فى رواية «الخداع» لكاتبها فيليب روث، يقول بطل الرواية الأمريكى لعشيقته البريطانية: «كلما كنت فى مكان عام بانجلترا، مطعم أو حفلة أو مسرح، ويتصادف أن يذكر شخص كلمة «اليهود»، ألاحظ أن صوته ينخفض قليلا». فأبدت اعتراضا على ملاحظته، مما دفع الأمريكى وهو كاتب فى منتصف العمر للقول: «نعم جميعكم تقولون يهودى بهذه الطريقة. بما فيكم اليهود». وقد أعاد هذا الموقف إلى ذهنى ذكرى: كنت أجلس مع والدتى فى مطعم إيطالى فى حى سانت جونز وود الراقى نحو عام 1970، وبعد أن أشارت إلى عائلة تجلس فى الركن المقابل وقالت إنهم يهود، سألتها عن السبب فى أن صوتها استحال همسا عندما قالت الكلمة. فقالت أمى «أنا لا أهمس» وواصلت تقطيع الاسباجيتى حتى تستطيع أن تتناولها بسهولة بشوكة الطعام. ولكنها كانت طريقة العديد من اليهود الإنجليز فيما يشبه الاعتذار، على نحو محرج بدون وعى. وكان والدى من المهاجرين إلى جنوب أفريقيا. وكانت أولويتهما هى الاندماج، ولم يكونا يعتزمان تغيير اسميهما، كما لم يكونا بصدد إحداث اضطراب. ولم أفكر من قبل كثيرا فى السبب الذى جعلنى أغادر البلد الذى اختاراه، وأصبح أمريكيا، لكن هذا ما حدث، حيث يؤدى أمر إلى الآخر فى الحياة، لكننى عدت قبل عام، وفى بيت شقيقتى، لمح أحد المستأجرين لديها جهاز بلاك بيرى معى، فقال «أوه، لديك بيرى يهودى» فابديت دهشتى، فقال «نعم بيرى يهودى». وسألته عما يعنى، فهز كتفيه قائلا «بلاك بيرى مسنجر»، ولما كنت مازلت لم أفهم قال «كما تعرف.. إنه مجانى». وبقدر فهمى، لم يكن أى من ذلك يحمل حقدا، وإنما كان مجرد بقايا معاداة قديمة للسامية، فمعاداة السامية فى انجلترا المخففة والمتنامية التى تقولَب وتزدرى، كما فى رأى شخص محترم فى منتدى الأثينوم بشأن ترقية يهودى إلى مجلس اللوردات: «هؤلاء الأشخاص بارعون للغاية». أو كما لاحظ جوناثان مارجول فى الجارديان، عندما أظهر مدى محبته للأسرة اليهودية التى انتقلت لتوها إلى القرية قبل أن يضيف: «بالطبع، يكرههم الجميع غيرى». والهوية اليهودية موضوع معقد، وفى أمريكا، اعتبرنى «اليهود الحقيقيين» لست يهوديا بما يكفى، بل يهودى كاره لذاته، لأننى أنتقد إسرائيل وبوجه خاص، توسعها الهازم للذات فى بناء المستوطنات فى الضفة الغربية. بينما فى بريطانيا، أجد نفسى غاضبا من الطريقة المتحفظة والمتسترة لكونك يهوديا، ويهتف بى صوت من داخلى قائلا: كن فخورا، واعلن عن ذاتك، لكن الأمر معقد، فبريطانيا التى تضم 300 ألف يهودى تقريبا، وأكثر من مليونى مسلم، تقع وسط تيارات واسعة النطاق، من الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، والإسلام السياسى. من الناحية التقليدية، فإن معاداة السامية المخففة فى إنجلترا توجد فى الدوائر الرسمية البريطانية أكثر منها وسط الطبقة العاملة، بينما المشاعر المعادية للإسلام تنتشر بين صفوف الطبقة العالمة أكثر منها بين الرسميين. والآن، انضم إلى الخليط السابق، معاداة اليسار الشرسة للصهيونية من النوع الذى أدى للمقاطعات الأكاديمية لإسرائيل فضلا عن بعض المسلمين المعادين للسامية. وفى نفس الوقت، ساعد على تشجيع الإسلاموفوبيا، ما يقوم به اليمين المتطرف من تلفيق للمشهد «الأوروبى العربى»، عبر فانتازيا السيطرة الإسلامية التى دفعت أندرى بريفيك إلى نوبة القتل النرويجية الإسلاموفوبيا، وغذت تعصب اليمين المتطرف الأوروبى والأمريكى. فأين إذن يقف أى يهودى فى بريطانيا يريد أن يجهر برأيه؟ ليس مع أعضاء الكونجرس الذين التقوا فى إسرائيل مع اليمينيين الأوروبيين مثل فيليب دوينتر من بلجيكا باعتقاد شرير أنهم حلفاء لإسرائيل لأنهم يكرهون المسلمين. وليس مع اشباه الكاتب اليهودى ميلانى فيليبس، الذى يعتبر كتابه «لندنستان» مرجعا للمصابين برهاب الإسلام. وليس مع أولئك الذين يقترحون نبذ الأكاديميين الإسرائيليين، وتبنى معاداة الصهيونية التى تغطى على معاداة السامية. وربما كانت نقطة البداية الجيدة، مماثلة لما أوضحته لى مليحة مالك أستاذة القانون فى الكلية الملكية بلندن. فقبل قرن من الزمان، وأثناء حصار شارع سيدنى عام 1911، كان يقال إن يهود الطرف الشرقى من لندن، الذين اعتبروا بلشفيين «متطرفين غرباء». وفى عام 1920، اعتبر وينستون تشرشل، وليس احدا غيره، اليهود جزءا من «مؤامرة عالمية للقضاء على الحضارة، وإعادة تشكيل المجتمع على أساس تقييد التطور». والدرس المستخلص من هذا واضح: ليس بإمكان اليهود، مع تاريخهم المعروف، مواصلة القهر المنهجى لشعب آخر. وعليهم أن يصروا بشدة على أن استمرار احتلال الفلسطينيين فى الضفة الغربية، سوف يزيد من عزلة إسرائيل، وإضعافها فى نهاية المطاف. وهذه هى المهمة الملقاة على يهود الشتات، بدلا من تشجيع الخوف من الإسلام. ويعنى الجهر بهذا الرأى فى بريطانا، مواجهة معاداة السامية المستمرة بصوت خافت، فعدما يعود بطل روث إلى نيويورك، يجد أنه يفتقد أمرا ما، وتسأله حبيبته، التى صارت بعيدة الآن، فيقول: «اليهود» «لدينا بعضهم فى انجلترا، كما تعلم» «أتحدث عن يهود أقوياء، يهود ذوو فطرة، يهود بلا خجل» وأنا أيضا افتقدهم.