تنسيق الشهادات الفنية 2025.. رابط التقديم لاختبارات معادلة كليات الحقوق وجدول الامتحانات    7 كليات وتخصصات جديدة.. تفاصيل المصروفات والتقديم بجامعة بورسعيد الأهلية 2025-2026    محللون اقتصاديون: توقعات متباينة لمعدل التضخم في يوليو وسط تأثيرات أسعار السجائر والسياسة النقدية    التصديري للملابس: 25% زيادة في صادرات القطاع بالنصف الأول من 2025    للمرة الثانية.. محافظ الدقهلية يفاجئ شركة المياه للتأكد من الاستجابة لشكاوى المواطنين    من بينها توفير الأسمدة الكيماوية.. الفشن الزراعية ببنى سويف تناقش توفير نواقص الزراعة للفلاحين    أسعار اللحوم بمحافظة مطروح اليوم الخميس 31-7- 2025.. الضأن ب 450 جنيه    رئيس هيئة الأوقاف يوجّه مديري المناطق بالحفاظ على ممتلكات الهيئة    إيران تطالب ترامب بتعويضات عن خسائر حرب ال12 يوما قبل استئناف مفاوضات النووي    لأول مرة.. وزير خارجية ألمانيا يتحدث عن إمكانية اعتراف بلاده بدولة فلسطين    ألمانيا تطالب ببدء عملية الاعتراف بالدولة الفلسطينية فورًا    بعد يوم واحد من زيارة الشيباني.. وزير الدفاع السوري يصل موسكو    عمرو ناصر: المنافسة في هجوم الزمالك صعبة    صفقة تبادلية تلوح في الأفق بين الزمالك والمصري    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص على طريق "دشلوط – الفرافرة"    صور الأقمار الصناعية تشير إلى تكاثر السحب المنخفضة والمتوسطة على مناطق متفرقة    مصدر بالسياحة والآثار ينفى تعرض لنش سياحى للغرق بمدينة الغردقة    تهريب ومخالفات وأحكام.. جهود أمن المنافذ 24 ساعة    إصابة عامل بحروق خطيرة إثر انفجار أسطوانة غاز داخل مطعم بقرية في الفيوم    ننشر حركة تنقلات ضباط المباحث بمراكز مديرية أمن قنا    رئيس منطقة سوهاج الأزهرية يبحث الاستعدادات لانطلاق امتحانات الدور الثانى    صرخة في سوق الرملة.. مشاجرة دامية تنتهي بمقتل فكهاني بالقليوبية    بالصور| أسامة منير وبشرى يشاركان في تشييع جنازة لطفي لبيب    محلل فلسطينى: من يشكك فى الدور المصرى فضحته مشاهد دخول شاحنات المساعدات إلى غزة    غدا.. قصور الثقافة تطلق الموسم الخامس من مهرجان صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    هل انقطاع الطمث يسبب الكبد الدهني؟    رد مثير من إمام عاشور بشأن أزمته مع الأهلي.. شوبير يكشف    تقارير تكشف موقف ريال مدريد من تجديد عقد فينيسيوس جونيور    يديعوت أحرونوت: نتنياهو يوجه الموساد للتفاهم مع خمس دول لاستيعاب أهالي غزة    ماذا يتضمن مشروع القانون في الكونجرس لتمويل تسليح أوكرانيا بأموال أوروبية؟    البابا تواضروس أمام ممثلي 44 دولة: مصر الدولة الوحيدة التي لديها عِلم باسمها    «الطفولة والأمومة» يعقد اجتماع اللجنة التيسيرية للمبادرة الوطنية لتمكين الفتيات «دوَي»    فيديو.. طارق الشناوي ينعى لطفي لبيب: اقرأوا له الفاتحة وادعوا له بالجنة    محمد رياض يكشف أسباب إلغاء ندوة محيي إسماعيل ب المهرجان القومي للمسرح    حرام أم حلال؟.. ما حكم شراء شقة ب التمويل العقاري؟    مانشستر يونايتد يفوز على بورنموث برباعية    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدّمت 23 مليونا و504 آلاف خدمة طبية مجانية خلال 15 يوما    استحداث عيادات متخصصة للأمراض الجلدية والكبد بمستشفيات جامعة القاهرة    محافظ الدقهلية يواصل جولاته المفاجئة ويتفقد المركز التكنولوجي بحي غرب المنصورة    الشيخ أحمد خليل: من اتُّهم زورا فليبشر فالله يدافع عنه    مواعيد مباريات الخميس 31 يوليو 2025.. برشلونة ودربي لندني والسوبر البرتغالي    طريقة عمل الشاورما بالفراخ، أحلى من الجاهزة    خالد جلال يرثي أخاه: رحل الناصح والراقي والمخلص ذو الهيبة.. والأب الذي لا يعوض    اليوم.. بدء الصمت الانتخابي بماراثون الشيوخ وغرامة 100 ألف جنيه للمخالفين    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    خلال زيارته لواشنطن.. وزير الخارجية يشارك في فعالية رفيعة المستوى بمعهد "أمريكا أولًا للسياسات"    رئيس قطاع المبيعات ب SN Automotive: نخطط لإنشاء 25 نقطة بيع ومراكز خدمة ما بعد البيع    الزمالك يواجه غزل المحلة وديًا اليوم    سعر الخضار والفواكه اليوم الخميس 31 يوليو 2025فى المنوفية    استعدادا لإطلاق «التأمين الشامل».. رئيس الرعاية الصحية يوجه باستكمال أعمال «البنية التحتية» بمطروح    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة والدين فى الوطن العربى
نشر في الشروق الجديد يوم 30 - 10 - 2012

عقب نجاح ثورات الربيع العربي، و صعود نجم التيار الاسلامي، حضرت العلاقة بين الدين والدولة في الوطن العربي بقوة،و في خضم المعارك السياسية التي لا تنتهي بين القوى والاحزاب والحركات السياسية المصرية، يغوص المفكر والفقيه الدستوري المستشار طارق البشري في" حالة مصر ما بعد الثورة" شارحا لنظام لا تزال ملامحه تتشكل، من خلال ورقة قدمها فى الندوة التى عقدها مركز دراسات الوحدة العربية عن "الدين والدولة فى الوطن العربى" التى عقدت خلال الفترة من 15 17 أكتوبر فى تونس، والتي تنشرها "الشروق"على حلقات



(4)


الحاصل أن الحركة الشعبية التى فجرت ثورة 25 يناير كانت صاحبة السهم الأول فى إسقاط نظام حسنى مبارك، بدأت يوم الثورة ونمت من حيث الحشود الشعبية على نحو بالغ السرعة، فوصلت إلى ما يقدر ببضعة عشر مليونا فى المدن الرئيسية والأقاليم، بما أظهر للعيان استحقاقها للوصف الثورى، تماسكا وانتظاما وحشودا وتصميما وتناميا فى كثافتها وفى مطالبها عن إسقاط النظام.

إلا أنها لم يكن لديها القيادات التنظيمية المؤسسية التى يمكن أن تحيل الحراك الثورى إلى قوة منظمة يتولد عنها ما يمكن أن يتولى السلطة أو يحل محل النخبة الحاكمة المزاحة. والأحزاب المعترف بها رسميا ضعيفة لم تعرف لها مساهمة كبيرة فى أشكال الثورة ولا فى تحريك معتبر للثائرين ولا تنظيم فعال لهم. وقد أشعل فتيل الثورة جماعات شبابية محدودة العدد، وكان الاندفاع التلقائى هو المَعين وهو ما تحولت به شرارة الإشعال إلى لهب أرق النظام السياسى القائم، وإن تحول الشرارة من إمكان إشعال سيجارة إلى استطاعة إشعال حريق مدمر لأبنية ومنشآت يتوقف على حجم الوقود المتاح، وكاد ألا يكون له وجود تنظيمى مؤثر إلا جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه وجود وإن رجح الآخرين إلا أنه لم يكن بالحجم ولا بالقدرة التى تجعله يتحكم فى مسار الحركة الثورية.

وكان ثمة قيادات فكرية وثقافية ثورية مشهود لها بالوطنية والمكافحة، بخاصة خلال السنوات الست السابقة منذ سنة 2005، وساهمت مساهمة ذات شأن وغير مشكوك فى أثرها المعتبر، وساهمت فى تهيئة الحالة الثورية التى انفجرت شعبيتها الكاسحة من 25 يناير حتى 10 فبراير، إلا أن هذه القيادات لم تكن ذات روابط تنظيمية قادرة على التحريك الشعبى المنظم بقرارات تتخذ وتعليمات حركية تتبع وأهداف تنفذ، فهى لم تكون قادرة على بلوغ الثورة هدفها وهى إحلال حكم جديد محل الحكم المزاح.

وكان ثمة حركات احتجاج شعبى وتحركات اجتماعية حاشدة، عرفها عمال المصالح فى الكثير من أقاليم مصر ومدنها وموظفى إدارات ومصالح وطوائف اجتماعية، وذلك مدة السنوات الست أو السبع السابقة، وهى يقدر عددها بالمئات من حركات التجمع والاحتجاج والاعتصام، وكانت تتراوح مطالبها من المطالب الاقتصادية المتعلقة بالأجور والعمالة، وبين المطالب المتعلقة بالحريات والإفراج عن المعتقلين، وبين المطالب الفئوية الخاصة بالمساواة، وكل ذلك نمت به ثقافة التجمع والخروج والاحتجاج حتى صارت منتشرة.

وقد أرهص ذلك للحدث الكبير، ولكن كل هذه الحركات عندما حدثت كل منها إنما حدثت بشكل متناثر ومعزول بعضها عن بعض، ولم تستطع الأحزاب القائمة أن ترتبط بها وأن تشملها بروابط تنظيمية تمكن من تحول هذا الحراك الاقتصادى الاجتماعى إلى حراك سياسى لتنظيمات سياسية محدودة ولتتأهل به للحلول محل النظام الساقط فى السلطة.

لذلك فإن هذه الثورة الجماهيرية الحاشدة التى فاجأت القاصى والدانى وفاجأت صانعيها أنفسهم بحجمها الهائل وبتناميها المطرد وبتحديها إرادة حسنى مبارك ووعيها المصمم على هدف الإطاحة به وبنظامه، وبذكائها الجماعى فى اكتشاف كل محاولات التضليل وزيف الوعود غير الحقيقية، وبقدرتها على تصعيد الموقف السياسى والتمسك بأهدافها، وبحسها السلمى ومحافظتها على السلمية فى مواجهة عنف السلطة التى مارست ضدها القتل والتجريح، وبتمييزها بين العدو والصديق أثناء الحراك الثورى، بكل ذلك فهى لم تكن ذات قيادة مشتركة تعبر عنها وتتحدث باسمها، سواء من تنظيم واحد أو من عدد متحالف من التنظيمات.

ولعل ذلك كان من توفيق الله سبحانه لهذه الحركة فى مرحلتها الأولى، لأن عدم تبلور القيادة فى أشخاص معينين وفى زعامات وتشكيلات معروفة وسبق التعامل معها، وعدم وجود من يملك من هؤلاء اتخاذ القرار المسموع بالنسبة للجماهير، إن ذلك ساهم فى شل قدرة الحكومة على أن تتصل بمن تتشخص فيهم الحركة والثورة، للتعامل معهم بالقمع أو بالعزل عن القواعد أو بالتضليل بالشائعات أو إثارة الفتن بين بعضهم البعض.

وقد عُرف أن الحكومة بمستويات عالية تصل إلى رئيس المخابرات العامة الذى عين وقتها نائبا لرئيس الجمهورية حاول الاتصال والحديث ببعض من ظن أنهم ممثلو الحركة الثورية ولم تنجح مساعيه، وكان أحد أسباب ذلك أنه لم يكن لفرد أو لعدة أفراد ولا لجماعة معينة أن تدعى أنها تملك السيطرة على الحشود الثائرة أو التأثير الفعال فى حركتها.

ويبدو أن ما ساهم فى إنجاح الثورة فى إزاحة نظام الحكم القائم رغم غياب القيادات والتنظيمات القادرة على السيطرة على حركة الجماهير هو هذه القدرة التى لدى الشعوب فى أن تندرج فى الأزمات فى حالة شعورية واحدة ينجم عنها موقف واحد أو مواقف متجانسة ،سيما إذا كانت لا تعرف فروقا ثقافية عامة آتية من الاختلافات الطائفية أو القبلية أو الاقليمية.

لكن كل هذا شىء، أما الشىء الآخر فهو ما يتعلق بما يأتى بعد إنجاز ما اجتمع الناس عليه من إسقاط النظام السياسى والنظر فيمن يحل محله وما هى السياسات التى يتعين اتخاذها، كما أن السلطة السياسية فى الدولة هى تشكيل مؤسسى يجمع إرادات وينظمها ويصدر قرارات ويدفع أفعالا من خلال جماعات بشرية منظمة، وثمة قنوات لتجميع المعلومات وتشكيلات لدراسة الواقع الجارى ونظم قانونية أو عرفية لدراستها ثم إصدار القرارات بشأنها، وتوزيع مهام العمل والتنفيذ والثورة الشعبية بغيتها فى النهاية سلطة الدولة والإمساك بمؤسسة الحكم، ولا يستقيم تحقيق هذا الأمر مع وجود فراغ مؤسسى، لأن جهاز الدولة لا يحتمل الفراغ التنظيمى ولابد لمن يمسك به أن يكون له كيان تنظيمى، وهذا بالضبط ما لم يكن الفعل الثورى الحاصل يملك منه تنظيمات تمثل مجتمعة أو منفردة هذا الشمول الشعبى الحادث، وإن أقوى التنظيمات الشعبية الموجودة وقتها لم يكن يملك من الحجم التنظيمى الفعال ما يجعلها قادرة على ذلك.

لذلك تقدم الجيش لملء هذا الفراغ، والجيش مؤسسة نظامية تخضع لشرعية الدولة القائمة ولقراراتها، وهى فى التحليل النهائى تمثل عمود الارتكاز النهائى لأية دولة، وحركة الجيش الحاصلة أثناء الثورة كانت فى بدايتها حركة شرعية بالنسبة لنظام حسنى مبارك، فإن حكومة مبارك هى من استدعى القوات المسلحة للنزول فى الشوارع لمواجهة الحركة الثورية بعد أن عجزت الشرطة عن هذه المواجهة، وبعد أن نزلت القوات المسلحة إلى الشوارع وسيطرت على المدن الرئيسية بقرار شرعى صادر لها من رئيس الجمهورية حسنى مبارك، لكنها لم تنفذ المهمة المطلوبة منها، وامتنعت عن مواجهة الجماهير بالعنف، ولا يوجد فى الثقافة المصرية الشعبية ما يذكر أن القوات المسلحة المصرية واجهت جماهير المصريين بالعنف، ونتج عن ذلك أن الجماهير الثائرة السلمية استقبلت المصفحات بمشاعر الود منذ نزولها للشوارع، ولم يكن انضمام القوات المسلحة إلى الحركة الشعبية يستدعى تحركا مضادا لشرعية الدولة القائمة لأنها هى من استدعت هذه القوات للحركة، إنما كان هذا الانضمام يأتى بموجب قرار من قيادة الجيش المتحرك بالانضمام إلى الثورة. وهذا ما حدث فى 10 فبراير عندما اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة القائد العام وفى غياب قائده الأعلى حسنى مبارك وأصدر البيان رقم واحد عن حرصه على الشعب المصرى ومكتسباته، وفي اليوم التالى أعلن تنحى حسنى مبارك عن الرئاسة فى 11 فبراير.

وسدت القوات المسلحة الفراغ الحادث فى الحركة الثورية من الناحية التنظيمية، لأنه أعلن تحقيق فعل الإزاحة للنظام وسيطر على الحركة بوصفه المؤسسى، وصار شريكا فى الثورة لأنه وفر بتشكله المؤسسى ما كانت القوى الثورية تفتقده وقتها.



(5)

سبقت الإشارة إلى أن ثمة قاعدتين سياسيتين شبه مطردتين، وهما: أن من يحقق الإطاحة بالنظام القديم هو من يكون مرشحا للحكم من بعده، وإن العبرة فى ذلك بالقوى السياسية المنظمة التى تكون لها تشكيلات قادرة على إصدار القرارات وعلى الفعل التنفيذى لها، وبهذين الأساسين يمكن النظر فى أحداث ما بعد الإطاحة بنظام مبارك، لان المشهد السياسى الذى تتابعت حلقاته من بعد الإطاحة يدور حول تبين ما هى القوة أو القوى السياسية التى ستتولى الحكم منفردة أو بالمشاركة.

القوة المنظمة الأولى هى قوة جهاز الدولة المصرى، ويتعين الإشارة إلى أن هذا الجهاز كانت له مشاركاته فيما عرفت مصر من ثورات فى تاريخها المعاصر، وأولها ثورة المصريين بين 1800 و1805، وكانت مشاركة بين الحركة الشعبية تحت قيادة أزهريين وتجاريين وبين فصائل من القوة العسكرية متمثلة فى محمد على. ثم ثورة 1881 1882 التى قامت مشاركة بين القوات المسلحة برئاسة أحمد عرابى وبين جماهير مصرية عبر عنها ما عرف بالحزب الوطنى وقتها، وثورة 1919 لم تشارك فيها المؤسسة العسكرية لأن كتلتها الأساسية كانت موجودة فى السودان منذ أعوام 1896 1899، وبقيت هناك حتى خروج الجيش المصرى من السودان بإقصاء من الانجليز فى سنة 1924، ولكن جهاز الدولة المصرى المدنى شارك فى هذه الثورة بإضراب شامل له أفقد الانجليز القدرة على السيطرة على حكومة البلاد فسارعوا بالاعتراف باستقلالها فى 1922م. ثم ثورة 25 يناير الأخيرة التى بدأت بفعل شعبى ثورى ثم حسمت وقائعها حركة القوات المسلحة فى 10 فبراير، وهى ثورة هدفها الأساسى بناء التشكيلات الديمقراطية الحقيقية النزيهة المعبرة عن الشعب المصرى، فهى شعبية فى بدء اشتعالها وفى هدفها وشاركت فيها القوات المسلحة معبرة عن جهاز الدولة المصرى.

وجهاز الدولة فيما نعرف يقوم بنوعين من المؤسسات حسب أصل تشكيله الحديث، نوع يتصل بالشأن السياسى من حيث تقدير المواقف واتخاذ القرارات، ويتمثل أساسا فى رئاسة الجمهورية والوزراء وفى المجال النيابية. والنوع الثانى يقوم فى الأساس بوظائف مهنية بعيدة نسبيا عن التصدى المباشر للعمل السياسى، وهما فى الأساس القوات المسلحة والقضاء، وقد قام حسنى مبارك ونظامه بإضعاف أجهزة الدولة المتعلقة بغير حفظ أمن النظام الذى يرأسه وعمل على تفكيها، لأنها كانت جميعها قد بُنيت فى عهد جمال عبدالناصر على أساس شمولية إدارتها للمجتمع المصرى بالنسبة لإدارة الاقتصاد والخدمات والمرافق وغيرها.

وكان حرص نظام مبارك على تغيير هذه الوظائف ونقلها إلى النشاط الخاص لصالح النخبة الحاكمة الطفيلية، كان مقتضاه تفكيك روابط أجهزة الدولة، كما أن مقتضى السيطرة الفردية للحاكم على الدولة توجب على الرئيس الفرد أن يفكك كل ما هو دونه من مؤسسات العمل حتى لا تكون عنصر ضغط على إرادته الطليقة ولتكون أسلس قيادا له. وذلك فيما عدا طبعا أجهزة الأمن التى تصير تحت إشرافه المباشر هو والنخبة المرتبطة به.

لذلك صارت مؤسسات الدولة السياسية مفككة وضعيفة، والمؤسسات غير السياسية بعيدة عن النشاط السياسى، وكان أحد وسائل التعامل معها هو شغلها بمشروعات وأعمال بعيدة عن تخصصها المهنى الوظيفى، فلما انهارت دولة حسنى مبارك وأطيح معها بالمؤسسات السياسية، سواء الرئاسة أو الوزارة أو المجال النيابية، بقيت المؤسسات غير السياسية أصلا وهى الجيش والقضاء، وفى خلال أزمة الحكم التى تولدت مع الحراك الثورى تحول الجيش بقيادته المهنية التقليدية إلى العمل السياسى سدا للفراغ السياسى الحاصل كما سبقت الإشارة، وبدأنا نلمح فى القضاء نزوعا إلى التحرك السياسى من خلال الدعاوى المرفوعة أمامه.

ويلاحظ أن قيادة القوات المسلحة التى تحركت فى هذا الشأن السياسى كانت قيادة مهنية بحتة لم تتمرس فى أساليب العمل السياسى ولم تتراكم لديها خبرات سابقة فيه، لأنه كان ممنوعا عليها بحزم وصرامة الاشتباك فى العمل السياسى ولو بإبداء الآراء فيه، وكانت تتكون من قيادات عسكرية صرفت حياتها كلها فى العمل المهني بعيدا عن الخوض فى الشأن السياسى، وبلغت فى مهنتها أقصى ما يصل إليه الطموح المهنى من رتب وظيفية وفى آخر العمر المهنى، وألقيت عليهم المهمة السياسية مع الثورة بغير خبرة ولا وقت لاكتساب الخبرات فى مرحلة عمرية يصعب فيها أن يخوض الإنسان فى التجربة والخطأ ليتعلم ما لم يسبق له الاتصال به من معارض، ومن هنا نلحظ ضعف الأداء السياسى الواضح لهذه المؤسسة عندما استلمت السلطة بغير إعداد مسبق حلا لأزمة وطنية حلت.



(6)

أما القوة المنظمة الثانية فهى جماعة الإخوان المسلمين، وهى تمثل القوى المنظمة الأساسية فى النشاط السياسى الأهلى غير الحكومى، لما لها من أبنية تنظيمية تعتبر الأقوى فى مجال النشاط الأهلى فى مصر، من حيث العدد ودرجة الانضباط التنظيمى والاتساق الثقافى السائد بين صفوفها، وقد ساهمت الجماعة فى العمل الشعبى الذى شكل الجسم الأساسى للثورة الشعبية، وهى إن لم تكن من أطلق شرارات الثورة والدعوة بالتحريك لها، إلا أنها كانت بعد ذلك ذات حراك شعبى دار بدرجة من الانضباط ينبئ عنها سلوك يجمع بين إنكار الذات بعدم الإشارة إلى نشاطهم منسوبا للجماعة مع الاستعداد لتقديم التضحيات، فكان تشكلهم التنظيمى خلالها يفوق أى تشكل تنظيمى لأية قوة حزبية مفردة أو جماعة سياسية أخرى.

ولكن جماعة الإخوان المسلمين فى ثورة 25 يناير، لم تكن كما كان الوفد مثلا فى ثورة 1919م كانت قوة سياسية فعالة بما لا يقارن معها فصيل سياسى أهلى آخر، ولكنها ليست قوة حاكمة، أى ليس لها من درجة القوة ما يمكنها من أن تقود الثورة أو يكون لها القرار الحاسم فى مسيرتها وفى تزكية أى من المواقف السياسية التى تجد. هى ليست مثل وفد 1919 فى مصر، ولا مثل حزب المؤتمر فى الهند أو حزب الكومنتانج أو الحزب الشيوعى فى الصين بالنسبة للثورة التى حدثت فى كل من هذين البلدين. فهى ليست قائدة وليست ذات أغلبية حاكمة، وإن كانت ذات أغلبية مؤثرة لابد أن يعمل حسابها، وهى إن استطاعت من بعد أن تصل إلى الحكم فلابد أن يكون ذلك بمشاركة غيرها لضمان استقرار هذا الوصول.

وفى هذا الصدد ينبغي استدعاء الخبرة التاريخية لمصر، وإدراك ما يعتبر من الخصائص من هذه الخبرة. فإن وفد 1919 بوصفه تنظيما شعبيا أهليا استطاع أن يكسب من مقاعد مجلس النواب فى الانتخابات الأولى التى جرت بعد الثورة بأربع سنوات فى نهاية 1923، وفقا لدستور ونظام انتخابات أعده أعداء الوفد وقتها سواء الملك أو الأحرار الدستوريين، استطاع الوفد أن يكسب أكثر من 90٪ من مقاعد هذا المجلس. ومع ذلك لم تستمر حكومة الوفد فى الحكم أكثر من عشرة شهور استقالت بعهدا وحل مجلس النواب، وخلال ثلاثين سنة من عمر هذا الدستور فى مصر حتى 1952، جرت عشرة انتخابات منها ستة انتخابات نزيهة حصل الوفد على الأغلبية فيها جميعا بما لا يقل عن 70٪ التى حصل عليها فى 1950، ومع ذلك لم يتح له الحكم طول الثلاثين سنة إلا نحو سبع سنين وشهور ولا تزيد أقصى مدة متصلة قضاها فى كل مرة عن سنتين.

وهذا مثال أرجو به أن أوضح أن مراكز القوى السياسية فى المجتمع ليست فقط تتمثل فى الأغلبية الشعبية ولا فى التنظيم الحزبى الشعبى الواسع المنضبط، وإن القوة السياسية الفعالة المؤثرة، قد تكون مرتكزة على الأجهزة الدولة وتستمد عنفوانها منها، وقد تكون متمركزة فى وسائل الإعلام وأجهزته، بما يهيئ لها تأثيرا كبيرا على صياغة الرأى العام وإبراز مسائل سياسية يفيدها إثارتها أكثر من غيرها مع تشكيل وجها النظر لدى الأغلبية غير المعنية بالشئون السياسية وبما يرتب ردود فعل تلقائية سابقة التجهيز، وقد تكون هذه القوة السياسية متمركزة فى رجال الأعمال بما لديهم من تأثير على جمهور مرتبط بأعمالهم، فضلا عما يوجهون إليه من فوائض دخولهم ما يدعم أنشطة مؤثرة فى العمل السياسى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.