إيبرل: دوناروما لم يبد الاحترام عند تدخله على موسيالا    موهبة رائعة ولكن.. "الترحيب بإستيفاو" بين الكوميديا والقلق على مستقبله في بريميرليج    بسبب ارتفاع درجات الحرارة.. اتحاد الكرة يوافق على تأجيل انطلاق مباريات القسم الثاني    رجال أعمال ومستثمرون: مصر تمتلك مقومات التحول لمركز حقيقى للصناعة على مستوى الشرق الأوسط وإفريقيا    الإيجار القديم.. النائب محمد الفيومي: الحكومة جادة في توفير وحدات بديلة للمستأجرين    زراعة 1271 فدان عباد شمس في محافظة الإسماعيلية    السفير بسام راضي يعلق على فوز مرشح مصر بمنصب رئيس مجلس الفاو    الشرطة الألمانية تمنع استكمال مسيرة داعمة لفلسطين في برلين    تعرف على تشكيل بوروسيا دورتموند أمام ريال مدريد في كأس العالم للأندية    كفانا عنترية وعواطف    4 مرشحين حزبيين يتقدمون لانتخابات الشيوخ بالسويس في اليوم الأول    مختار نوح: الإخوان خططت لحوادث على الطرق وطردت من الجماعة لهذا السبب    تداول بضائع وحاويات 27 سفينة متنوعة في ميناء دمياط    أهالي قرية منيل دويب بالمنوفية يشيعون جثمان أسامة ضحية حادث الإقليمي الجديد    أحمد موسى مهاجما سائق حادث الإقليمي: كل همه الفلوس على حساب أرواح الناس    مهرجان قسم المسرح الدولي يكشف تفاصيل دورته ال 18 ويكرم فتحي عبدالوهاب    ضرب واشتباكات واختناق مروري.. مشاهد تتصدر حفل عمرو دياب في مراسي أمس    حظك اليوم.. فرص للحب والعمل ل 4 أبراج والجدي تنتظره مفاجأة    وكيل صحة القليوبية يتفقد مستشفى أبو المنجا وبهتيم المركزي    طبق عاشوراء بين التراث والغذاء الصحي: تعرف على فوائده وشروط تحضيره المثالي    الأشخاص الذين يفعلون هذه الحركة الغريبة بأعينهم يحبونك في سرهم    ثلاثي منتخب مصر يتأهل لنهائي رجال الخماسي الحديث في كأس العالم 2025 بالإسكندرية    تأجيل اولي جلسات محاكمة 5 رجال أعمال متهمين بتمويل الإرهاب ل 9 سبتمبر    البنك الأهلى يقترب من التعاقد مع محمود عماد صانع ألعاب فاركو    "أوبك+" يرفع إنتاج النفط في أغسطس 548 ألف برميل يوميا    أمينة الفتوى: "مقولة على قد فلوسهم" تخالف تعاليم الإسلام والعمل عبادة يُراقبها الله    أسماء الفائزين فى الموسم الرابع من المسابقة العالمية للوافدين والأجانب بالأزهر    الهيئة الوطنية تعلن انتهاء اليوم الأول من فتح باب الترشح لانتخابات مجلس الشيوخ    أيمن الرقب: ترامب وإدارته جزء من المقتلة الكبيرة ضد المدنيين في قطاع غزة    غدًا.. النواب يستكمل مناقشة قانون المهن الطبية    وزير الخارجية يجري اتصالات دولية وإقليمية لدعم الأمن وخفض التوترات في الشرق الأوسط    تأييد حكم السجن 7 سنوات للمتهمين بقتل جارهم في الوراق    الأمين العام للأمم المتحدة يُحذّر من خطر نووى فى زابوريجيا    أمريكا.. مقتل 27 شخصًا جراء فيضانات مفاجئة وسط ولاية تكساس    "المخدرات مش هتضيعك لوحدك" حملة لرفع وعى السائقين بخطورة الإدمان.. فيديو    إجتماع تنسيقي بين «الرعاية الصحية» و«التأمين الصحي الشامل» في أسوان    كاتبة إسرائيلية: الدمار الحقيقي بغزة يتضح بعد انتهاء الحرب ودخول المراسلين الأجانب للقطاع    وزير الرياضة يفتتح منشآت جديدة بمركز التنمية الشبابية بالساحل    "بقت إدمان".. رئيس تحرير مجلة الزمالك السابق يثير الجدل بشأن صفقة جديدة للأهلي    محلل بريطاني: انتقادات زيلينسكي قد تدفع ترامب للانسحاب من تسوية الحرب الروسية الأوكرانية    «الصمت أحيانًا يعني أننا تعبنا».. حنان مطاوع توجه رسالة غامضة في أحدث ظهور لها    بمشاركة طلاب صينيين| بالصور.. تنظيم أول مدرسة صيفية بجامعة القاهرة    "بدأت بموقف محرج".. قصة تعارف أمير صلاح الدين وزوجته ليالي    «محتوى البرامج الدراسية» في ندوة تعريفية لطلاب علوم الحاسب بجامعة بنها الأهلية    «المونوريل والبرج الأيقوني».. المشروعات القومية رموز جديدة ب انتخابات مجلس الشيوخ 2025 (فيديو)    فضل صيام عاشوراء.. هل يجوز صيامه منفردًا؟    أحمد نبوي: الأذى النفسي أشد من الجسدي ومواقع التواصل تتحول لساحة ظلم    شريهان تعود للأجواء الفنية بزيارة خاصة لمسرحية "يمين في أول شمال"    وزارة الصحة تطلق منظومة إلكترونية متكاملة لخدمات الكشف الطبي لمرشحي الشيوخ    استمرار تلقي تظلمات الإعدادية بكفر الشيخ حتى 13 يوليو الجاري    بالأسماء.. إصابة 15 شخصًا في انقلاب ميكروباص على صحراوي المنيا    3 وديات.. في الجول يكشف تفاصيل معسكر الأهلي في تونس تحضيرا للموسم الجديد    محافظ بني سويف يستقبل وزير الإسكان والمرافق في بداية زيارته للمحافظة    طقس الأحد شديد الحرارة وشبورة ورطوبة والعظمى بالقاهرة 36 درجة والإسكندرية 31    محافظ المنوفية يتوجه لمستشفى الباجور العام للإطمئنان على الحالة الصحية لمصابي حادث الإقليمي    اختيار ناصيف زيتون لحفل افتتاح مهرجان جرش بالأردن.. وأصالة في ختام الفعاليات    الجار قبل الدار    تعرف على أسعار الحديد في مستهل تعاملات اليوم السبت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التديُّن والتقدم
نشر في الشروق الجديد يوم 07 - 10 - 2011

كانت زيارة السيد رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا لمصر، فى الشهر الماضى، زيارة مثيرة وفريدة من نوعها من أكثر من ناحية. جلبت الفرح لكثير من المصريين (أنا واحد منهم) ولكنها لابد أيضا أثارت القلق لدى البعض الآخر، فى مصر وخارجها.

فها هى تركيا تقدم لنا تجربة مثيرة فى الجمع بين التدين وبين التقدم الاقتصادى والسياسى والاجتماعى، لم ير المصريون أو العرب أو المسلمون مثلها منذ زمن طويل. وهى تجربة حديثة على تركيا أيضا، إذ لا تذكر تركيا فى تاريخها الحديث إلا نوعين من التجارب: تدين مقترن بالتخلف (فى القرون الأخيرة من الخلافة العثمانية)، أو تقدم مقترن بالتنكر الصريح للدين (فى عهد أتاتورك). أما هذا الجمع بين التدين والتقدم، كالذى اتسم به النظام التركى خلال العقد الماضى، فهو شىء جديد ومثير فى نفس الوقت، ويستحق التفكير والتأمل.

لابد من الاعتراف، مع ذلك، بأن هذه الظاهرة التركية قد أصابت بعض المثقفين المصريين بشىء من الحيرة، السيد أردوغان متدين حقا، وتركيا بدأت بلا شك نهضة حقيقية فى مختلف نواحى الحياة، منذ جاء أردوغان إلى الحكم، ولكن أردوغان يجهر صراحة بأن نظام حكمه علمانى، إذ قال إن الدولة التركية تحرص على أن تقف على مسافات متساوية من كل الأديان. كما قال بوضوح إنه وإن كان مسلما متدينا فإنه لا يحكم باسم الإسلام، إذ إنه يعرف أنه كشخص أو كحاكم يمكن أن يخطئ، ولكن الإسلام لا يمكن أن يخطئ، ومن ثم فإنه لو ادعى أنه يحكم باسم الإسلام، قد يلحق الضرر بسمعة الدين الذى يجله ويدين به، إذا ارتكب هو خطأ فى تفسيره.

هذا الجميع بين تدين الحاكم كشخص، وبين علمانية الدولة، هو ما أثار الحيرة لدى بعض المصريين الذين يكرهون وصف العلمانية ويكادون يعتبرونه مرادفا لشىء قريب من الكفر. كيف يمكن التوفيق (هكذا تساءل هذا الفريق من المصريين) بين حبهم وتقديرهم لأردوغان ولتجربته المبهرة فى تركيا، وبين رفضهم للعلمانية التى وصف بها الرجل سياسة الدولة التركية؟

اصارح القارئ بأننى، رغم تفهمى لهذه الحيرة لدى فريق من المصريين، لا أعتبر نفسى من أفراد هذا الفريق، إذ إننى لا أرى تعارضا بين التدين وبين النهضة، ولا بين التدين وبين علمانية الدولة، كما أننى، من ناحية أخرى، لا أشك فى إمكانية التعارض بين بعض أشكال التدين وبين النهضة والتقدم، وهو ما سأحاول بيانه فى هذا المقال، ومقالات تالية.

●●●

نحن نعيش منذ ما يقرب من أربعين عاما، فى حالة يمكن وصفها ب«المد الدينى». البعض يسميها «صحوة دينية» ولكننى أفضل وصف «المد الدينى» لأسباب سوف تتضح بعد قليل.

إنها فترة اتسمت بارتفاع نبرة الخطاب الدينى وانتشاره، وزيادة قوته بل وسطوته مع ميل واضح لتفسير الدين تفسيرا أكثرا تشددا من ذى قبل.

هذا المد الدينى لا يقتصر على دولة واحدة أو عدد قليل من الدول، بل ولا على دين واحد دون غيره من الأديان. فالظاهرة مصرية كما هى عربية، وهى أيضا إيرانية وباكستانية وأفغانية وتركية. وتشمل المسلمين فى البلاد الإسلامية كما تشملهم فى أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما. وهى ظاهرة شملت، ولو بدرجة أقل قوة، شعوبا تدين بالمسيحية، وتنتمى إلى مراحل مختلفة من مراحل التطور الاقتصادى والاجتماعى، من أوروبا والولايات المتحدة إلى أمريكا اللاتينية، إلى الأقليات المسيحية داخل البلاد العربية.

تجلت ظاهرة المد الدينى فى مجالات متعددة من مجالات الحياة الاجتماعية، فى الثقافة والفكر، فى المدارس ووسائل الإعلام، فى زيادة عدد المترددين على المساجد والكنائس، وغيرها من أماكن العبادة، وفى ارتفاع درجة التشدد فى تطبيق شعائر الدين، كما تجلى أثر التدين فى مختلف أنواع السلوك الاجتماعى، فى نوع الملابس، خاصة ملابس النساء، وفى انتشار استخدام التعبيرات الدينية فى الحديث والكتابة، وفى انخفاض درجة التسامح بوجه عام فى التعامل مع أصحاب الديانات الأخرى، وفى ارتفاع درجة التوتر بين المؤمنين بأديان مختلفة... إلخ.

إذا كانت ظاهرة المد الدينى قد زادت قوتها وانتشارها إلى هذا الحد، وامتد تأثيرها إلى مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، فكيف لا نتوقع أن تمتد أيضا إلى النشاط السياسى، وإلى حركات المقاومة السياسية، سواء كانت مقاومة ضد عدوان خارجى أو ضد التسلط والاستبداد فى الداخل؟

كان هذا هو ما حدث بالفعل. فمنذ أوائل السبعينيات نمت الحركات السياسية التى تجمع بين الشعارات السياسية والدينية، كما نمت حركات المقاومة المتخذة طابعا دينيا، والتى تستخدم الخطاب الدينى فى صياغة مواقفها السياسية فى مصر والبلاد العربية الأخرى، التى ترفع شعارات دينية وتصيغ أهدافها صياغة دينية. كما تحول خطاب المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلى من خطاب قومى علمانى إلى خطاب دينى. ورأينا ذلك أيضا فى مقاومة اللبنانيين للعدوان الإسرائيلى فى 1982، ثم فى 2006، وفى ثورة الإيرانيين على حكم الشاه، وفى المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكى البريطانى، ومقاومة الأفغان للاحتلال السوفييتى ثم للاحتلال الأمريكى... إلخ. قد نضيف إلى ذلك بالطبع، مختلف الحركات التى يطلق عليها بحق أو بغير حق وصف «الحركات الإرهابية»، سواء كانت تعبيرا حقيقيا عن حركات دينية قررت أن تستخدم وسائل إرهابية للانتصار للإسلام، أو مجرد محاولات لتشويه صورة الإسلام بوصمه بالإرهاب.

من الصعب أن نفصل هذا الميل المتزايد لاستخدام الخطاب الدينى فى الحركات السياسية عن ظاهرة المد الدينى بصفة عامة.

فإذا كان كل شىء «يتدين»: السلوك اليومى والفكر والتعليم.. إلخ، فلماذا نستغرب أن تتدين أيضا السياسات وحركات المقاومة؟ إننى أميل إلى النظر إلى كل هذا كأجزاء من ظاهرة المد الدينى بصفة عامة، ومن ثم لابد لنا من البحث عن تفسير هذه الظاهرة العامة.

يمكن فى رأيى تفسير نشوء أو نمو ظاهرة المد الدينى خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية بعاملين أساسيين: أحدهما يتعلق بما طرأ من تغير على العلاقات بين الدول والأمم، والآخر بما طرأ على العلاقات الاجتماعية فى داخل البلد الواحد والأمة الواحدة (وكل من العاملين وثيق الصلة فى رأيى بالعامل الآخر وقد يكون الاثنان نتيجة لأسباب مشتركة). وسأتناول هذين العاملين على التوالى.

●●●

أما التطورات التى طرأت على العلاقات الدولية فأقصد بها ما حدث خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية من تصاعد موجة جديدة من العولمة. إننى أصف هذه الموجة من العولمة ب«الجديدة» لأن العولمة ظاهرة قديمة، تعلو وتهبط، تشتد ثم تضعف، ويمكن بلا شك اعتبار الموجات الاستعمارية المتتالية، الحديثة والقديمة، موجات من العولمة، قربت المسافات التى تقطعها السلع والأشخاص ورؤوس الأموال والأفكار والعادات، ولكن هذه الموجة الأخيرة من موجات العولمة تميزت عن موجات العولمة السابقة ببضع سمات لها علاقة وثيقة فى رأيى بظاهرة المد الدينى.

إن موجات الاستعمار كلها، قديمها وحديثها، كان لها دائما دوافع اقتصادية قوية (حتى وإن اقترنت أحيانا بدوافع أخرى عسكرية أو سياسية أو أيديولوجية). وتتمثل هذه الدوافع الاقتصادية فى الرغبة فى الحصول على مواد أولية رخيصة، أو عمل رخيص، أو فتح أسواق جديدة أو مجالات جديدة للاستثمار، أو كل هذا معا. وقد كانت هذه الدوافع الاقتصادية فى المراحل المتعاقبة من التاريخ، تحفز دولة قوية إلى احتلال دولة أخرى أضعف منها، أى إلى الاعتداء العسكرى. ولكن الدوافع الاقتصادية وراء الموجة الاستعمارية الحالية (وإن اتخذت أحيانا صورة الاحتلال والاعتداء العسكرى) تحفز الدول والشركات إلى الاعتداء فى مجالات أخرى أيضا وبصور مختلفة. نعم، مازال الاحتلال والاعتداء العسكرى من أدوات الاستعمار، ووسيلة من وسائل تأمين الحصول على مواد أولية رخيصة وعمل رخيص، وتصريف السلع الباحثة عن أسواق، وفتح مجالات جديدة للاستثمار، ولكن السلع الباحثة عن أسواق، ذات طبيعة مختلفة عما كانت فى الماضى، ولم يعد القهر المادى أكثر الوسائل فعالية لضمان التسوق وفتح مجالات جديدة للاستثمار، بل أصبحت الوسيلة الفعالة هى الإغراء وتطويع المستهلك بالحسنى. الاستعمار (ويجب ألا نخجل من استخدام هذه الكلمة الآن وكأن ظاهرة الاستعمار لم يعد لها وجود)، يعمل الآن فى ميدان النفس البشرية، ويعتدى على العقول أكثر مما يعمل فى ميدان الحرب والاعتداء المادى. كما أصبح للاستعمار وسائل لتحقيق هذا النوع الجديد من الاعتداء لم تكن موجودة من قبل، أو على الأقل لم تكن موجودة بنفس الدرجة.

لم يعد التهديد موجها للأرض بقدر ما هو موجه للهوية، وعندما تكون الهوية مهددة يستيقظ الحس الدينى، وتهب الحمية الدينية للدفاع. بعبارة أخرى، فى ظل موجات الاستعمار القديمة، يهب المهددون بالاستعمار للدفاع عن أراضيهم وحياتهم برفع السلاح المادى ضد سلاح مادى. أما فى موجة الاستعمار الحالية، فإن المهددين بالعولمة والاغتراب يهب كثيرون للدفاع عن هويتهم بالتمسك بالدين، وتختار المقاومة خطابا يتناسب مع نوع الاعتداء، فإذا به، فى أحوال كثيرة خطاب دينى.

ولكن إلى جانب هذا التطور العالمى (أو الخارجى) كان هناك عامل قوى آخر فى داخل البلد الواحد والأمة الواحدة، ويعمل فى نفس الاتجاه، ويعطى مزيدا من الدعم للمد الدينى.

وسوف أتناول هذا العامل الداخلى فى المقال المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.