ذهب الفريقان إلى أرض الميدان ، اشتبكا بعد تشابك ، و تقاتلا بعد تكاتف ، و انتحرا بعد تلاحم ، في أسوأ مليونية عرفتها مصر بعد الثورة0 لقد كانت دون مبالغة جمعة السباحة في نهر الجنون ، حيث دارت رحى الحرب العبثية ، و سالت دماء هدرا ، ليخرج الكل خاسرا ، بينما الكاسب الوحيد بقي بعيدا يراقب الغضب الماجن من طرفي الصراع و يقهقه على خيبة خصومه ، أو من يفترض أنهم خصومه0
إن جثث شهداء الثورة النبيلة ديست بأقدام المتناحرين المنتحرين أول أمس ، و غيبت حقوقهم في القصاص العادل في دروب " داحس و الغبراء" جديدة ومزيدة و منقحة ، حين التقى الجمعان متصادمين متقاتلين ، و حمي الوطيس و ارتفعت أصوات القتال ، بينما القضية الأساسية توارت و تلاشت في الخلفية0
إن مصر كلها انتفضت و خرجت يدا واحدة حين لدغتها أحكام مبارك و العادلي و بقية المتهمين بقتل الثوار ، و امتلأ الميدان مرة أخرى بالملايين الغاضبة من هذه الاستهانة بالدم ، و عادت صيحة " إيد واحدة في كل مكان" و كان المتصور أنه مع هذه البراءات الغزيرة للمتهمين في أيقونة الثورة و قدس أقداسها " موقعة الجمل" أن يكون الانتفاض أشد و الغضب أعمق و أوضح والاحتشاد في الميدان أكثر إصرارا على محاكمات ثورية 0
غير أن هذا كله تراجع و توارى ، و تحول الميدان إلى ساحة للاحتراب الداخلي بين شركائه و أهله ، و بدا و كأن ترتيبا جديدا للأولويات حدث ، و لم تعد الرحلة إلى الميدان حجا إلى الثورة ، بل سياحة انتخابية و حزبية ، الأمر الذي جعل الجمعة الماضية تمر دون أن نسمع هتافا يذكر الشهداء و المتلاعبين بالعدالة لتضييع حقوقهم 0
و الحاصل أن اللدد في الخصومة استبد بالجميع فلم يعد آحد يرى أبعد من قدميه ، ليفوز في نهاية المطاف خصوم الثورة و كارهوها ممن عادوا يحتلون الفضاء الآن و يعلمون الناس الوطنية و يفتون في مصالح البلاد و العباد ، متدثرين بعباءات العقلاء الحكماء ، بينما أصحاب الثورة يمارسون الجنون و يرقصون رقصة الانتحار على أرضية الميادين .
ولقد قدم هؤلاء ( الجميع) خدمة العمر لفلول مبارك و نجوم موقعة الجمل ، حيث سكت الكلام عنها ، و أصبح لا صوت يعلو فوق صوت معركة ميدان التحرير الأخيرة ، ليهنأ العائدون من طرة إلى بيوتهم الفخيمة بمشاهدة ممتعة لصراع الديوك في الميدان ، و ربما يبرقون إليهم " شكرا على حسن تعاونكم"0
ومادام ذلك كذلك فليس من حق أحد أن يتحدث عن أصول و " ماينبغيات" لأن الكل متورط في ممارسة المصالح الضيقة عيانا بيانا ، فخلف الشعارات الكبيرة تختبئ أغراض صغيرة ، جعلت من النائب العام الذي توحدت الحناجر يوما على الهتاف برحيله شهيدا من شهداء الثورة ، و دفعت البعض ليدافع عن بقائه بهمة فاقت همته في المطالبة بالقصاص للشهداء 0
و أحسب أن شرخا مخيفا حدث بهذه المليونية المشينة في جدار الوطن ، يتطلب التحرك فورا من أصحاب العقول و الضمائر لترميمه و منعه من الاتساع قبل أن ينهار البناء فوق رؤوس الجميع 0