فى تقريرها عن مقتل مواطن أمريكى يبلغ من العمر 19 عاما، خلال الغارة الإسرائيلية على السفينة مرمرة التى ترفع العلم التركى فى العام الماضى، قالت الأممالمتحدة: «قتل أحدهم على الأقل، هو فرقان دوجان، بإطلاق الرصاص من مسافة قريبة للغاية. وقد أصيب السيد دوجان، فى الوجه وخلف الجمجمة، والظهر والساق اليسرى. ويشير ذلك إلى أنه ربما كان يرقد مصابا عندما تلقى الرصاصة القاتلة، كما توضح روايات الشهود». ويبدو أن اللجنة المشكلة من أربعة أعضاء برئاسة سير جيفرى بالمر، وهو رئيس وزراء سابق لنيوزيلاندا، تثير بهذه الكلمات احتمالية وقوع عملية إعدام أو ما إلى ذلك. وكان دوجان، المولود فى ولاية نيويورك، طبيبا طموحا، قليل الاهتمام بالسياسة، وفاز فى يانصيب للسفر على متن السفينة المتجهة إلى غزة. ويقول التقرير عنه وعن القتلى الثمانية الآخرين: «ليست هناك أدلة تثبت أن أيا من القتلى كان مسلحا بسلاح قاتل».
وفى العام الماضى، التقيت فى انقرة أحمد، والد دوجان، وهو أستاذ بجامعة أرجييس فى كيسارى، وكان حزنه عميقا بقدر عمق استيائه من مراوغة الولاياتالمتحدة. فمن الصعب تخيل ظروف أخرى، لم تبد فيها الولاياتالأمريكية سوى الصمت إزاء قتل مواطن أمريكى على يد قوات دولة أجنبية فى المياه الدولية.
وذكر لى مسئولون أتراك رفيعو المستوى أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أثار مسألة مصير دوجان مع الرئيس أوباما. ولكن بطبيعة الحال، لا يوجد رئيس أمريكى، وبالتحديد رئيس أمريكى فى فترة ولايته الأولى، من الممكن أن يقول ما قاله ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا: «إن الهجوم الإسرائيلى على أسطول غزة أمر غير مقبول تماما». كما أن إثارة مثل هذه التساؤلات بشأن إسرائيل، أمر محظور سياسيا، حتى فى حالة قتل مواطن أمريكى. فهذا يعد من المحظورات المحرمة فى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل، وهى سياسة خارجية تعد إلى حد كبير سياسة داخلية.
وفى الأسبوع الماضى، تم تسريب تقرير بالمر إلى النيويورك تايمز، وهو يمثل وثيقة توافقية، أدرج فيها العضوان الإسرائيليان اعتراضاتهما. وأرى أن النتيجة التى توصلت إليها اللجنة ممكن أن تترجم إلى رسالة لإسرائيل فحواها: لديك الحق فى ذلك، ولكن ما قمت به كان تجاوزا وغباء واضحا. فقد توصلت إلى أن الحصار البحرى الإسرائيلى لغزة مشروع وملائم «إجراء أمنى مشروع نظرا لمواصلة حماس إطلاق آلاف الصواريخ من الأراضى الفلسطينية على إسرائيل، وأن الأسطول تصرف بتهور فى محاولة كسر الحصار؛ وأن دوافع منظمى الأساطيل تثير شكوكا خطيرة؛ وأن القوات الإسرائيلية واجهت «مقاومة منظمة وعنيفة».
لكنه اعتبر أيضا الهجوم على بعد 72 ميلا بحريا من الأرض «رد فعل بالغ القوة وسريع للغاية». وقال إن الأسطول، لم يكن يمثل أى تهديد عسكرى مباشر لإسرائيل. وكان يتعين توجيه إنذار واضح مسبق. وكان قرار الهجوم على السفينة «مبالغ فيه وغير مبرر». وانتقد إسرائيل بسبب عدم تقديمها «أى توضيح كاف» لحالات الوفيات التسع، أو تفسير «السبب فى استخدام القوة على النحو الذى أسفر عن مثل هذا المستوى الكبير من الإصابات». وظلت اللجنة منزعجة من عدم تقديم إسرائيل تفاصيل حول عملية القتل. واعتبرت أن سياسة إسرائيل بشأن الدخول البرى إلى غزة «لا يمكن تحملها». وبوجه عام، وجدت اللجنة ضرورة أن تصدر إسرائيل «بيان اعتذار ملائم» و«دفع تعويضات لصالح الضحايا القتلى والمصابين وعائلاتهم».
نعم، على إسرائيل أن تفعل ذلك بالضبط، فهى تزداد عزلة. وتقديم اعتذار هو المسار الصحيح والذكى. فما يناسب مصر اعتذار عن خسائر الأرواح يناسب تركيا أيضا.
وقد ظلت إسرائيل وتركيا تتباحثان لمدة تزيد على العام. والتقى فريديون سينيرليوجلو، أحد كبار مسئولى وزارة الخارجية التركية مع عدد كبير من المسئولين الإسرائيليين. وفى بعض الأحيان يكون الاتفاق قريبا، فيجادل ايهود باراك وزير الدفاع ودان ميريدور وزير المخابرات فى مسألة الاعتذار، وقاد أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية الصقور قائلا إن إسرائيل لاتنحنى أبدا، بينما كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتلمس اتجاه الرياح. وفى النهاية فاز ليبرمان واليمين المتطرف.
وقال لى شلومو أفنيرى، احد علماء السياسة الإسرائيليين: «إنها حالة تقليدية، حيث تتغلب اعتبارات الائتلاف على التفكير الاستراتيجى، وتلك مأساة». وأضاف: «إذا وضعنا فى الاعتبار القضية الفلسطينية المثارة فى الأممالمتحدة، والعلاقات مع مصر الجديدة، يجب استخدام الحكمة الاستراتيجية».
وذلك صحيح. ولكن بدلا من ذلك، تخسر إسرائيل إحدى أفضل أصدقائها فى العالم الإسلامى، تركيا، بعدما عاشت داخل عقلية الحصار، يقودها فى ذلك ليبرمان وأمثاله مع عجزهم عن فهم التغير فى الشرق الأوسط الذى تقوده بالمطالبة العربية بالكرامة والحرية، وعدم مرونتهم بشأن توسعة المستوطنات،وتجاهل دعوة الولاياتالمتحدة إلى اعتذار إسرائيل. ويعتبر طرد السفير الإسرائيلى فى الأسبوع الماضى نذير كارثة. ويستحق المجتمع الإسرائيلى ما هو أفضل من ذلك بكثير، كما أظهر خلال الاحتجاجات المدنية.
وفى يوم الأحد، زمجر نتنياهو قائلا «لسنا مضطرين للاعتذار»، وكرر العبارة ثلاث مرات. لقد اختار طريقا لم يكن له ضرورة إلى عزلة تضعف إسرائيل، وتقوض المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، أقرب الحلفاء. ولا أتوقع أن يتخذ أوباما موقفا بهذا الشأن أكثر مما فعل بشأن دوجان.