القاهرة فى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فترة البدايات فى علم الآثار، فترة وإن كانت الجهود الأساسية فيها للأجانب إلا أنها شهدت جهودا مصرية لازمت البناء وأرست دعائمه، هذا نفس ما شهدته مصر فى إرساء معالم نهضتها القومية فى مختلف المجالات، فى الأدب والشعر، فى الموسيقى والغناء، فى الفنون الجميلة، فى مؤسسات التعليم والبحث، وقبل ذلك كله فى مجال النهضة الوطنية، ففى القرن التاسع عشر نبغ من بين المصريين اثنان من علماء الآثار، أحمد كمال فى مجال الآثار المصرية القديمة أو علم المصريات، ورجلنا الذى نتحدث عنه اليوم فى مجال الآثار الإسلامية، على بهجت.. كلاهما كان له دوره البارز فى الحياة المصرية فى سنوات إرساء دعائم النهضة الجديدة التى جاءت كتحدً للاحتلال البريطانى لمصر. فمن هو على بهجت؟ على بهجت سليل عائلات تركية الأصل من ناحية الأم والأب، أبوه محمود بهجت وأمه زهرة محمود أغا، وهما من أبناء العائلات التى استوطنت فى مصر خلال عصر الاحتلال العثمانى وحكم أسرة محمد على وتمصرت مع مرور الزمن، وأصبح الانتماء الأساسى لهذه العائلات إلى الوطن الجديد مصر، ورغم اعتزازهم بأصولهم التركية والچركسية فقد كان من المعتاد أن يذوب الجيل الثانى أو الثالث فى المحيط المصرى، وهذا ما حدث مع على بهجت. ولد على بهجت عام 1858 فى قرية بهاء العجوز بمديرية بنى سويف، وتنقل فى سنوات التعليم بين المدرسة الناصرية ثم المدرسة التجهيزية، وأمضى سنتين فى مدرسة المهندسخانه ومنها إلى مدرسة الألسن عند إنشائها والتى أهلته لوظيفة مترجم بالمدرسة التجهيزية عام 1882، وبعد عشر سنوات أصبح مفتشا فى المدارس الابتدائية التابعة للأوقاف ثم رئيسا لإدارة الترجمة بنظارة المعارف ومن هنا بدأ مسار حياته يتغير. اهتم على بهجت منذ تخرجه بالآثار فعمل مع المعهد الفرنسى للآثار الشرقية فى حل كتابات النقوش العربية والمخطوطات، وقد وصل إلى هذا العمل بمساعدة يعقوب أرتين باشا الذى كان وكيلا للمعارف ومهتما بالآثار فى ذات الوقت، وهكذا وجد على بهجت نفسه فى البيئة التى التقت مع ميوله، فعمل مع البعثة الفرنسية خمسة عشر عاما بنجاح تام يساعده على ذلك درايته باللغات، فقد كان يعرف غير العربية الفرنسية والألمانية والتركية ثم الإنجليزية، وأتاح له عمله مع بعثة الآثار الفرنسية الاحتكاك ببعض من أشهر علماء الآثار الإسلامية فى ذلك الوقت والتتلمذ على أيديهم، وفى مقدمة هؤلاء الأثرى الكبير كازانوفا. وظل على بهجت موزعا بين طريقين، طريق العمل الحكومى الذى يلتقى بدراسته، وطريق الحقل الأثرى الذى ينبع من ميوله واستعداده إلى أن توحد المسار فى مطلع عام 1900. لقد كانت لعلى بهجت ميوله الوطنية المعادية للإنجليز، لذلك فقد اصطدم خلال عمله فى نظارة المعارف بمستشارها الإنجليزى دنلوب، وكانت الحركة الوطنية تعتبر الرجل من أعدى أعداء مصر ومن المحاربين لنهضتها، وهاجم على بهجت المستشار الإنجليزى هجوما لا هوادة فيه على صفحات جريدة المؤيد، ما ترتب عليه موقف متوتر فى نظارة المعارف دفع على بهجت إلى التفكير فى الاستقالة من عمله. لكن فخرى باشا ناظر المعارف آن ذاك ووكيلها يعقوب أرتين عملا على نقله إلى إدارة حفظ الآثار العربية، وصدر بذلك قرار فى 14 يناير سنة 1900، وبذلك أصبح على بهجت موجودا فى الحقل الأثرى الرسمى والعلمى معا، فانطلق يرسى دعائم النهضة المصرية فى مجال الآثار الإسلامية ويسعى من أجل أن يجعل من تطلعاته فى الحقل الأثرى حقائق واقعة. ويظهر نشاطه العلمى واضحا فى لجنة حفظ الآثار العربية والتى كان عضوا بارزا فيها؛ فلا يخلو محضر من محاضر اجتماعاتها من رأى له أو تعليق فى أمر من أمور الآثار الإسلامية فى مصر، وهو كذلك عضو بارز فى المجمع العلمى المصرى منذ يناير سنة 1900، يشارك فى جلساته ويسهم فى نشر مطبوعاته المهمة إلى أن وصل لمنصب نائب رئيس المجمع عام 1923، فضلا عن ذلك فهو أحد المؤسسين للجامعة المصرية، ومن أبرز المحاضرين فيها، والمشاركين فى إدارتها حتى أصبح وكيلا لها قبل أن تتحول إلى جامعة حكومية رسمية. وإسهامات على بهجت فى حقل الآثار الإسلامية والقبطية عديدة تضعه على رأس علماء الآثار فى مصر، بل وبين قائمة العلماء المبرزين على مستوى العالم أجمع فى هذا المجال. لقد أرسى على بهجت بكشوفه الأثرية وحفائره التى امتدت من شمال البلاد إلى جنوبها دور مصر كدولة منقِّبة عن الآثار الإسلامية لها حضارتها وبعثتها الأثرية. وكان من إسهامه البارز فى مجال الآثار الإسلامية ذلك الدور الذى لعبه فى متحف الفن الإسلامى، فقد شارك فى تأسيس المتحف القائم الآن فى ميدان باب الخلق بالقاهرة وشغل منصب وكيل المتحف منذ عام 1902، ثم أصبح مديرا له منذ عام 1915 حتى وفاته فى سنة 1924. وخلال عمله بمتحف الفن الإسلامى نجح فى أن يبرز دور المتحف كمنشأة لها حفائرها، وعن طريق ذلك أمد متحف الفن الإسلامى بالقطع الأثرية المتنوعة التى شكلت قوام مجموعته الكبيرة، كما عنى عناية خاصة بأن يكون للمتحف السيطرة على التلال الأثرية بالقاهرة القديمة حتى لا يتسرب ما يعثر عليه بها من آثار إلى أيدى التجار، وكانت للرجل كذلك جهوده فى الحفاظ على الآثار الإسلامية القائمة والتى بدأ الزحف العمرانى فى المدن يهددها، فسعى إلى حمايتها حفاظا على معالم حضارتنا فى العصر الإسلامى. ورغم الجهود المتنوعة لعلى بهجت يبقى كشفه لأطلال مدينة الفسطاط القديمة الأهم من بين أعماله فى المجال الأثرى، حيث اكتشف على بهجت فى أطلال المدينة القديمة مبانى يعود أقدمها إلى القرن الرابع الهجرى وأحدثها إلى القرنين السادس والسابع، هذا بالإضافة للآثار المتنوعة التى تشكل حاليا مجموعة كبرى من مجموعات متحف الفن الإسلامى بالقاهرة. وإلى الشرق من المدينة اكتشف على بهجت بقايا السور الذى شيده صلاح الدين الأيوبى فى القرن السادس الهجرى. وترجع أهمية كشوف الفسطاط إلى أنها أول عاصمة لمصر فى العصر الإسلامى، وقد قال عنها المؤرخ تقى الدين المقريزى فى خططه المعروفة بكتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار فى أوائل القرن التاسع الهجرى»: «أعلم أن فسطاط مصر اختط فى الإسلام بعدما فتحت أرض مصر وصارت دار إسلام، وقد كانت بيد الروم وحين اختط المسلمون الفسطاط انتقل كرسى المملكة من مدينة الإسكندرية وصار من حينئذ الفسطاط دار إمارة ينزل به أمراء مصر، فلم يزل على ذلك حتى بُنى العسكر بظاهر الفسطاط، فلما أنشأ الأمير أحمد بن طولون القطائع بجانب العسكر سكن فيها واتخذها الأمراء من بعده منزلا حتى قدمت عساكر الإمام المعز لدين الله الفاطمى مع كاتبه جوهر القائد، فبنى القاهرة وصارت دار خلافة، واستمر سكن الرعية بالفسطاط، وبلغ من وفور العمارة وكثرة الخلائق ما أربى على عامة مدن المعمور حاشا بغداد، ومازال على ذلك حتى نزل ملك الفرنج بجموعه الكثيرة على بركة الحبش يريد الاستيلاء على مملكة مصر فعجز الوزير شاور السعدى عن حفظ البلدين معا، فأمر الناس بإخلاء مدينة الفسطاط وأمر شاور فألقى العبيد النار فى الفسطاط، فلم تزل به بضعة وخمسين يوما حتى احترقت أكثر مساكنه، فلما رحل ملك الفرنج عن القاهرة، تراجع الناس إلى الفسطاط ورموا بعضه، ولم يزل فى نقص وخراب إلى يومنا هذا. وقد صار الفسطاط يعرف فى زماننا بمدينة مصر». وإذا كان اكتشاف على بهجت لأطلال مدينة الفسطاط القديمة هو أهم كشوفه الأثرية، فإن أطرف هذه الكشوف هو عقد شروط زواج القائد الفرنسى عبدالله جاك مينو بزبيدة الرشيدية. لقد رحل على بهجت عن عالمنا بعد حياة كلها عمل وسعى من أجل مصر وآثارها حتى توفى بين كتبه فى يوم 27 مارس سنة 1924. لقد كان من تلك الشخصيات الجامعة، ومن هنا كان العطاء كبيرا والأثر كبيرا، أثر يعتز به علم الآثار وعطاء يشكل ذخرا لكل من تعنيه حضارة الشرق.