دمر هتلر ألمانيا وتركها «خرابة» بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ثم انتحر وصارت ألمانيا محتلة من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا. ودمر مبارك مصر اقتصاديا وسياسيا والأخطر اجتماعيا واخلاقيا، ثم انتقل ليعيش على سرير متحرك فى مستشفى وكأن شيئا لم يكن.
ألمانيا حققت المعجزة وصارت متقدمة ومثالا يحتذى فى العالم، ونحن نحاول أن نبحث عن الطريق الصحيح كى نخرج من الموات، علنا نلحق بالعالم.
من قبيل جلد الذات أن تقارن بينك وبين غيرك خصوصا إذا كان هذا «الغير» متقدما مثل ألمانيا.. لكن عندما ترى هذا التقدم رؤى العين لا تستطيع أن تمنع نفسك من المقارنة علها تكون مفيدة لحالتنا وليس فقط من قبيل البكاء على الأطلال.
زرت ألمانيا مرتين خلال الشهور الخمسة الأخيرة، الأولى فى أكتوبر الماضى بدعوة من الجامعة الألمانية بالقاهرة، ولم أتمكن من الكتابة عن الزيارة حتى الآن لأننا عدنا للقاهرة ليلة الأحد 9 أكتوبر لنصدم بكارثة ماسبيرو ثم تتالت الأحداث بعدها دون توقف. والمرة الثانية كانت قبل أيام بدعوة من مؤسسة «فريدريش ناومان» لحضور ورشة عمل فى مؤسسة «دويتش فيلا» بعنوان «الحرية والمسئولية: أدوات التنظيم الذاتى فى الإعلام». ضمن مجموعة من صانعى القرار فى الإعلام المصرى ضمت رؤساء ومديرى تحرير ونقيب الصحفيين ومسئولى مواقع إلكترونية وعضو مجلس شعب عن الإخوان المسلمين هو الدكتور سليمان صالح.
الجامع المشترك بين الزيارتين هو مؤسسة دويتش فيلا، وهى مؤسسة إعلامية «عمومية» يفترض أنها مملوكة للدولة والشعب، لكن الحكومة لا تستطيع التأثير فى سياستها التحريرية، النقاش الرئيسى خلال جلسات العمل المكثفة والمتتالية على مدار خمسة أيام هدف للتعريف بالنظام الإعلامى فى ألمانيا والهيئات التى تنظمه. المصريون الحاضرون كانوا مشغولين بكيفية الاستفادة من الدرس الألمانى عله ينفعنا فى عملية الانتقال من «الحالة الكابوس» التى يعيشها الإعلام بفعل سياسات صفوت الشريف وخليفته أنس الفقى. الطبيعى أن البلدان الكبرى تسعى لتكون نموذجا للبلدان النامية وهكذا فإن ألمانيا تريد أن نطبق نموذجها. لكن المشكلة أنك فى السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام يستحيل أن تستورد نموذجا وتطبقه دون تهيئة.
النموذج الألمانى كان لديه «شبح هتلر» فى كل ما يفعله، ولذلك سعى هذا النموذج بكل جهد كى يمنع إعادة إنتاج هتلر وبالتالى فربما صار ديمقراطيا أكثر مما ينبغى، ولا مركزيا بصورة مبالغ فيها، والهدف ألا يعود هتلر جديد.
الدروس من الزيارة الألمانية كثيرة ومتعددة أهمها أنه لا توجد حرية إعلام حقيقية دون وجود ديمقراطية حقيقية، ودون وجود صوت لمن لا صوت لهم، ودون استقلال حقيقى للإعلام، فلا يمكن أن ننتظر استقلالا للإعلام الحكومى وهو يتلقى رواتب موظفيه من الحكومة التى يفترض أن ينتقدها إذا اخطأت.. لكن كيف ومتى نصل إلى هذه الحالة الألمانية؟!
سألت أحد القياديين فى مؤسسة دويتش فيلا: متى تحقق للإعلام الألمانى استقلاله عقب الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية عام 1945، فكانت إجابته أن البريطانيين «المحتلين» لعبوا دورا مهما فى وضع هياكل الإعلام الألمانى بشكله الحالى بل ووضعوا نموذج «هيئة الإذاعة البريطانية» فى الإعلام الحكومى الألمانى، لكن الاستقلال الحقيقى لم يكتمل إلا أوائل الستينيات تقريبا.
هل معنى ذلك أن ننتظر نحن أيضا 15 عاما حتى يتحقق استقلال إعلامنا عن الحكومة؟! نتمنى أن تقصر الفترة جدا لكن دعونا نلقى نظرة معمقة غدا على التجربة الألمانية فربما تكون مفيدة لنا.