«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أطفال الشوارع.. نماذج بشرية
نشر في الشروق الجديد يوم 22 - 12 - 2011

فى 1951 كتب الناقد الكبير محمد مندور كتابا مهما تحت عنوان: «نماذج بشرية» عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، متضمنا أربعة عشر نموذجا بشريا. يتناول فى أحداها قضية أطفال الشوارع، من خلال عرض حكاية البطل «جفروش» فى رائعة فيكتور هوجو «البؤساء». وبعيدا عن إثارة الجدل التى تظهر بين الحين والآخر، حول اتهامات بنقل أجزاء فى الكتاب من العالم الفرنسى جون كالفيه، يعد هذا الكتاب من العلامات المهمة التى تساهم فى تغيير ذهننا عن أطفال الشوارع، ونظرتنا لهم باعتبارهم مجرمين منذ النشأة.

وهى نظرة استعلائية، لا تأخذ إلا جانبا واحدا من الصورة. بالطبع، هناك مجرمون ولصوص يخرجون من أطفال الشوارع، ولكن أليس مسئولا عن هذا بالدرجة الأولى المجتمع بمسئوليه وناسه؟، الذين يهملون هؤلاء الأطفال ومشاعرهم، فنحسبهم فى خانة اللصوص دون أن ندرى أنها كارثة تنتج من مجتمع فاسد طاغ، الكراسى فيه أهم من الإنسان.

يسوق الطغاة هذه المبررات حول أطفال الشوارع، ليجدوا مبررا لقتل أطفال محمد محمود وقصر العينى والشيخ ريحان.

وفى السطور التالية ننشر أحد نصوص الكتاب «جفروش»، وهو طفل باريس المشرد فى الشوارع، الذى اندس فى إحدى الثورات الفرنسية بين الصفوف الغاضبة الصاخبة، فدخل مستودعا للأسلحة وسرق منه «طبنجة» وجد أنها بدون زناد، فتركها جانبا. كان يحمس المقاتلين الثائرين، ويتغنى معهم بالنشيد الفرنسى الوطنى، يتنقل بين صفوفهم، ويحثهم على القتال، ويقيم معهم الحواجز التى تحميهم. ويتركهم حينا ليتحول للأزقة، يحطم مصابيحها بالحجارة، ويجد حمّالا ثملا يسوق عربة فيأخذها ويسوقها مرسلا ضجة تلفت نظر البوليس، فيدفعها بين أرجلهم ويهرب.

نقدم هذا النص البديع للراحل والمبدع الكبير محمد مندور حتى يفهم المسئولون والناس، لعلهم يندمون على قتل أرواح أطفال الشوارع.


جفروش Gavroche

للكاتب الإيطالى المعروف بيراندللو Pirandello رواية مسرحية هى «ست شخصيات تبحث عن مؤلف يبرزها إلى الوجود»، وهذا هو معنى الخلق فى الأدب. ولكم من شخصية لا تزال مبعثرة غامضة حائرة، حتى يتاح لها مؤلف يجمع أشتاتها ويوضح معالمها ويدعم حياتها، فإذا هى أبقى على الزمن من البشر، وإذا بها تجتاز الأجيال مستقلة الوجود فى مأمن من الفناء، لأنها أعمق فى الحياة فى كل حى، وأصدق دلالة من كل واقع.

ولقد يبدو غريبا أن نترك النماذج المشهورة كدون كيشوت وهاملت وفوست مثلا، لنبدأ بجفروش. وجفروش طفل فى الثالثة عشرة من عمره يظهر ويختفى بعد أن تبدأ رواية «البؤساء» لهيجو وقبل أن تنتهى، فلا هو بطل الرواية ولا هو مدارها، ولكنى رغم ذلك أحب هذا الطفل وأفضله على الرجال، حتى لقد أقعدنى المرض أياما فلم أجد جليسا تستريح إليه النفس خيرا منه. ولقد سئمت منطق البشر وأصبحت أرثى لذلك الفليسوف الجليل أفلاطون الذى غذى شبابى بما فى الخير والحق من جمال. وما أدرى أضل رجلنا عندما زعم أن النفوس لا يمكن إلا أن تعشق الخير والحق إن بصرت بهما، أم يخادع الناس أنفسهم ويخادعون الغير عندما يتحدثون عن الخير والحق؟ ومن يدرينا؟ قد لا يكون هذا ولا ذاك، وإنما هو عبث بالألفاظ وإخراج للغة عما خلقت له من حمل معانى النفوس ونفثات القلوب. ولكم من مرة حدثتنى النفس أن اختراع اللغة هو أقسى ما نزل بالبشر من كوارث.

فأشد انفعالات النفس وأعمقها غورا وأصدقها رنينا هو ما يعقد اللسان، وأكمل الرجال شهامة أقلهم حديثا عن الخير والشر، وتلك ألفاظ ما كان جفروش يعرف لها معنى، ولو أنه علم أن للأخلاق قواعد تواضع عليها الناس لفسدت حياته، لأنه نشأ على السخرية من مواضعاتهم والعبث بقوانينهم، وحتى وخزات الضمير ما كان يعرف لها ألما، وما كان قوام حياته إلا معنى عميقا للشهامة وفطنة إلى مواضع التهلكة أكسبته إياها تجارب عاجلته بها الحياة صغيرا. نعم لقد كانت تجاربه محدودة، ولكنها كانت غنية لشدة ما قاسى من آلام حتى ما كان يدهشه شىء وهو بعد فى العاشرة من عمره.

«وكان جفروش يرتدى بنطلونا لم يأخذه من أبيه وقميصا لم يأخذه من أمه، وإنما كساه بتلك الأسمال قوم محسنون، ومع ذلك فقد كان له أب وقد كانت له أم، ولكنه لم يكن موضع تفكير أبيه ولا أمه. لقد كان من أولئك الأطفال الذين لهم أم وأب ومع ذلك فهم أيتام».

«وكان شعوره بالسعادة أتم ما يكون عندما يجد نفسه فى الشارع، إذ إن حجارته كانت عليه أقل صلابة من قلب ذويه، وقد ألقوه إلى الحياة بركلة قدم، فطار إليها راضى النفس. لقد كان طفلا صاخبا شاحبا خفيفا يقظا ساخرا حى الملامح مريضها، فكنت تراه رائحا غاديا مغنيا لاعبا يحفر القنوات. ويسرق أحيانا ولكن فى مرح كما تسرق القطط أو العصافير، وكان يضحك لمن يسميه عفريتا، ويغضب ممن يسميه لصا. لقد حرم المأوى والخبز والنار والحب؟ ولكنه كان مرحا لأنه حر».

هذا هو طفل باريس، وهو منها بمنزلة العصفور من الغابة.

«وبباريس أطفال لا يجدون عشاء كل يوم، ولكنهم قد يذهبون إلى المسرح كل مساء لا قميص على جسدهم، ولا حذاء بأرجلهم، ولا سقف فوق رءوسهم، فهم كذباب السماء لا يملكون من كل ذلك شيئا. يعيشون أسرابا. يذرعون الطرقات، ويسكنون الفضاء، ويرتدون بنطلونا قديما يخلعه عليهم أبوهم فينزل إلى ما دون أكعابهم، وقبعة لأب آخر تغطى آذانهم، وحمالة ذات فرع واحد يعلقونها بأكتافهم. يعدون ويتربصون، ويضيعون وقتهم، ويدخنون، ويقسمون أغلظ الأيمان، ويغشون الحانات، ويعرفون اللصوص، وما فى قلوبهم من الشر أثر لأن بها لؤلؤة هى الطهر، واللآلئ لا تذوب فى الأوحال.

«هم يصيحون ويسخرون ويصخبون ويتضاربون، وعليهم خرق كالشحاذين، وأسمال كالفلاسفة. يصيدون فى المجارى، ويطاردون فى القمامة، ويستخرجون المرح من الأوحال. يصرون بأضراسهم، ويعضون بالأنياب. يصفرون ويغنون، يحيون ويسبون. يجدون بغير بحث، ويعرفون ما يجهلون، هم اسبرطيون إلى حد اللصوصية، ومجانين إلى حد العقل، وشعراء إلى حد الإسفاف. يرقدون فوق الأولمب، ويندسون فى الروث، ويخرجون منه مرصعين بالنجوم.

ولنتتبع جفروش قليلا فى أزقة باريس وهو يبحث عن عشائه: ها هى حديقة يتدلى منها التفاح «وقد أودت بآدم تفاحة، فلم تنج جفروش من الموت جوعا؟»، ودون التفاح سياج يعبره جفروش، فإذا به على مقربة من زارع الحديقة، وزارعها شيخ فان.

يسترق جفروش السمع إلى حواره مع زوجه العجو،ز، فإذا بهما فى ضيق شديد، وإذا بالمالك ينذرهما بالطرد، وإذا بهذا الحديث يذهب بما يحس جفروش من ألم الجوع فيتفقد إلى جوار السياج مضجعا يأوى إليه.

ومن خلال ذلك السياج لمح طفلنا شبحين يتبع أحدهما الآخر أولهما شبح شيخ وقور ومن خلفه شبح فتى خليع يتربص به، وما هى إلا أن وثب الفتى بالشيخ فسقط إلى الأرض، وهم جفروش ليرى ما حدث، فإذا بالشيخ قد أرغم أنف الفتى، وانتظرر جفروش ليرى بقية المغامرة، فإذا بالشيخ ينهض الفتى آخذا لتلابيبه كما يفعل قط بفأر، وإذا به يعظه وعظا طويلا يفهم منه جفروش أنه لا تستقيم الحياة بغير جد وإلا انتهت بغياهب السجون أو دماء المقاصل، ثم يدفع الشيخ محفظة نقوده إلى اللص ويخلى سبيله.

لم يرق جفروش، ما رأى، وإذا به يتسلل فى الظلام خلف اللص حتى يأتيه، واللص لا يشعر بوجوده، ثم يضع يده فى الجيب الذى به المحفظة ويعود بها حتى يقترب من موضع مضيفه الشيخ خلف السياج، فيرمى بالمحفظة إلى الحديثة ويعدو ملء أرجله، وقد نسى جوعه ونسى مخدعه، ولكنه فرح مغتبطا بتلك البطولة الساذجة، لأن مزاجه مزاج فنان، وما يعنيه من بعد ذلك شىء، وما يريد أن يعرف عما ارتكب شيئا من أحكام البشر. هل ما أتاه يعتبر خيرا أم شرا؟ هذا ما لا يعنيه، وما أظنه قد سأل نفسه يوما سؤالا كهذا، لأنه كما قلنا لا يعرف للشر أو الخير معنى، ولا يأتى أيهما عن حساب أو تقدير، وإنما هى طبيعته تسوقه إلى ما يفعل وفى فعله هذا جمال لا شك فيه.

لقد يلقى فى الطرقات طفلين مشردين أصغر منه سنا وأضعف قوى، فيبسط عليهما حمايته، ويقودهما إلى حيث يجد لهما قليلا من الخبز، أو يمهد مضجعا إلى ساق تمثال نابليون، مستعينا بما يسرق من أخشاب سياج حديقة النباتات، حتى إذا أويا إلى مضجعيهما خف فى ظلم الليل ليساعد مجرما على الهرب من السجن، والمجرم أبوه والطفلان أخواه، ولكنه لا يعلم عن ذلك شيئا، ولو أنه علم لما تغير موقفه، لأنه يأتى ما يأتى لجمال ما يفعل فى ذاته، وما للخير أو الشر فى نفسه أى اعتبار.

ويعود طفلنا عند الصباح ليوقظ طفليه اللذين يعتبر نفسه قواما عليهما، ويعتزم أن يبصرهما بالحياة، وأن يقوم على تنشئتهما، فيقتادهما معه وسط الطرقات، ولكنه يفقدهما فى ازدحام يلقاه، فيأسف أشد الأسف، ولا يجد عزاءً عما فقد إلا أغنية ساذجة يردد مقاطعها خلال الأزقة المظلمة.

كل تلك المغامرات قصيرة الباع، لا تظهر ما بنفس هذا الطفل الخيرة من غنى، وأما اليوم الذى تجلت فيه ثروته الروحية فكان يوم ثورة سنة 1832.

فى ذلك اليوم كان جفروش عائدا من إحدى ضواحى باريس وبيده غصن مكلل بالأزهار، وإذا بروح الثورة تهب، وإذا به من رجالها فيلقى الطفل غصنه من يده، ويسرع إلى مخزن أسلحة يختطف منه طبنجة واعدا بردها، ويعدو إلى قلب باريس، ولكنه يلاحظ أن الطبنجة بغير زناد، فليكن، وليعد طفلنا وسط الجموع صاخبا مهللا، وليتغن بالمرسييز مع المتغنين، وليخطب من حوله: «لا عليكم! إن برجلى اليسرى ألما شديدا، ولقد قسا بى الروماتزم، ولكننى مسرور أيها المواطنون، وما على الأعيان إلا أن يستوثقوا من مواضع أقدامهم. من هم أفراد الشعب؟ كلاب! ليكن، ولكن ليحترموا تلك الكلاب. آه! ليت هنا زنادا. لقد أتيت من ظاهر المدينة حيث النار تضرمم والقلوب تغلى. آه! لقد حان الحين لنقطف زبد القدر».

وفيما هو سائر لا يلقى رجلا إلا حثه على السير إلى القتال، وإن يكن الحزن قد تسرب إلى نفسه دقيقة عندما نظر إلى سلاحه قائلا: «سأنطلق إلى المعركة وإن لن تنطلق منك رصاصة».

وفيما هو كذلك إذا بجموع الطلبة الثائرين يمرون وعلى رأسهم زعيمهم «أنجولرا» Enjolrae فينضم إليهم، لأنه يعرف أنهم يعلمون إلى أين يسيرون. خف فى مقدمتهم، وسلاحه الخرب بيده، والأغانى لا تغادر شفتيه، حتى وصلوا إلى حانة قرروا أن يتخذوا منها مقرهم، وأن يقيموا أمامها حواجزهم، ويأخذ جفروش على نفسه إنجاز تلك الحواجز.

«ها هو يغدو ويروح خفيفا مرحا. ها هو يصعد وينزل، ويصيح، ويرغى ويزيد، حتى لكأنه خلق ليبث الشجاعة فى نفوس الجميع. عجبا! أى باعث كان يحفزه؟ وأى أجنحة كانت تطير به؟ لقد كان باعثه ما عانى من بؤس، وكانت أجنحته ما يفيض به قلبه من فرح. لقد كنت تراه بغير انقطاع، وكنت تسمع صوته فى كل لحظة. لقد كان وجوده يملأ الفضاء حتى لكأنه فى كل مكان. كنت تراه بأعلى الحواجز يدفع المتسكعين ويحث المتكاسلين، ويبعث النشاط فى المتعبين، ويقلق المتأملين. يثير فى البعض النشوة، وفى البعض الغضب، وفى الآخرين الجهاد، كما يدعو الجميع إلى النشاط. يخز طالبا، ويعض عاملا. يقف ويسير، ويستأنف السير متنقلا بين هؤلاء وأولئك، يتمتم حينا، ويطن أخرى». ثم لا يقف جهده عند ذلك الحد، بل يحاول أن يشترك فى المعركة، فيرمى بسلاحه الخرب إلى الأرض، ويأخذ ببندقية أثقل منه وزنا، ويقدح الزناد، فإذا بالبندقية فارغة، وإذا بوجهه يتقطب امتعاضا. ولعل هيجو لم يشأ أن يجعل منه سفاكا للدماء. ويرسله أحد الثوار بخطاب إلى فتاة، فيطيع، وينتهزها فرصة سانحة ليحطم بالحجارة ما يلقى من مصابيح، وهو فى أثناء ذلك يغنى بصوته المرتفع وسط الشوارع المظلمة، ويعثر فى أثناء سيره بعربة يد يدفعها حمال ثمل، فيأخذها منه، ويسوقها أمامه فوق الحجارة فى ضجة تسترعى انتباه رجال البوليس، فيسرعون إليه فيدفعها فى أرجلهم، ويولى الأدبار كدخان تبدد، ويعود إلى الحواجز ليحضر المعركة الحاسمة، فإذا بالإخوان الثوار قد نفدت ذخائرهم. يرى ذلك فيأخذ لساعته سلة يعبر بها الحواجز إلى حيث تتمدد جثث الموتى من الجند يفرغ جعبهم، ولا يزال ينسل من جثة إلى جثة، والجند يصوبون إليه رصاصهم دون أن يصيبه أذى، وهو يحاورهم ويداورهم، مختفيا وراء جثة محتميا بمصراع باب، وكلما رفت رصاصة بجوار أذنه غايظ من أطلقها بحك اصبعه على أنفه، والحواجز تهتز، وصوته لا يسكت عن الغناء، حتى حم القضاء وأصابته رصاصة أقعدته والدم يسيل فوق وجهه، فرفع ذراعيه إلى السماء، وأدار وجهه إلى الجهة التى أتته منها الرصاصة وهو يغنى: «لقد سقطت إلى الأرض وتلك غلطة فولتير. لقد سقطت بالقناة وتلك غلطة...».

ولم يتم أغنيته، إذ أتته رصاصة أخرى خر منها صريعا، وجهه على الأرض ولا حراك به. وهكذا قضت روح ذلك الطفل الكبير، وقد اجتمعت بنفسه قوة الثورة على الظلم إلى جوار المرح والسخرية من آلام الحياة.

هذا هو جفروش كما تعرفه باريس فى أطفالها الذين قد لا يعرفون للأخلاق قواعد، ولكنهم يصدرون عما هو أسمى من الأخلاق: عن صفاء فى النفس، وحرارة فى القلب، وإمعان فى الحياة ينشر على شفاههم ابتسامة أبدية الخلود.

هذا هو جفروش كما يعرفه كل الفرنسيين وكل من يتكلم الفرنسية، حيث خلدت اللغة هذه الشخصية الأصلية الجذابة، بأن أدخلتها بين مفرداتها كاسم ذات وكصفة، وهم يدعون الرجل «جفروش C est un gavroche» كما يصفونه بتلك الروح التى صورنا Il a l esprit gavroche. وليس بعد ذلك دليل على خلود هذا النموذج البشرى بين ما خلق الأدب من نماذج.

ولكم يذكرنى جفروش هذات بهيجو خالقه وقد ظل طفلا حتى آخر عهده بالحياة، ولكم يذكرنى برينان الذى قال عنه أحد النقاد فأصاب القول: «إنه كان يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل». وهكذا شأن كل من تميز بين البشر، فما يجوز أن تخضعهم لأحكامنا الوضيعة المتواضعة. ولحياتهم منطق لا يفهمه إلا من يضارعهم. وأما نحن فلنخضع لما تملى علينا الجماعات التى ننتمى إليها، وإن كان لنا أن نحذر أحدا فليكن ذلك الحذر ممن يتشدقون بكلمات الخير والحق ونفوسهم أصغر من أن تحوى معانى تلك الألفاظ الجميلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.