«ما دمت رئيسا للسلطة الفلسطينية لن أسمح أبدا باندلاع انتفاضة جديدة مهما كان شكلها». وأضاف: «لن أقبل بأى فلتان أمنى أو فلتان عسكرى فى الضفة أو غيرها من المناطق الفلسطينية، وأنا أريد أن أحافظ على حياة الفلسطينيين. أما الذين يتحدثون عن المقاومة والانتفاضات المسلحة فليفعلوا ذلك بعيدا عن الشعب الفلسطينى». لن نشير إلى من يذكرنا هذا الكلام، الذى صرح به أمام الصحفيين فى تونس نعم فى تونس نفسها أولى ثورات التغيير التى أسهمت تجربتها باستيلاد انتفاضات التغيير والكرامة فى معظم أقطار الأمة العربية. لا تذكرنا تصريحات الرئيس محمود عباس إلا بالذين أصابتهم لوثة الاستبداد وعبثية الانكار، ولقد شاهد العرب كيف أن هذه الثنائية تستفز كرامة الشعوب وتكون، كما فى تونس ومصر، صيرورة أهداف الانتفاضات فى العديد من الأقطار العربية تعبيرا عن نجاح الشعب العربى فى أن يتحرر من الخوف وأن يتحدى ما هو جاثم على صدره من تراكمات التهميش والإذلال والتسلط والافقار، بعدما أدرك أن هذا الأمر لم يعد مقبولا، ولن يبقى مستسلما للقدر الذى فرض عليه، فالاختراق الثورى حصل بالتزام اللاعنف وسيلة أولوية. كما فى الانتفاضة الأولى فى فلسطين وعلى الرغم من أن اللاعنف تمارسه شرائح الربيع العربى، وهو ما أدى إلى سلامة الأهداف التى أنجزت والتى صار مطلوبا تحقيقها، إلا أن هذا لا يعنى أن اعتماد اللاعنف وسيلة للثورات أو للمقاومة ينطوى على تخلى الكفاح المسلح بعد أن تكون استنفدت كل وسائل المقاومة السلمية وإقناع المحتل أو المستبد أو الظالم بالتخلى عن استباحة الحقوق الوطنية والإنسانية. يستتبع أن ما قاله الرئيس الفلسطينى فى تونس فى تونس بالذات مستغرب حتى لا نقول أكثر، كونه كان عليه أن يدرك أنه منذ اتفاقيات أوسلو كان ما وصف ب«المفاوضات» مجرد تمرينات عبثية كما اختبرها هو بالذات، فالتفاوض يتم عندما يكون هناك اتفاق مسبق على النتيجة لا أن تتحول «المفاوضات» إلى عملية متواصلة فى التفتيش عن الحقوق، ما يفسر بأن عملية ما سمى بمسيرة السلام أدت كما هو حاصل إلى تآكل الأراضى الفلسطينية وكون أن «إسرائيل» لم تعترف يوما أنها فى فلسطين سلطة محتلة وبالتالى خاضعة لاتفاقية جنيف الرابعة وبديهى أن الدليل هو استمرار لبناء المستوطنات والادعاء بأن القدس كلها «عاصمة أزلية وأبدية» للكيان، والأنكى أن السلطة الفلسطينية لم تشترط اعتراف «إسرائيل» كونها قوة احتلال، وهذا الإهمال المتعمد أو غير الواعى لانعدام استقامة القاعدة القانونية للتفاوض يفسر التخبط الذى لا يزال سائدا فى الحالة الفلسطينية. أشير إلى هذه الاشكالية فى هذه العجالة لأسباب عدة لعل أولها أن عمر سليمان مدير جهاز المخابرات المصرية السابق ذكر فى استجوابه أمام النيابة أن لديه معلومات لا يمكن ذكرها أو تدوينها فى التحقيقات الجارية. لم استغرب مطلقا امتناع عمر سليمان فى هذا الصدد. لماذا؟ لأن أعدل قضية استحوذت على عقول ومشاعر وهموم العرب منذ وعد بلفور فى القرن الماضى، وتعامل معها مدير أجهزة مخابرات مصر التى تقيم علاقات دبلوماسية من خلال الالتزام ببنود معاهدة الصلح مع «إسرائيل» مما قيد الحراك الفلسطينى واستبعد عمليا القدرة العربية الشاملة وتمكين المقاومة من ردع التمادى «الإسرائيلى» فى تمدد اغتصابها للأرض التى اعتبرها المجتمع الدولى محتلة، فى حين تصرفت «إسرائيل» على أساس أن اغتصابها هو بمثابة استرجاع حقها فى الملكية بمراحل. هكذا أوقعت اتفاقيات أوسلو منظمة التحرير فى مصيدة خانقة، ما جعل «إسرائيل» قادرة على الإفلات من العقاب. كان تعامل النظام المصرى المطبع مع «إسرائيل» يعتبر أن ما يقوم به كخدمة للقضية الفلسطينية هو إقناع «إسرائيل» بتقليص عمليات القمع مقابل قيام قوات أمن فلسطينية بدورها الأمنى فى حماية أمن «إسرائيل». ●●● تجىء هذه التصريحات الفلسطينية من رئيس السلطة عشية زيارة رئيس حكومة «إسرائيل» نتنياهو إلى العاصمة الأمريكيةواشنطن فى منتصف الشهر المقبل لإلقاء خطاب فى المؤتمر السنوى لمنظمة «ايباك» الداعمة لكل أهداف «إسرائيل». هذا يحصل كل عام لكن الأخطر أن زعيم الأكثرية الجمهورية فى مجلس النواب كانتور وجه مع رئيس الكونجرس دعوة لنتنياهو إلى إلقاء خطاب فى جلسة استثنائية لمجلسى الشيوخ والنواب أثناء زيارته للعاصمة الأمريكية. بمعنى آخر فإن الأكثرية فى الحزب الجمهورى فى الكونجرس التى لا تكتفى بتأييد «إسرائيل» إنما تجعلها بمنأى عن أى معادلة أو ضغط من قبل الادارة الأمريكية فيما يختص مثلا بالمطالبة ب«ثمن الاستيطان» وهو ما يعتبره أنصار «إسرائيل» ضغطا غير محتمل بالنسبة ل«إسرائيل» كما أن «إسرائيل» وأمنها مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة وبالتالى محظور أى «ضغط عليها». وكأن طلب تجميد المستوطنات يعتبر ضغطا، فى حين أن ازالة المستوطنات هو بدوره ليس ضغطا بل امتثالا للقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. أجل إن هذه الدعوة فى أعقاب رفض نتنياهو لطلب الرئيس أوباما تمديد تجميد الاستيطان لثلاثة أشهر جاءت لتشكل إحراجا لأوباما، ما زاد فى التوتر القائم بين الرئيس الأمريكى ونتنياهو. فى هذا الصدد تسوّق «إسرائيل» أن نتنياهو سيطرح رؤية «إسرائيل» لاستئناف «المفاوضات» استباقا لما يزمع الرئيس أوباما مدعوما من وزيرة خارجيته هيلارى كلينتون إعلانه بشأن الموقف تجاه الشرق الأوسط، وهو ما عارض توقيته دينيس روس مستشار البيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط. وسبب معارضة روس لخطاب يلقيه أوباما هو قناعة «إسرائيل» ومؤيديها أن أى خطاب يتعلق ب«الربيع العربى» ومسيرة السلام من شأنه استباق خطاب نتنياهو. من هنا جاءت دعوة الكونجرس ذات الأكثرية الجمهورية عملية تستهدف إحراج الرئيس الأمريكى. إذا كانت صفاقة مؤيدى «إسرائيل» فى الكونجرس وصلت إلى هذا الحد فقد صار لزاما أن يستوعب العرب خاصة الفلسطينيين أنه حان الوقت لإعادة النظر بشكل جذرى تجاه ما آلت إليه معاهدة الصلح مع «إسرائيل» التى أبرمتها مصر والأردن، من تداعيات وما قد ينطوى عليه ما امتنع عمر سليمان عن الكلام عنه. هنا تكمن أهمية مراجعة قومية تقودها مصر الثورة والتى ظهرت بوادرها فى تصريحات تمهيدية لوزير خارجية مصر نبيل العربى، كما تصريحات بهذا الصدد للمرشح الرئاسى عمرو موسى منذ أسبوع. هذه المراجعة مطلوبة بإلحاح لأسباب عدة فى طليعتها أن «إسرائيل» تصّر على ضمان أمنها كشرط رئيسى لأية «مفاوضات قادمة»، إلا أن «إسرائيل» وحدها هى المؤهلة لتعريف ما يعنيه «أمنها» خاصة أن أمنها يجىء وسط متغيرات عربية كون ما أنجزه الربيع العربى من تفكيك للقيود من شأنه أن يعيد لمصر دورها المركزى الرائد فى قضايا الأمة وفى طليعتها القضية الفلسطينية، من هذا المنظور لن تتحقق آمال الأجيال الجديدة المنتفضة بكاملها إذا ظل المشروع الصهيونى يستبيح الحقوق القومية وفى طليعتها حقوق الشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة وحق اللاجئين فى العودة وتأكيد حرمة القدس كعاصمة لفلسطين العربية. كانت مثل هذه الدعوة خروجا على «واقعية» مزورة سائدة فى زمن مصر الثورة خاصة وفى دنيا العرب عامة. عادت فلسطين إلى كونها مسئولية مباشرة لأمتها العربية وصار ممنوعا أن نستسلم لمقولة إن تسعة وتسعين فى المائة من أوراق الحل فى يد الولاياتالمتحدة. هذا هو المعنى الأدق لما يتم إنجازه، وما هو متوقع فى مستقبل قريب.