مرة أخرى، أوروبا فى الهاوية. ويهز اضطرابها أسواق الأسهم العالمية ويغذى مشاعر الخوف ويثير الارتباك. والسؤال الواضح هو: ما الحل؟ والإجابة هى: ليس هناك حل. فأوروبا أمام خيارات، بعضها سيئ وبعضها الآخر أكثر سوءا. وما يؤسف له هو أننا لا نعرف أى هذه الخيارات هو السيئ وأيها الأسوأ. وأفضل ما يمكن تصوره هو أن تظل أوروبا تترنح بين أزمة وأخرى وأن يؤدى ركود اقتصادها إلى إضعاف إمكانية التعافى العالمى الهش بالفعل. والأسوأ هو الهروب الجماعى من منطقة اليورو والهبوط الاقتصادى الحاد الذى يعيد إلى الأذهان تلك الأيام السوداء التى عشناها فى عامى 2008 و2009. ●●●
هل يشك أحد فى أن قيام منطقة اليورو فى عام 1999 كان خطأ فادحا؟ كان الهدف منها حفز ازدهار أوروبا ووحدتها، لكنها أدت إلى العكس تماما؟ كان مجرد الاعتقاد بنجاحها الأولى سببا فى تخفيض معدلات الفائدة فى أطراف أوروبا (اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيرلندا وإيطاليا). وكانت معدلات الفائدة المنخفضة سببا لانتعاش القروض الائتمانية وفقاعات الإسكان، التى ما إن انفجرت حتى جاء الركود وتضخم عجز الميزانية.
وبالنسبة للوحدة الناتج السياسى للنجاح الاقتصادى فاليورو يزرع الضغينة الآن. والألمان والإيطاليون واليونانيون وغيرهم يتشاجرون حول من تقع عليه المسئولية ومن عليه أن يتحمل العبء. وتعوق العملة الموحدة بالفعل الانتعاش الاقتصادى. وإجراءات التقشف الصارمة تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب بغرض تقليل عجز الموازنة تخفض قيمة العملة. ويجعل هذا أسعارها أكثر تنافسية، ويزيد من الصادرات وينشط السياحة. لكن هذا الاختيار ليس متاحا أمام بلدان اليورو، لأنها مربوطة باليورو. كما أن الكلفة الإنسانية هائلة. فالبطالة تصل إلى 14.2% فى أيرلندا، و21.7% فى اليونان، و24.3% فى إسبانيا. فما حجم المعاناة التى يمكن للمجتمعات تحملها دون ثورة عميقة؟
الأول هو انتخابات اليونان فى 17 يونيو، لأنه سيترتب عليها خروج البلاد من منطقة اليورو. فهناك أحد الأحزاب البارزة سيريزا يعد بالتراجع عن اتفاقية التقشف الموقعة مع بلدان المنطقة وصندوق النقد الدولى وبنك أوروبا المركزى. وإذا ما حدث هذا، فإن القروض المشروطة بتطبيق إجراءات التقشف قد تتوقف. وستتبنى اليونان، التى تفتقر إلى اليورو لدفع فواتيرها، سياسة عملة وطنية من شبه المؤكد أن تفقد 50% أو أكثر من قيمتها أمام اليورو.
الحادث الثانى يخص إسبانيا التى دعمت حكومتها بانكيا، وهى من كبار المقرضين، ب19 مليار يورو لتعويض خسائرها بسبب الإقراض. وهناك خشية من أن تحقق البنوك الأخرى المزيد من الخسائر. وهذا الأمر، إلى جانب عجز الموازنة الحالى، من شأنه إحجام المستثمرين وارتفاع معدلات الفائدة فى إسبانيا. وستكون إسبانيا بحاجة إلى الإنقاذ، وهى مهمة ضخمة. فاقتصادها أكبر من اقتصاد اليونان بخمس مرات.
●●●
وبشكل عام، ليس أمام الأعضاء السبعة عشر بمنطق اليورو سوى خياران أحدهما الدفاع عن اليورو مهما كانت الأعباء. فالنتائج العاجلة للخروج من اليورو ستكون أليمة، سواء بالنسبة لليونان أو لغيرها من البلدان. وسيكون الإفلاس مصير بعض الشركات العاجزة عن سداد ديونها باليورو. وستتصاعد معدلات التضخم بصورة جنونية. وستعانى البنوك من زيادة المسحوبات. والأسوأ، فى حال انسحاب اليونان من منطقة اليورو، هو ما يترتب على هذا من ردود أفعال. فالمودعون فى إسبانيا أو إيطاليا أو أيرلندا سيسارعون إلى بنوكهم، ويحاولون سحب اليورو قبل استبداله بعملات وطنية أقل قيمة.
إن الحفاظ على العملة الموحدة يمكن أن يكلف المليارات من اليورو، كما يقول دوجلاس إليوت من معهد بروكينجز. وعلى البنك المركزى الأوروبى أن يضمن ودائع البنوك أو تقديم سلف ضخمة لها لتعويض المسحوبات. وتخفيف التقشف المفروض اليوم سيتطلب المزيد من الاقتراض. إذ من الذى سيقرض؟ المركزى الأوروبى؟ تاريخيا، يؤدى الإسراف فى الإقراض من جانب البنوك المركزية إلى تزايد مخاطر التضخم، على الرغم من أن الكثير من الاقتصاديين يقللون من شأن هذا الآن. وماذا عن «سندات اليورو»، وهى سندات يصدرها كل بلد على حدة لكنها مدعومة من كل البلدان؟ إن هذا يجعل ألمانيا، بمعدلاتها الائتمانية القوية، المقرض الأساسى. ومن الطبيعى أن يقاوم الألمان هذا.
الاحتمال الآخر هو أن نقر بأن الدفاع عن اليورو يشكل هزيمة ذاتية، كما يرى الخبير الاقتصادى ديزموند لاشمان من معهد إنتربرايز الأمريكى. فالاستقطاعات الكبيرة من الإنفاق وزيادة الضرائب على الاقتصادات فى وقت تشهد فيه الركود سيفاقم الركود. والأمل الوحيد لهذه البلدان هو التخلص من اليورو والاستفادة من عملة أرخص.
وبعيدا عن الأعباء الاقتصادية الأولية، ستكون الضربة التى يمكن أن تصيب تماسك أوروبا السياسى أكبر بكثير. وسيسأل الأوروبيون: من الذى قتل اليورو؟ وستكون ألمانيا الخاسر الأكبر.
●●●
تشكل أوروبا خُمس اقتصاد العالم. وتنتشر مؤسساتها متعددة الجنسيات باتساع العالم. وما يحدث فى أوروبا لا يؤثر عليها وحدها فحسب، بل كذلك على الأسواق والثقة فى كل مكان. ويضر الطلب المتراخى على الصادرات الأوروبية يضر بالفعل باقتصادات أخرى. والدرس المهم هنا هو أن الأفكار السيئة تترسخ ما أن نتبناها. وكان اليورو فكرة بالغة السوء يصعب التخلص منها.
جماعة كتاب الواشونطن بوست كل الحقوق محفوظه النشر بإذن خاص