لا يُعد وجود الطبقة الوسطى الواسعة ظاهرة تحدث بصورة طبيعية، بل هو نتيجة تأتى بشق الأنفس، بفعل الجهد الفردى الحثيث، والأداء الاجتماعى البارع. عندما ظهرت الطبقة الوسطى فى المجتمعات الأنجلوساكسونية، كانت حياتها غير مستقرة ولا آمنة. وانخرط أبناء الطبقات الوسطى فى أنشطة تتسم بالخطورة والمجازفة، وواجهوا باستمرار خطر الإفلاس، والسجن جراء الاستدانة، والخزى الاجتماعى. وبالمثل، كانت حياة أسر هذه الطبقة مليئة بالأخطار وعدم اليقين. ولم تكن زيجات الطبقة الوسطى زيجات ناتجة عن معارف الأهل، بل كانت ناتجة عن العواطف والاختيار المتبادل. لكن اختيار الشريك كان مغامرة لا يمكن التكهن بنتائجها، حيث كان نجاح الزيجة يعتمد على القيام باختيارات حكيمة، تستند إلى توقعات المستقبل. ومن ثم، كان تاريخ اتساع الطبقة الوسطى بمثابة كفاح متواصل من أجل حماية المزيد من الناس من مخاطر طرق حياة تتسم بالمجازفة. وكان هذا الكفاح هو القوة الدافعة وراء شيوع القيم البرجوازية، كالادخار والرصانة وإرجاء المتعة وضبط النفس والانضباط المالى وإدارة الوقت والسعى إلى التعلم. كما كان هذا الكفاح القوة الدافعة وراء نشأة المؤسسات التطوعية والتعاونية، كروابط الدائنين والنقابات والمكتبات العامة والجمعيات الإصلاحية والأندية المدنية والمنظمات الدينية. وأخيرا، كان ذلك الكفاح القوة الدافعة وراء نظام الخدمات الاجتماعية الحكومية، كمجانية التعليم العالى والمعاشات ومزايا المحاربين القدامى وقروض الجامعات والرهون العقارية المضمونة والتأمين الصحى. وفقط بعدما توافر العديد من هذه الابتكارات الاجتماعية، استطاعت أغلبية كبيرة من الأسر الأمريكية التمتع بالسمات الثلاث لحياة الطبقة الوسطى الآمنة، وهى القدرة على كسب الدخل عبر العمل المنتج المستقر والمتواصل، والقدرة على إقامة زيجات مستقرة تستند إلى تربية الأطفال والحياة الأسرية، والقدرة على الادخار والاستثمار لتحقيق الأهداف المستقبلية ومساعدة الآخرين. واليوم، أصبح عدد أقل كثيرا من الأمريكيين يتمتع بسمة واحدة من السمات الثلاث، بينما أصبح عدد من يتمتعون بالسمات الثلاث قليلا جدا. فقد زاد عدم الأمان بصورة مروعة، خاصة بالنسبة للأغلبية الحاصلة على تعليم متوسط أى ال58% من الأمريكيين الذين لم يدرسوا فى الجامعة أربع سنوات حيث أصبحت حياتهم المهنية والأسرية أقل استقرارا. ولابد من جولة جديدة من الابتكار الاجتماعى، كى يحصل هؤلاء الأمريكيون المتوسطون على مكان آمن داخل الطبقة الوسطى.