غزة: استشهاد 114 شخصا إثر الهجمات الإسرائيلية منذ فجر الأربعاء على قطاع غزة    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: إسرائيل ارتكبت 26 مجزرة دموية في غضون 48 ساعة    رؤساء النواب الأردني والبريطانى يؤكدون ضرورة وقف الحرب على غزة وإنفاذ المساعدات    جلسة مرتقبة بين فيريرا وإدارة الزمالك لحسم التوقيع الرسمي    سنتين خطوبة ولقب عقب الزواج مباشرة.. 12 صورة وأبرز المعلومات عن قصة حب محمد شريف وزوجته    40 حكما يجتازون اختبارات الانضمام لدورة الحصول على رخصة تقنية VAR    أمريكا تتأهل لنهائي كأس كونكاكاف بثنائية في جواتيمالا    انتداب الطب الشرعي لمعاينة جثامين الأطفال الثلاثة بالمنيا    وما زال الحر مستعرا، حالة الطقس اليوم الخميس 3 - 7 - 2025    محكمة أمريكية تقرر الإبقاء على مغني الراب "ديدي" رهن الاعتقال    صبا مبارك تدافع عن شيرين عبد الوهاب: "لما بسمع صوتها بدمّع.. وهي أسطورة حقيقية"    "القائمة الوطنية من أجل مصر" لانتخابات الشيوخ.. تضم 13 حزبًا وتجمعًا سياسيًا    الخارجية الأمريكية: واشنطن لن تتكهن بموعد اتفاق وقف إطلاق النار في أوكرانيا    قوات الدفاع الجوى السعودي تدشن أول سرية من نظام "الثاد" الصاروخي    بعد 12 عامًا.. الإخوان ترفض الاعتراف بسقوطها الشعبي والسياسي    عصام السباعي يكتب: مفاتيح المستقبل    محاضر الغش «بعبع المعلمين» في امتحانات الثانوية!    ترامب: حالات عبور المهاجرين غير الشرعيين الشهر الماضي هي الأدنى في تاريخ الولايات المتحدة    قناة mbc مصر 2 تذيع مباراتين في ربع نهائي كأس العالم للأندية 2025    أيمن يونس يهاجم ترشيح عبدالناصر محمد لمنصب مدير الكرة في الزمالك    النساء على رأس المتضررين ..قانون الإيجار القديم الجديد يهدد الملايين ويكشف غياب العدالة الاجتماعية    رئيس شعبة الدخان يكشف موعد تطبيق زيادة أسعار السجائر الجديدة    تريلا تدهس 7 سيارات أعلى الطريق الدائري بالمعادي.. صور    "المؤتمر" يدفع ب 5 مرشحين على المقاعد الفردية في انتخابات "الشيوخ" بالقاهرة    البلشي: لست مسؤولًا عن تظاهرات أحمد دومة على سلم نقابة الصحفيين    طارق الشيخ يكشف كواليس صداقته مع أحمد عامر..ماذا قال؟    مي عمر أنيقة ونسرين طافش بفستان قصير على البحر.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    ملك أحمد زاهر تحتفل بعيد ميلاد والدتها: إحنا من غيرك دنيتنا تبوظ (صور)    هل الجنة والنار موجودتان الآن؟.. أمين الفتوى يجيب    فرنسا: وفاة طفل وإصابة 29 بسبب إسهال نجم عن تناول لحوم ملوثة    أجمل 10 أهداف فى مباريات دور ال 16 من كأس العالم للأندية (فيديو)    "الصحة العالمية" تطلق مبادرة لزيادة ضرائب التبغ والكحول والمشروبات السكرية    الأعداد المقرر قبولها ب الجامعات الحكومية من حملة شهادات الدبلومات الفنية 2025    تعرَّف علي قيمة بدل المعلم والاعتماد ب مشروع تعديل قانون التعليم (الفئات المستحقة)    زيادة كبيرة في عيار 21 الآن.. مفاجأة بأسعار الذهب اليوم الخميس بالصاغة (محليًا وعالميًا)    للمسافرين.. مواعيد انطلاق القطارات لجميع المحافظات من محطة بنها الخميس 3 يوليو    يكفر ذنوب عام كامل.. موعد صيام يوم عاشوراء 2025 وأفضل الأدعية المستحبة    المصري يكثف مفاوضاته للحصول على خدمات توفيق محمد من بتروجيت    إسماعيل يوسف: الزمالك ليس حكرا على أحد.. ويجب دعم جون إدوارد    مصرع عامل صعقًا بمزرعة دواجن في بلطيم بكفر الشيخ    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات الأخرى اليوم الخميس 3 يوليو 2025    محافظ سوهاج: تخصيص 2.15 مليون فدان لدعم الاستثمار وتحول جذري في الصناعة    سعر البطيخ والخوخ والفاكهة ب الأسواق اليوم الخميس 3 يوليو 2025    وفقًا للكود المصري لمعايير تنسيق عناصر الطرق.. استمرار أعمال التخطيط بإدارة مرور الإسكندرية    وزيرا خارجيتي الإمارات وغانا يبحثان هاتفيا العلاقات الثنائية    مملكة الحرير" يحقق رقمًا قياسيًا على يانغو بلاي ويتصدر الترند لليوم الثالث على التوالي    شاهد.. بهذه الطريقة احتفلت مادلين طبر بثورة 30 يونيو    3 أبراج لديها دائمًا حل لكل مشكلة    رابطة العالم الإسلامي تُدين التصريحات الإسرائيلية بشأن فرض السيادة على الضفة الغربية    "القيادة الآمنة".. حملة قومية لتوعية السائقين بمخاطر المخدرات بالتعاون بين صندوق مكافحة الإدمان والهلال الأحمر    أمين الفتوى: التدخين حرام شرعًا لثبوت ضرره بالقطع من الأطباء    إعدام المواد الغذائية الغير صالحة بمطروح    جاسم الحجي: قوة صناعة المحتوى وأهمية في عصر الإعلام الرقمي    مستشفى الأطفال بجامعة أسيوط تنظم يوم علمي حول أمراض الكلى لدى الأطفال    فريق طبي ينجح في إنقاذ طفلة مولودة في عمر رحمي بمستشفى في الإسكندرية    ما هي الأنماط الغذائية الصحية لمصابين بالأمراض الجلدية؟.. "الصحة" تجيب    هل "الدروب شيبنج" جائز شرعًا؟ أمين الفتوى يجيب    «الإفتاء» توضح حكم صيام يوم عاشوراء منفردًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف نجمع بين التدين.. والتقدم؟
نشر في الشروق الجديد يوم 21 - 10 - 2011

عرفت فى حياتى من جمع بين تدين عميق وإيمان قوى، وبين رغبة صادقة فى تحقيق نهضة شاملة لهذه الأمة، وحيوية جعلته طول حياته ناشطا سياسيا، ينضم إلى هذا الحزب ثم ذاك، على أمل أن يسهم فى تحقيق هذه النهضة التى يرنو إليها.

كان تفسير هذا النوع الفذ من الناس للدين، تفسيرا عقلانيا تماما، فيفهم النصوص الدينية دائما بمعان تتفق مع متطلبات النهضة الاجتماعية والسياسية. ولكنه كان يدرك أيضا أن أعدادا غفيرة من المتدينين فى مصر يقبلون تفسيرات للدين أقل عقلانية، وينشغلون بأمور صغيرة لا علاقة لها بقضية النهضة، بل وقد تتعارض معها فى كثير من الأحيان. لم يتم هذا من عزم هذا النوع المستنير من الناس، ولكنه اعتقد، بسبب ثقته الشديدة بنفسه، وبسلامة موقفه، أنه قادر على التأثير فى هذه الجماهير على نحو يجعلهم يفهمون الدين الفهم الصحيح والايجابى، وعلى تعبئتهم للسير وراءه فى سبل تحقيق الأهداف السامية للأمة.

من هؤلاء الذين عرفتهم وتوفر فيهم هذا الإخلاص للدين، والإخلاص لقضية النهضة فى نفس الوقت، صديقى الراحل عادل حسين. كنت أقدر فيه هذين الموقفين، ولكنى أعترف بأنى أشفقت عليه فى سنواته الأخيرة، عندما رأيته يفشل فى تحقيق هدفه، إذ بدلا من أن يقنع الجماهير الغفيرة بتفسيره العقلانى للدين، رأيته يتزحزح شيئا فشيئا، مقتربا من تفسيرات هذه الجماهير الغفيرة البعيدة عن العقلانية، ورأيته ينشغل أكثر فأكثر ببعض الأمور الصغيرة التى لا علاقة لها بقضية النهضة (ولا بجوهر الدين فى رأيى) بل وقد تتعارض مع كل منهما.

كان لابد أن يذكرنى التحول الذى طرأ على عادل حسين فى سنواته الأخيرة بقصة قصيرة مشهورة للروائى الإنجليزى جورج أورويل، وتحمل عنوانه «إطلاق الرصاص على الفيل». وسبب شهرة هذه القصة هو بالضبط المعنى الذى ذكرنى بصديقى الراحل.

تتخلص القصة فى أن ضابط شرطة بريطانيا، أثناء خدمته فى بورما (وربما كان هذا الضابط هو أورويل نفسه إذ كان يعمل هو أيضا فى فترة من حياته فى جهاز الشرطة البريطانية فى بورما)، كلف بالذهاب إلى منطقة خرج فيها فيل ضخم مجنون، فسار فى شوارع قرية مكتظة بالسكان، وهدد حياة الناس بالخطر. وأعطى الضابط حرية التصرف فى أن يقتل الفيل أو أن يكتفى بصيده وشل حركته. ولكن الضابط أثناء رحلته إلى مكان الفيل، مر بجماهير غفيرة من الناس كانوا قد سمعوا بقصة الفيل، فساروا وراء الضابط آملين أن يروا مشهدا مثيرا، وكانوا يتحفزون لرؤية الفيل مقتولا، ولا يشبع غليلهم مجرد تهدئته أو شل حركته. وأثناء هذه المسيرة، ظل عدد الجماهير السائرة وراء الضابط يزداد شيئا فشيئا، حتى أصبحوا آلافا مؤلفة، كلهم يريدون أن يروا الفيل مقتولا، فإذا بالضابط يعجز عن مقاومة سلطانهم وقوة تأثيرهم، ولو بسبب العدد وحده، وإذا به يطلق النار على الفيل فيرديه قتيلا، ودون أن تكون هناك حاجة فى الواقع للذهاب إلى هذه الدرجة من القسوة فى التعامل مع الفيل.

فى خضم المد الدينى الحالى يثور خوف حقيقى لدى الكثيرين من المثقفين فى مصر (وهو خوف مبرر فى نظرى) من أن يحدث شىء مماثل لما حدث فى قصة أورويل، أى أن تسيطر تفسيرات لا عقلانية للدين، تحملها الجماهير الغفيرة إلى السطح، على التفسيرات الأكثر عقلانية، ومن ثم ان يحل محل الدعوة للتخلص من الاستبداد، نظام جديد مستبد يرغم الناس على الخضوع له، وعلى قبول مظالم جديدة يجرى تطبيقها هذه المرة باسم الدين.

أقول إن لهذا الخوف ما يبرره لأن التدين، كسلوك إنسانى واجتماعى، ينطوى على جرعة كبيرة من العاطفة، والعاطفة من الممكن أن يجرى إخضاعها للعقل، ولكنها كثيرا ما تقوم هى باخضاع العقل وحرفه عن مساره. ما أسهل أن تسود تفسيرات لا عقلانية لما يأمر به الدين أو ينهى عنه، لمجرد أنها التفسيرات التى قبلها عدد كبير من الناس الأعلى صوتا والأشد حماسا.

إن النهر المتدفق سريع الجريان هو الذى يحمل فى مساره مختلف أنواع الشوائب والأعشاب والحجارة، بينما يتخلص النهر بطىء الجريان، أثناء سيره، مما يعلق به من شوائب.

هذا الخطر هو الذى دفع كثيرين من مثقفينا إلى الشك فى قدرة الحركات السياسية التى ترفع شعارات دينية على تحقيق نهضة اجتماعية سياسية، وفضلوا أن يقوم النشاط السياسى وحركات المقاومة على فكر علمانى بحت، على أمل أن تقوم العلمانية بحماية النشاط السياسى من الانحراف والاستبداد واللاعقلانية. ولكن هذا الموقف ينطوى بدوره على خطر. إذ بدلا من أن نحتفظ بالحمية الدينية القوية التى يمكن أن تقوى روح المعارضة والمقاومة، وتسهم فى إنجاحها، ونحاول فقط أن نتخلص من الشوائب إذا بنا نستغنى عن شرط أساسى من شروط نجاح النشاط السياسى، ونجاح الجهود المبذولة لتحقيق النهضة.

وغنى عن البيان أن العلمانية بدورها، ليست كافية لحماية النشاط السياسى من الوقوع فى الشطط واللاعقلانية. فالنشاط السياسى القائم على أسس علمانية بحتة لم ينجح دائما فى أن يحمى نفسه من الشوائب والانحرافات، بل وقد تقترن العلمانية أيضا بما يشبه التقديس فى موقفها من زعمائها، فتعتبرهم بمثابة «السلف الصالح»، وتنتهى إلى درجة عالية من الاستبداد والتسلط، كما نعرف جيدا من تاريخ الستالينية والنازية والفاشية.

كثيرا ما يدفعنى هذا إلى أن أقول لنفسى أن الميل إلى «الميتافيزيقا» (أى إلى اعتناق أفكار تتجاوز الملموس والمحسوس من الظواهر الطبيعية) قد يكون أقوى بكثير مما نظن. وأن التدين ليس إلا شكلا واحدا من أشكال الموقف الميتافيزيقى. فكثيرا ما ينطوى الموقف العلمانى على موقف ميتافيزيقى أيضا. والموقف الميتافيزيقى، وليس التدين وحده، هو الذى ينطوى على خطر تغليب العاطفة على العقل، وخطر التشدد والتطرف، وخطر الإفراط فى تقديس المأثور إلى حد التفاوض عن الفروق التاريخية التى تجعل متطلبات عصر معين غير متطلبات عصر آخر، ومن ثم خطر الميل إلى الاستبداد وفرض الرأى الواحد على الغير.

إن المصدر الأصلى لكل أنواع التفكير الميتافيزيقى قد يكون حاجة دفينة فى الإنسان، قد يكون وراءها دافع بيولوجى. وهذا الموقف الميتافيزيقى كثيرا ما يكون مصدر قوة للنشاط السياسى ودافعا مهما من دوافع النهضة والتقدم، ولكنه هو نفسه الذى يحمل خطر انحراف النشاط السياسى عن مساره.

نحن إذن أمام مشكلة عويصة ليس من السهل حلها: لدينا شىء ثمين للغاية هو الميتافيزيقا، التى تثير الحمية والحماس، وتجمع الصفوف تبث شعورا قويا بالولاء والنسب، وهى أشياء ثمينة جدا لأى نشاط سياسى ولأى عمل يستهدف نهضة الأمة، ولكنها معرضة دائما للاختلاف بعواطف متطرفة قد تؤدى إلى الابتعاد عن الهدف الأصلى.

كيف نخلص النهر المتدفق سريع الجريان، مما يلحق به من شوائب وأعشاب دون أن نقلل من سرعته؟ كيف نحافظ على الحمية والحماس والاستعداد للتضحية، المستمد من التدين العميق، مع المحافظة فى الوقت نفسه على العقلانية والتسامح مع المختلفين عنا فى الرأى بل وحتى فى العقيدة، ولكنهم يتفقون معنا فى التطلع إلى تقدم الأمة؟ كيف نزيل الشوائب التى علقت بالدرة الثمينة دون أن نفقد فى غمار ذلك الدرة الثمينة نفسها؟

المهمة صعبة حقا، ولكن تاريخنا الثقافى لا يخلو من أمثلة جمعت بين هذين الشرطين. فالقرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية الرائعة، جمعت بين الشرطين، كما أن تاريخنا الحديث لا يخلو من أمثلة لمثقفين عظام نجحوا أو كادوا ينجحون فى تحقيق هذا الجمع، نجاحا باهرا، وتركوا أثرا حميدا وباقيا فى حياتنا الثقافية والسياسية على السواء. إنى واحد من كثيرين ممن يعتبرون من بين هؤلاء المثقفين العظام الشيخ محمد عبده، حيث اقترنت لديه الدعوة إلى مقاومة الظلم والاستبداد، وإلى العمل من أجل تحقيق نهضة شاملة للأمة، بحمية دينية قوية، وخالية من أى أثر للتطرف والتسلط واللاعقلانية، مع تسامح رائع مع أصحاب الآراء والعقائد المغايرة.

ولكن أعود فأقول إن النجاح النسبى الذى حققه هؤلاء المثقفون العظام، فى كسب المؤيدين والأنصار، بينما تكاد تخلو حياتنا الثقافية الآن من شبيه لهم، قد يعود إلى الاختلاف الشديد بين المناخ الاجتماعى الذى كانوا يكتبون ويفكرون فيه فى أواخر القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، وبين المناخ الاجتماعى الذى نعيش فيه الآن.

نعم، لا شك عندى فى أن من المهام الرئيسية للمثقفين المصريين والعرب والمسلمين الآن، إحياء فكر رجال عظام من نوع الشيخ محمد عبده، ولكنى لست من الغفلة بحيث أتصور أنها مهمة سهلة فى ظروف كالتى نعيش فيها اليوم. وكثيرا ما أقول لنفسى إن النجاح فى هذا المجال، أى فى تحقيق الجمع بين التدين والتقدم، سيتطلب أولا نجاحا فى مجال مختلف عنه ولكنه وثيق الصلة به، وهو مجال التقدم الاقتصادى، أى رفع مستوى المعيشة للغالبية من الناس وتحقيق قدر أكبر بكثير من العدالة الاجتماعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.