لا يرضى صاحب المسئولية بالتقارير الدورية أو الموسمية أو حتى التقارير المفاجئة، فلابد من استجلاء الحقيقة.. فشئون العباد والبلاد لا تدار بالتسرع ولا بالهوى. قد يقول قائل إن النبى سليمان (عليه السلام) يستطيع أن يسأل ربه أن يخبره عن مدى صدق الهدهد أو كذبه فيأتيه الوحى ببيان كافٍ وشاف. لكن طبيعة المسئولية تفرض بذل الجهد وتحرى الحق بجميع الطرق الإنسانية وبالوسائل المتاحة لها حتى تتوارث الأجيال مبدأ التحرى والتثبت، وذلك يستلزم دوام البحث والاستطلاع وتوثيق النتائج ودوام تحديث تلك المعلومات وعدم الاكتفاء بالتقارير من مصادر متقاربة. يصيغ النبى سليمان (عليه السلام) خطابه بأعلى مستوى من الأدب، وأقصر وأدق تعبير فى كلمات معدودات: «إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ (31)» النمل (30 31) الراسل النبى الملك سليمان، وشرعيته فى الحديث مصدرها الله سبحانه وطبيعة الرسالة ورحمة الرحمن الرحيم مضمون الرسالة: أمر بحضور ملكة سبأ بلقيس من اليمن إلى مقر سليمان عليه السلام.. هذا هو التصرف الأول الذى اتخذه النبى الملك سليمان، وسرعان ما أصدر أمره إلى الهدهد أن يحمل الكتاب ويلقيه فى بلاط بلقيس، ويلتزم الهدهد المسئولية فيحمل الخطاب ثم يلقيه فى بلاط الملكة ثم يتولى عنهم فينظر ماذا يكون أمرهم. ما زال النبى الملك يتابع عمله فيستقبل الهدهد، وقد عاد بخبر بلقيس وما احتالت فى تدبيره من هدية أى «رشوة مبطنة» فى صورة الهدية لسليمان أملا فى رجوعه عن دعوته.. هكذا يفكر كثير من المسئولين إذ يرون أن الدافع الرئيسى وراء كل دعوة هو النفع الشخصى لصاحب الدعوة وشيعته، فإذا بعثت برشوتها فقد حققت له نفعا دون أن يتحمل حربا أو قتالا.. وهذه حالة المرتشين و«البلطجية». ويعود الهدهد بإنذار آخر وأخير يعلن رفض الرشوة قائلا: «قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِىَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ» النمل (36) وحالما يذهب الهدهد بالكتاب الثانى حاملا الإنذار الأخير إلا وتتأكد بلقيس أن قضية سليمان قضية عليا تتجاوز المنافع الخاصة والهدايا والرشا، فتقرر مع قومها الإذعان للحق، ويسرع الهدهد عائدا بخبر استسلام بلقيس وقومها لسليمان، ويواصل الملك النبى مهام مسئوليته فى عرض ما وهبه ربه من قدرات لإقناع بلقيس أن القوة ليست قوة سليمان (عليه السلام)، بل هى قوة الهية يمنحها الله لمن يشاء من عباده لذلك ينكر سليمان (عليه السلام) فى جلب «حجرة عرش بلقيس» إلى ما معه من الآيات والقدرات كما يحكى القرآن: «قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ (40)» النمل (38 40)