما قامت العناصر التركية بحصار بغداد سنة 252ه مدة عام لإجبار المستعين على التنازل عن الخلافة، جرت كثير من الوقعات بين الطرفين مثل باب الشماسية التى «انهزم فيها أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البوارى (العيارين)»، كما أشار الطبرى فى الجزء التاسع من تاريخه.
ورغم الاستبسال البطولى للعيارين للحفاظ على حرمة عاصمتهم بغداد، فإنها تهاوت أمام جحافل العسكر التركى الذين أرغموا المستعين على التنازل عن الخلافة للمعتز.
كما ناصر العيارون سعى الخليفة المهتدى سنة 256 ه لنزع وصاية القادة الترك عليه، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وانتهت بمقتل المهتدى.
وعندما أسست العناصر الفارسية الدولة البويهية (نسبة إلى القائد على بن بويه الفارسى)، حاولت إحكام سيطرتها على بغداد ونواحى العراق، الا أن أحد العيارين ويدعى عمران بن شاهين تصدى لنفوذهم فى منطقة البطيحة الواقعة بين واسط والبصرة، وأستمر يدير شؤونها مدة أربعين عاما منذ 329 ه معتمدا على أعوانه من العيارين والشطار، ونجح فى إفشال كل محاولات السلطان معز الدولة البويهى لاستردادها فاضطر إلى الاعتراف به حاكما عليها.
ولم يتوان العيارون كذلك عن مهاجمة ممثلى السلطة البويهية وحلفائها من كبار التجار الذين دأبوا على ظلم الرعية خاصة فى أواخر عصرها الذى أتسم بتدهور أحواله، حيث ارتفع شأن أحد قادة العيارين ويدعى أبوعلى البرجمى الذى «أسرف فى نهب أموال التجار» الا أنه مع ذلك «كان فيه فتوة، وله مروءة، لم يعرض إلى امرأة، ولا إلى من يستسلم اليه». وبلغ نفوذ البرجمى حدا تراجعت معه سلطة الدولة البويهية مما دفع أهل حى الرصافة الواقعة شرقى بغداد إلى مطالبة خطيب مسجدها الجامع «إما أن تخطب للبرجمى، وإلا فلا تخطب لسلطان غيره». كما يذكر ابن الأثير فى حوادث سنة 425 ه.
وحينما سيطرت العناصر السلجوقية على مقاليد الخلافة العباسية فى بغداد، تصاعد دور العامة، وفى الصدارة منهم العيارين، فى مساندة الخلفاء العباسيين الذين حاولوا التخلص من السيطرة السلجوقية، ففى سنة 521 ه حاول عسكر السلطان محمود السلجوقى اقتحام بغداد، وحين علم الخليفة العباسى بذلك أمر بادخال العسكر فى السلاح، «وألبسوا الملاحين السلاح.. ورمى العيارون أنفسهم فى الماء» لمقاتلة عسكر السلطان الذين تراجعوا منهزمين عن بغداد.
وعندما قام السلطان مسعود السلجوقى بضرب الحصار على بغداد سنة 529 ه مستهدفا اخضاع الخليفة العباسى الراشد لنفوذه، ثار «العيارون ببغداد وسائر محالها.. وحصرهم السلطان نيفا وخمسين يوما فلم يظفر بهم» وعاد خائبا إلى مقره بهمذان فى فارس كما جاء فى الجزء الثانى من تاريخ ابن الوردى.
وعندما رفض الخليفة المقتضى بالله العباسى الاعتراف بالسلطان محمد بن محمود السلجوقى، ضرب الأخير حصارا حول بغداد سنة 552 ه لإجباره على ذلك، فتجلت بسالة العامة فى الدفاع عن بغداد حيث كان «صبيان بغداد (العيارون) يعبرون اليهم (الى العسكر السلجوقى) بالمقاليع وزراقات النار»، كما ألقوا بأنفسهم (فى الماء) وسبحوا وبأيديهم السيوف والمقاليع «فركبت المقاتلة (من السلاجقة) فى السفن تمنع الصبيان وكان يوما مشهورا». وحين صعد العسكر السلجوقى على سور بغداد لدخولها، فتح العامة الأبواب وتحدوهم قائلين «هذه الأبواب مفتحة فادخلوا منها، فلم يقدروا على أن يقربوها»، فانخذل عسكر السلطان وانسحبوا عن بغداد، كما ذكر ابن الجوزى فى المنتظم:ج 10.
وشهد العصر العباسى الأخير محاولة الخليفة الناصر لدين الله العباسى السيطرة على حركة الفتوة العيارية، وتجريدها من طوابعها الشعبية المتمردة، والحد من تصاعد مدها الجارف عن طريق إعادة تنظيمها، وفقا لتوجهاته السياسية، التى سعى من خلالها إلى اقامة علاقات قوية لجميع التيارات السياسية والدينية مثل التشيع والتصوف وأهل السنة، واحكام قبضته عليها، واستغلال صيت الفتوة المتنامى بين عامة المسلمين فى نشر نفوذه الأدبى والروحى ومن ثم السياسى فى أقطار العالم الإسلامى بعد انحسار نفوذ الخلافة عنها.
وقد شرع الخليفة الناصر اعادة تنظيم أسس وقواعد حركة الفتوة، وصبغها بطابع ارستقراطى (أى مرتبط بمصالح الطبقة العليا الحاكمة) وسمات صوفية، فاحتلت العامة (ومنهم العيارون بالطبع) المكانة الدنيا فى هرم هذا التنظيم بدعوى عدم اكتمال أهليتها، وان كان ذلك يرجع فى الأساس لمكانتهم الاجتماعية الوضيعة، كما حرص على محو كل أثر لطابع التعاون والمشاركة الجماعية الذى أتسمت به الفتوة العيارية، وأبعد تماما من تنظيمه الجديد قطاعا عريضا من العناصر التى كانت تنتمى إلى الطبقات الشعبية. ولكن لم يكتب لمشروع الخليفة الناصر النجاح المنشود على الصعيد الخارجى، لأنه فشل فى خلق روابط قوية بين سلطته وامراء أقاليم الأطراف، أما على الصعيد الداخلى فقد أخفق فى احتواء تنظيمات الفتوة العيارية، فلم تكف عناصرها عن ممارسة نشاطاتها فى نهب دور أصحاب المناصب العليا الذين أغتصبوا حقوق العامة، بل واغتيالهم إذا سنحت الفرص لذلك. ويمكن القول أن حركة العيارين قد فشلت فى احداث تحولات اجتماعية أو سياسية جذرية فى المجتمع البغدادى بسبب طابعها الإصلاحى الذى قلل من تأثيره موقف السلطة الحاكمة المعادى لها، والتى عمدت إلى استخدام الحملات الدعائية لتشويه صورتها عند العامة، أو استخدام العنف لتصفية تنظيماتها المختلفة. ومع ذلك فقد نجحت حركة الفتوة العيارية فى لفت الأنظار إلى سوء أوضاع العامة الاقتصادية والاجتماعية، واجبار السلطات الحاكمة على التخفيف من ظلم العامة فى بعض الأحيان.
كما تمكنت من مساندة الخلفاء العباسيين الذين تصدوا لتسلط العناصر الأجنبية على مؤسسة الخلافة، وحاضرتها بغداد والحفاظ على هيبتها، ومكانتها الرفيعة فى نفوس المسلمين.