تنسيق الدبلومات الفنية 2025 دبلوم سياحة وفنادق نظام 3 سنوات (الشروط والحد الأدنى للدرجات)    «تعليم القليوبية» تكرم المتميزين بمسابقة تحدي القراءة العربي    وزير الشئون النيابية يلتقي عددا من صحفيين بعد فض دور الانعقاد الخامس للبرلمان    الطعون الانتخابية تتصدر مشهد انتخابات الشيوخ بدمياط    «النقل» تنفي صحة تصريحات «الوزير» بشأن هشاشة البنية التحتية المصرية    بعد آخر انخفاض.. سعر الذهب اليوم الاثنين 14 يوليو 2025 وعيار 21 الآن في الصاغة    موعد صرف معاشات شهر أغسطس 2025 بعد تطبيق الزيادة الأخيرة (احسب معاشك)    رئيس الوزراء يكلف بحصر الأراضي لإنشاء 60 ألف وحدة بديلة للعمارات الآيلة للسقوط بالإسكندرية    تداول 13 ألف طن بضائع عامة بموانئ البحر الأحمر    التصريح بدفن جثمان لاعب "فلاي بورد" الشهير.. وموعد الجنازة بالغردقة    وزير الزراعة يفتتح فعاليات الاجتماع الأول للجنة الفنية بمشروع التنمية الريفية المتكاملة    رئاسة طائفة الدروز: نرفض دخول الأمن العام إلى السويداء ونطالب بحماية دولية    ندى ثابت: كلمة السيسي بقمة الاتحاد الأفريقي عكست التزام مصر بدعم منظومة الأمن في القارة    الخارجية الإيرانية: لن نعود للمفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة إلا بعد التأكد من نتيجتها مسبقا    عمره 92 عامًا.. الرئيس الكاميروني بول بيا يعلن ترشحه لولاية ثامنة    بيراميدز يتفوق على الأهلي في تصنيف جديد.. ومركز الزمالك    الخطيب يتفاوض مع بتروجت لضم حامد حمدان.. ومدرب الزمالك السابق يعلق: داخل عشان يبوظ    نجم الزمالك السابق يفجر مفاجأة: فاروق جعفر أهلاوي    مرعي: وقعت للقطبين 3 مرات.. وكنت أطمح في الانتقال للأهلي    نتاج علاقة غير شرعية.. حبس بائع خردة وزوجة شقيقه بتهمة التخلص من رضيع بالمنوفية (تفاصيل)    موجة حارة جديدة.. بيان هام يكشف طقس الأيام المقبلة وأماكن سقوط الأمطار الرعدية    موعد ظهور نتيجة الثانوية العامة 2025 وآخر أخبار التصحيح.. مصدر يوضح    تفاصيل ضبط قائد سيارة اعتدى على فتاة وصديقتها بالتجمع    محمد رياض يشهد ختام ورشة «التذوق الموسيقي» ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح    قبل «درويش».. 3 أفلام جمعت عمرو يوسف ودينا الشربيني    وائل كفوري يطرح "بعتذر منك" و"أنتي بعيوني" من ألبومه الجديد    رمضان عبد المعز: النبي غرس العقيدة في سنوات مكة.. والتشريعات نزلت في المدينة    رئيس الوزراء يتفقد مشروع تطوير مركز القسطرة وجراحة القلب والصدر بمستشفى شرق المدينة بالإسكندرية (صور)    محافظ الشرقية يفاجئ العاملين بمستشفى ههيا المركزي (تفاصيل)    «الصحة»: دعم وتدريب مجاني لأسر الأطفال حديثي الولادة ضمن «الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية»    مهرجان للفنون والحرف التراثية في قنا    ضبط 10 أطنان من الدقيق في حملات لشرطة التموين خلال 24 ساعة    المدينة الإنسانية تثير غضب نتنياهو.. تفاصيل جلسة مغلقة للكابينت    تفاصيل زيارة المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب في دمياط لمتابعة تنفيذ برنامج "المرأة تقود"    بدء البرنامج التأهيلي لمعلمي مدارس هيئة الشبان العالمية ببنها    فليك يبدأ الإعداد للموسم الجديد ببرنامج بدني مكثف في برشلونة    مستشفى الكويت الميداني يحذر من توقف وشيك خلال 48 ساعة    مفاوض أوروبي: الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على واردات الاتحاد الأوروبي ستعيق التجارة    محافظ سوهاج يوجه بخفض مجموع القبول بمدارس التمريض بنات مع بدء التنسيق    هشام جمال: "سمعت صوت حسين الجسمي أول مرة وأنا عندي 14 سنة"    قبل الإعلان الرسمي.. تسريب صفقة الأهلي الجديدة من ملعب التتش (صورة)    موعد شهر رمضان المبارك 2026: فاضل فد ايه على الشهر الكريم؟    سجل 54 هدفا.. أرسنال يقترب من التعاقد مع مهاجم جديد    ضبط سائق بشركة نقل ذكي بتهمة التعدي على سيدة وصديقتها بالسب والضرب بالقاهرة    7 ملايين جنيه.. حصيلة قضايا تجارة العملة خلال 24 ساعة    مستشار الرئيس للصحة: الالتهاب السحائي نادر الحدوث بمصر    الصحة توزع 977 جهاز أكسجين منزلي لمرضى التليف الرئوي    بعد غياب 4 أعوام.. محمد حماقي ونانسي عجرم يجتمعان في حفل غنائي بمهرجان ليالي مراسي    بعد صعود سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الاثنين 14-7-2025 للمستهلك الآن    استقرار سعر الدولار أمام الجنيه اليوم الاثنين 14 يوليو 2025 في البنوك المصرية    ترامب يعرب أن أمله في التوصل إلى تسوية بشأن غزة خلال الأسبوع المقبل    بداية فترة من النجاح المتصاعد.. حظ برج الدلو اليوم 14 يوليو    «انت الخسران».. جماهير الأهلي تنفجر غضبًا ضد وسام أبوعلي بعد التصرف الأخير    15 صورة جديدة من حفل زفاف حفيد الزعيم عادل إمام    دعاء في جوف الليل: اللهم اللهم أرِح قلبي بما أنت به أعلم    "عندي 11 سنة وأؤدي بعض الصلوات هل آخذ عليها ثواب؟".. أمين الفتوى يُجيب    الطب الشرعي يُجري أعمال الصفة التشريحية لبيان سبب وفاة برلماني سابق    هل يجوز المسح على الحجاب أثناء الوضوء؟.. أمينة الفتوى تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عفيفى مطر.. ذاكرة حاربتها سُلطة
نشر في الشروق الجديد يوم 29 - 06 - 2012

تتزامن الذكرى الثانية لرحيل الشاعر المصرى الكبير محمد عفيفى مطر، مع أول استحقاق رئاسى فى مصر، وبدء الجمهورية الثانية، وإعلان نتائج أول انتخابات رئاسية تعددية على المنصب الأرفع فى هرم السلطة المصرية، والحكم على رأس النظام الذى عذبه بالسجن؛ لتنشغل الأوساط الرسمية، ولا نستثنى منها الثقافية، بمتابعة الانتخابات ولا تتذكر شاعرا كبيرا تحل ذكراه هذه الأيام.

وهى المصادفة القدرية التى لا تخطئ قراءتها عين: فالشاعر الذى غيبه الموت قبل عامين (28 من يونيو 2010) دفع ثمن معارضته للنظام الحاكم فى مصر، وقتها، وسجل شهادة شعرية غاضبة فى ديوانه: احتفاليات المومياء المتوحشة، على مواجهة قمع سلطة متسلطة لم تتحمل أن يختلف معها شاعر فى الرأى والتوجه، فألقت به إلى السجن، وأذاقته صنوف العذاب خلال اعتقاله، ليخرج الشخص من المعتقل بعلامة واضحة للتعذيب على عظمة أنفه، لازمته خلال الفترة الباقية من عمره، ويخرج الشاعر بديوان شعرى كامل، حشد فيه كل ما ملك من مقدرة شعرية، ليسجل شهادة للتاريخ والشعر ضد نظام قمعى لم يحتمل أن يختلف شاعر مع توجهه الذى يفرضه.

ولم تكن تجربة السجن الأخير فى حياة عفيفى إلا تتويجا لسنوات من الاختلاف والعلاقة الملتبسة مع السلطة، وهو الاختلاف الذى أفاض عفيفى فى تناوله فى كتاب سيرته: «أوائل زيارات الدهشة.. سنوات التكوين»، عندما تكلم فى فصل «الغول للأبد».

رصد عفيفى فى هذا الفصل أصناف الارتباط بالسلطة وتقريبها لمن يتبنون آراءها ويدافعون عن اختياراتها، وينحازون لها، بدلا من انحيازهم الأساسى لجانب المستضعفين ودفاعهم عنهم، وكيف أن هذه السلطة بآلتها الإعلامية الجبارة تميل دائما إلى إكساب الكتَّاب التابعين لها صفات لا تنتمى إلى الفن أو الإبداع فى شىء، كما تنسب إليهم بطولات وفتوحات أدبية لم يقترفوها مقابل التهميش المستمر والإمعان فى تهميش هؤلاء الذين يختلفون مع السلطة وموقفها المعلن، أو يختلفون معه.

ويرصد عفيفى كيف أنه فى مرحلة مبكرة من عمره عندما اكتشف أن هذا سبيل السلطة وهو سلوك آلتها الإعلامية، اختار طواعية أن يكون انتماؤه للضعيف والأضعف مهما لقى من عنت أو تهميش.

ولعله دفع فى سبيل هذا الاختيار الثمن مضاعفا: فمنذ الستينيات عندما كان توجه القطيع الإعلامى والسلطوى هو التغنى بالانجازات وإغفال السوس الذى يضرب فى عمق النظام بالتغاضى المستمر عن انتهاك حقوق الإنسان وتغافل الحديث عنها اختار هو أن يكتب ديوانه: «شهادة البكاء فى زمن الضحك»، مستحضرا شخصية عمر بن الخطاب ومرتديا قناعه ليحلل الهزيمة التى ضربت المشروع النهضوى فى مقتل ليخلص إلى نتيجة: «المسألة ليست فى أن نرقع الثوب بل أن نستبدله»، وهو ما دفع حينها كاتبا بقامة محمود أمين العالم لأن يكتب عنه: «الشاعر الذى يبكى ونحن نبنى السد العالى».

صحيح تماما أن العالم غيَّر فيما بعد قناعته بشعرية عفيفى ورؤيته، وكتب خلال أزمته مع نظام مبارك، إبان حرب الخليج الثانية التى اعتقل بسببها، مقالة ضافية عن «آخر الشعراء الجاهليين الذين يكتبون المعلقات فى هذا الزمن»، لكن يبقى من الحدثين الدلالة على أن عفيفى كان دائما يغرد منفردا فى حين أن السرب كله كان يغرد فى اتجاه آخر، ولعل هذا التفرد هو ما ضاعف من فداحة الثمن العاجل الذى دفعه عفيفى، مقابل مكسبه الآجل الذى ربحه بعدما تكفل الزمن بحسم الخلاف لصالح تفرده.

فعفيفى مطر الذى طبع معظم أعماله الشعرية فى الطبعات الأولى خارج مصر عن مؤسسات رسمية فى العراق وسوريا، لم يطبع فى مصر إلا متأخرا، وتولت دور نشر خاصة هذا الأمر، الأمر الذى كان معه، حتى فترة ليست بعيدة، الحصول على نسخة من أعماله حدثا يستحق الالتفاف للقراءة والنسخ اليدوى ثم التصوير الضوئى فيما بعد، قبل أن تجرى فى النهر مياه كثيرة لتصدر أعماله الكاملة فى ثلاثة مجلدات عن دار الشروق، ثم تعاد طباعتها مضافا إليها ما كتبه، فى أربعة مجلدات عن هيئة قصور الثقافة، لكنه لم يرها حيث كان قد فارق الحياة.

وامتد الثمن الذى دفعه إلى التهميش التام والتغييب المقصود عن جوائز الدولة، التى نالها كثيرون ممن تحوم حول إنتاجهم الريب، حتى تكفَّل الزمن مؤخرا له بالفوز بالجائزة التقديرية، لكن موقفه هو لم يتغير.

ظلت قناعته التى أكدها فى أكثر من مناسبة أن الجائزة الفعلية التى يحظى بها شاعر هى امتداده السرى فى كتابات غيره من الشعراء وتأثيره غير المعلن فيهم.. ولعله كان قانعا بهذه الجائزة التى رآها رأى العين فى اختلاف الأجيال الجديدة معه، ومخالفتها له ولطرائقه فى الكتابة؛ حيث أصبح تجاوز عفيفى مطر هو الباب الملكى للعبور للقصيدة الجديدة بما يشمله ذلك من نفى تأثيره والتأثر به، أو تجاوز أفقه الشعرى وأحيانا أخرى نفيه تماما.

وعلى أية حال، فقد حفر عفيفى لنفسه مكانا يليق بجهد شعرى أخلص له على مدى عمره الذى تجاوز السبعين عاما حتى انتهت رحلته على هذه الحياة، وبأريحية تامة بعد رحيله الآن، يمكننا القول بأن شعر عفيفى مطر وكتاباته أصبحت من تراثنا العربى بل من التراث الإنسانى كله، بما منحه لهذا الأفق الإنسانى من انتماء ومحبة وتأمل فى مصير الإنسان وسعى دائب للتقدم والرقى، الأمر الذى جعل تراثه الشعرى ثرى الأبعاد وذا دور أساسى فى المكون الثقافى لهذه الثقافة، وما تمنحه لمعتنقيها من ارتقاء بإنسانيتهم وثقافتهم.

ولأنه كان شاعرا عظيما، وإنسانا أعظم، ومثقفا شديد الموسوعية، كان شديد الحرص على النظر لما يبدعه من زاوية انتماء هذا المنتج للتراث البشرى بشكل عام، ولما تقدمه اللغة العربية للثقافات العالمية بشكل خاص، فلكل أمة فى مسيرة العالم دور، مثلما أنه لكل مبدع كبير فى مسيرة ثقافته وتراث أمته دور أيضا، كما كان يردد دائما.

وتحفظ أوراق كاتب هذه السطور إجابات بخط يد الشاعر الراحل، حول الدور الأساسى للشاعر ونظرته الدائمة له باعتباره واحدا من معلمى الحواس الخمس الإنسانية، وله دور فى بنية العقل الجمعى للأمة التى ينتمى لها.

كان المدهش فى الإجابة عندما تلقيتها، وأنا أعد رسالة الماجستير حول أثر العلاقات النحوية فى تشكيل الصورة الشعرية عند عفيفى، أن عفيفى الشاعر المعروف نوعا ما فى الوسط النقدى والأكاديمى بغموضه الشديد، يبرز القناعة الأولى لديه والمتمثلة فى أن الشاعر هو واحد من كبار معلمى الحواس الإنسانية الخمسة، وكان السؤال الذى طرحته على قناعته هذه، هو: كيف تكون مؤمنا بأن الشاعر معلم ثم تكون كتاباتك بهذا الغموض الشائع عنك؟ فالمعلم، إذا ما أراد أن يصبح مؤثرا فعليه أن يوضح ويبسط الأشياء لعقول طلابه، عليه أن يجعل الغامض واضحا، والمعتم شفيفا، فكيف تكتب يا أبا لؤى كما كان يسمح لنا بتكنيته بهذا الغموض وهذا المستوى المعقد من التركيب اللغوى؟!

بدا لى وقتها الأمر متناقضا، لكنه رد ببساطة: «أرى شعرى واضحا وضوح الابتذال، وإذا نظرت فى العلاقات بين البشر والأشياء فى الدنيا فستجدها معقدة، انظر إلى الشوارع وحياة البشر والزحام والتعاملات وقل لى أنت: أين البساطة التى تطلبها فى هذا؟!»، ثم بدأ يستشهد على وجهة نظره بعوالم الحشرات والحيوانات والنباتات التى تبدو لنا بسيطة وكيف أنها شديدة التعقيد والتشابك وأن العلاقات الرابطة بين أجناس المخلوقات المتعددة هى بالأساس معقدة وأننا نحن الذين ننزع للادعاء بالبساطة خلافا للطبيعة.

وأخذ يشرح ما عرفه من متابعة حركة التاريخ وصعود الأمم وتطورها، وتاريخ الفنون ثم تطور القصيدة العربية والفلسفة، لتصل معه مسلما بأنه يعتبر شعره واضحا وضوح الابتذال كما قال.

لم يكن غافلا عن أن ما نكتبه هو نخلة نغرسها فى عمق وعى الأمة والإنسانية كلها، كان التراث بالمعنى الواسع للكلمة رافدا أساسيا فى خمسة عشر ديوانا، وثلاثة كتب من قصص الأولاد، وضع لها عنوانا رئيسا واحدا، هو: مسامرات الأولاد كى لا يناموا، وكتابات نقدية أخرى، عكست رؤيته للمفهوم الواسع للتراث وكيفية تعامله معه، وضمها فى كتابه: «شروخ فى مرآة الأسلاف».

بل ربما كان الوعى الأساسى بأن ما سيكتبه سيصبح بعد حين جزءا من تراث يضعه الحاضر أمانة فى عنق المستقبل القريب والبعيد معا، هو محركه ودافع نحو الكتابة المستمرة، بما يعنى أن تصبح أعماله الشعرية وكتاباته القصصية جزءا أصيلا من تراث الأمة الذى يلجأ إليه الجيل الجديد للائتناس أو التحاور أو التجاوز أو التواصل أو القطيعة، مثلما فعل هو نفسه مع تراث السابقين.

لعل ما يؤكد هذا الوعى لدى عفيفى حرصه الشديد على أن يكون العنوان الشامل لكتاباته التى وجهها للأولاد هو: مسامرات الأولاد كى لا يناموا، فتتعدد أجزاء الكتاب وقصصه وتتنوع أساليبه وسنون نشره وأماكنها وعناوين الأجزاء الفرعية، لكن الأساس الذى لا يبتعد عنه ويضعه نصب عينه دائما أنها مسامرات يقصها (كبيرٌ) ما على (صغارٍ) ما؛ كى لا تجعلهم ينامون، بمخالفة شديدة الدلالة لمفهوم الحواديت والقصص التى تقدم للأولاد قبل النوم، لكنه أراد المفارقة التى تدهشهم، فبدلا من النوم على قصصه كان يقدمها ليستثير فيهم الخيال الواسع ويتركهم لدهشة الأسئلة.

ومثلما قدم قصصه مخالفا السند التراثى ومفارقا له، قدم أشعاره أيضا مخالفا لأسانيد تراثية أخرى ومفارقا لها.

وإذا نظرنا فى عناوين مجموعاته الشعرية أو دواوينه التى نشرها فسنجد مثلا كلمات: احتفاليات، مومياء، منمنمات، معلقات، دخان، قصيدة، صيد، رمل، فخار، ملامح، الأمبيذوقليس، قشرة، كتاب، الأرض، شهادة، بكاء، ضحك، النهر، يلبس، الأقنعة، إيقاعات، مجمرة، بدايات، طمى.. ثم نسأل أنفسنا بعد تأمل هذه الكلمات سؤالا صغيرا: هل يخلو حقل من حقول التراث الإنسانى من دلالة هذه الكلمات؟

نتأمل الاحتفاليات والبكاء والضحك، ونقرأ تراث المشاعر الإنسانى منذ اللحظة الأولى التى نشأت فيها الحياة، وما أخذه الخلف عن السلف، مثلما نقرأ تراث الفن والإبداع فى المنمنمات والإيقاعات والقصيدة والمعلقة والكتاب، وتراث الفكر فى الأمبيذوقليس، وتراث الكينونة البشرية فى الطمى والفخار والبدايات، مثلما نقرأ تطور رحلة الإنسان على الأرض فى المجمرة والنهر والشهادة.

فى المستوى الأعمق، نعنى عناوين القصائد ذاتها، نجد الحضور التراثى الواعى طاغيا: فالرجل كتب الخرافة الشعبية فى ديوان كامل، وضع له عنوان: يتحدث الطمى، ثم تحتها بعنوان شارح: «قصائد من الخرافة الشعبية»، فما بالنا بعناوين قصائده؟!

سنجد فى عناوين القصائد بامتداد مسيرته، كل ما يربط إنسانا بتراثه العالمى: كل ما خلفته الحارة الصغيرة التى عاش فيها فى قريته، ثم ما خلفته ثقافته فى بلد له لغة وتراث شعرى ممتد إلى العصر الجاهلى، وما أثر فى هذا الإنسان من فلسفة بدأت فى عصور ما قبل الفلاسفة اليونانيين وانتقلت إلى الفلاسفة الإسلاميين والمتصوفة، مرورا بالديانات والقصص والسير الشعبية حتى نصل إلى حروب الأمم فى سبيل استقلالها عن محتل ومسيرة الدم الذى لابد أن تدفعه هذه الأمم.

ولم يكن هذا الوعى بعيدا عن المعنى الإنسانى الواسع للتراث، مثلما لم يكن بعيدا عن التقسيم الأكاديمى أو النظرة الأكاديمية لروافد التراث فى إنتاجه الشعرى؛ فلو أن باحثا قرر أن يدرس هذه الروافد التراثية فى شعر عفيفى فسيكتشف أنه أمام كنز ثرى تغذيه روافد من التراث الشعرى العربى بدءا من المعلقات وسير شعرائها، ومفهومهم للقصيدة ذاتها، من أنها ديوان العرب الذى يسجلون فيه أفراحهم وأتراحهم، مثلما أنها باب المشاعر المغلق الذى يفتحه النظر المعمق.

ولا تقف هذه الروافد التراثية عند الجانب الشعرى فقط بل تمتد إلى القصص العربى القديم أو ما يعرف بأيام العرب حيث أجاد استخدامها بحرفية فى تناول أحداث معاصرة بكل ما تستدعيه من زخم التوظيف الشعرى فى القصيدة وإكساب الدلالات الجديدة.

وسيجد الباحث أيضا حضورا طاغيا للشخصيات التراثية المتنوعة بدءا بشخصية الرسول الكريم فى ديوان: «أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت»، كما نجد شخصية عمر بن الخطاب، فى ديوان: «شهادة البكاء فى زمن الضحك» الذى يرصد فيه أحلامه بحاكم عادل ويسجل فيه موقفه من التجربة الناصرية ونكسة 1967، وليس انتهاء بحمدون القصار، مثلما يجد إلى جانبهم شخصيات المتصوفة الكبار كالسهروردى والحلاج بمستويات متنوعة للتناول والكتابة، كما يمر على التراث الأندلسى، حتى نصل معه إلى شخصيات من التراث الحديث أو الفترة التاريخية القريبة فنقابل فى شعره محمد عبيد، أحد أبطال جيش الزعيم الوطنى أحمد عرابى فى حربه مع المستعمر الانجليزى، مثلما نقابل شخصية ملكة انجلترا التى تحتفل بمولد وريث عرشها فى اللحظة التى يدفن فيها أبوان طفلهما الجائع فى مستعمرات أفريقيا الخاضعة لتاج جلالة الملكة، كما فى قصيدة: «الملكة واللوردات وآخرون».

ولا يغيب رافد التراث اليونانى والفلسفة التى أبدعها معلموها الأوائل عما قدمه عفيفى من شعر؛ حيث نجد ملامح الوجه الأمبيذوقليس، مثلما نجد قصص العناصر الأربعة التى تكون الخلق منها فى الميثولوجيا اليونانية: تراب وهواء ونار وماء، حاضرة بقوة فى ديوان فرضت اسمها عليه: «رباعية الفرح».

وفى ختام رحلته الشعرية نجده يقدم ديوان: «فخاريات تذروها الريح» ومعلقات عبدالله، ليسجل موقفا صوفى التناول والممارسة من القصيدة على إطلاقها فى «منمنمة يرى السكران فى شطح الدمع ويسمع»، مثلما سجل رؤيته العميقة لتواريخ الدم والصراع على أسباب العيش والتطور فى التاريخ العالمى كله فى «معلقة ميتادور الأبد».

والسؤال الذى يستحق أن يفرض نفسه علينا، لا يتعلق فقط بمدى إسهام هذه العناصر التراثية المختلفة فى إنتاج عفيفى مطر الشعرى، بل كيف امتلك الشاعر هذه القناعة وامتلأ باليقين بأن ما يكتبه هو جزء أصيل من تراث الأمة؟.

إن الإجابة عن هذا السؤال تفرض علينا أن نتأمل فى البنية الثقافية التى أنتجت هذا الشعر، ولا نعنى مجرد البحث فى الروافد الثقافية التى اختمرت فى ذهن الشاعر، بل ربما نذهب إلى أبعد من هذا الطرح بخطوة عندما نبحث فى الكيفية التى امتلك بها عفيفى رؤيته الشعرية، ويقينه بدوره فى مسيرة التراث العربى، وهو السؤال الذى نستطيع طرحه فى المقابل على المبدعين الأحياء، أيضا، ربما لنخرج بإجابة تساعدنا فى تأمل هذه اللحظات المفصلية من تاريخنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.