ضحى بنفسه من أجل إنقاذ زميلته، عائلة الممثل جوني واكتور تكشف اللحظات الأخيرة قبل مقتله    هيئة السلع التموينية: سلمنا 89 مليار رغيف عيش بمنظومة الدعم حتى الآن    كوريا الشمالية تفاجئ اليابان ب 10 صواريخ باليستية وتستفز جارتها الجنوبية ب"بالونات قمامة" (صور)    ميدو: نظام الدوري البلجيكي هو الأنسب للخروج من الأزمة.. ورسالة شكر ل أحمد دياب    كهربا يعلق على إصابة معلول ويقدم مبادرة لدعم غزة    ثغرة جديدة في نظام تشغيل ايفون.. تفاصيل    خالد أبو بكر يهاجم "المحافظين": "التشكيك بموقف مصر لو اتساب هتبقى زيطة"    انطلاق منتدى التعاون الصينى العربى بحضور الرئيس السيسى بعد قليل    هل تجوز الصدقة على الخالة؟ محمد الجندي يجيب    خالد مرتجي: لن ننسى العامري فاروق.. والخطيب تحمل ما لا يتحمله بشر    اقتحام وسرقة.. جيش الاحتلال يهاجم مدن الضفة الغربية    لحظة محاولة مجهول دهس طلاب يهود في نيويورك (فيديو)    موعد الملاحق.. متى امتحانات الدور الثاني 2024؟    بعد تصريحات «شيكابالا».. «كهربا»: «في ناس مبطلة من 2010 بيروحوا البيت لبابا عشان يجددوا»    أبو الغيط: منتدى التعاون الصيني العربي فكرة جيدة تعكس رغبة مشتركة في بناء علاقات قوية    الطريق إلى يوم التروية.. خطوات الحج 2024 من الألف للياء    طريقة عمل البيتزا في المنزل «بخطوات بسيطة ورخيصة وأحلى من الجاهزة»    تعود للانخفاض.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الخميس 30 مايو بالصاغة    العراق.. سماع دوي انفجار في منطقة الجادرية بالعاصمة بغداد    الحرس الوطنى التونسى ينقذ 17 مهاجرا غير شرعى بسواحل المهدية    توخوا الحذر.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 30 مايو في مصر (حرارة شديدة)    أسعار رغيف العيش الجديدة وحصة الفرد على بطاقات التموين.. هل يتغير الوزن؟    تقوية المناعة: الخطوة الأساسية نحو صحة أفضل    مجدي طلبة: حسام حسن قادر على النجاح مع منتخب مصر    بيبو: التجديد ل معلول؟ كل مسؤولي الأهلي في إجازة    «البوابة نيوز» تهنئ قناة القاهرة الإخبارية على حصدها جائزة التميز الإعلامي العربي    ياسمين صبري: أتمنى أمثل مع توم كروز وليوناردو دي كابريو    اللواء أحمد العوضي ل"الشاهد": سيناء تشهد طفر غير مسبوقة وتنمية كبيرة    عضو جمعية الاقتصاد السياسي: يمكن للمستثمر الاقتراض بضمان أذون الخزانة    ضبط سيدة تبيع السلع المدعومة بالسعر الحر.. نصف طن سكر مدعم و203 زجاجة زيت و800 كيلو عسل    الجيش الأمريكي يعلن تدمير مسيرتين ومنصتي صواريخ للحوثيين في اليمن    وزير الصحة يبحث مع سكرتير الدولة الروسي تعزيز التعاون في مجال تصنيع الدواء والمعدات الطبية    وزيرة الاقتصاد التونسي تؤكد ضرورة توفير المناخات الملائمة للقطاع الخاص في البلدان الأفريقية    كهربا: لن ألعب فى مصر لغير الأهلي وبإمكانى اللعب على حساب مرموش وتريزجيه فى المنتخب    مع زيادة سعر الرغيف 4 أضعاف .. مواطنون: لصوص الانقلاب خلوا أكل العيش مر    وفاة الفنانة التركية غولشاه تشوم أوغلو    أحمد عبد العزيز يكتب // الإدارة ب"العَكْنَنَة"!    بعد مراسم مماثلة ل"عبدالله رمضان" .. جنازة شعبية لشهيد رفح إسلام عبدالرزاق رغم نفي المتحدث العسكري    دون خسائر بشرية.. السيطرة على حريق محل لعب أطفال في الإسكندرية    الحكومة: أي تحريك للأسعار لن يأتي على حساب المواطن.. ومستمرون في دعم محدودي الدخل    73.9 مليار جنيه قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة الأربعاء    كهربا: لم أقصر في مشواري مع الزمالك    استغل غياب الأم.. خمسيني يعتدي جنسيًا على ابنتيه في الهرم    مدير "تعليم دمياط" يتفقد كنترول التعليم الصناعي نظام الثلاث سنوات "قطاع دمياط"    حظك اليوم| برج الأسد 30 مايو.. «يوم عظيم للمساعي الإبداعية والخطط الطموحة»    في ذكري رحيله .. حسن حسني " تميمة الحظ " لنجوم الكوميديا من الشباب    حصري الآن..رابط نتائج الرابع والخامس والسادس الابتدائي الترم الثاني 2024 بالسويس    محافظة القاهرة تشن حملات على شوارع مدينة نصر ومصر الجديدة لرفع الإشغالات    الإفتاء توضح حكم التأخر في توزيع التركة بخلاف رغبة بعض الورثة    آخر تحديث لسعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الخميس 30 مايو 2024    "الصحة الفلسطينية" تعلن استشهاد مسعفين جراء قصف الاحتلال سيارتهما في رفح    خالد مرتجى: معلول من أعظم صفقات الأهلي.. وعشت لحظات صعبة فى مباراة الترجي    تخصيص 65 فدانًا لصالح توسعات جامعة الأقصر بمدينة طيبة    صحة الدقهلية: 7 عمليات بمستشفى المطرية في القافلة الطبية الثالثة    مدير مستشفيات بنى سويف الجامعي: استقبال 60 ألف مريض خلال 4 أشهر    واجبات العمرة والميقات الزماني والمكاني.. أحكام مهمة يوضحها علي جمعة    ما هو اسم الله الأعظم؟.. أسامة قابيل يجيب (فيديو)    رئيس جامعة المنوفية يعلن اعتماد 5 برامج بكلية الهندسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل حزب يمثل العمال والفلاحين الفقراء في سورية - الواقع الراهن ومهماتنا
نشر في مصر الجديدة يوم 13 - 11 - 2011

إنحكم الوضع السوري منذ تسعينات القرن العشرين لمتغيّر عالميّ، تمثّل في انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، وبالتالي تحوّل الولايات المتّحدة إلى «القطب الأوحد» وميلها للتفرّد في تقرير مصير العالم مستندة إلى تفوّقها العسكري المطلق. بعد أن كان قد إنبنى الوضع منذ الخمسينات على أساس التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية، أو بين الولايات المتّحدة والإتحاد السوفييتي، في إطار ما أُسمي الحرب الباردة، التي سمحت بنشوء ميزان قوى عالمي ساعد البلدان المتخلّفة على أن تستقلّ وأن تطمح بتحقيق أهداف كانت السيطرة الإمبريالية تمنعها بالقوّة في الغالب، من هذه الأهداف: التطوّر الاقتصادي وبناء الصناعة، الطموح لتحقيق التوحيد القومي، تطوير القدرات العسكرية، واستقلالية دور الدول في العلاقات الدولية.
بمعنى أن هذه البلدان تمتّعت بحرية المناورة إلى أبعد مدى، كما باللعب على التناقضات. وهذا ما سمح بتحقيق تطوّر معيّن، حيث جرى تدمير البنى الاقتصادية الاجتماعية القديمة ( الإقطاعية )، وبُدِء ببناء الصناعة وتطوير الاقتصاد. لكن طبيعة الفئات التي حكمت، أسّست لنشوء سلطة استبدادية عِبْرها كان يتمّ تحقيق مصالح تلك الفئات، من خلال نهب الرأسمال المتراكم في يد الدولة، والذي نتج عن التأميم والمصادرات، وبالتالي توظيفها في «البناء» الذي بات مشوّهاً نتيجة ذلك. ولكن كانت الحركة السياسية بمجملها تتدمّر، ونشأت أجيال لم تولِ اهتماماً للشأن العام، وبالتالي لم تدخل ميدان النشاط السياسي.
هذا الوضع فرض إعادة البحث من جديد عن أفق للتغيير، حيث تتفاقم الأزمة الاجتماعية نتيجة الوضع المعيشي الصعب الذي باتت تعيشه الطبقات الشعبية، بعد التسارع الذي حكم عملية الخصخصة وتعميم الاقتصاد "الحر"، لكن المهيمن عليه من قبل الرأسمالية الجديدة (مع حصة للرأسمالية القديمة). وتقف استبدادية السلطة في وجه كل محاولات تفعيل الحراك المجتمعي، وهي تدافع عن هذه الرأسمالية التي لها طابع مافيوي واضح، وتسعى للتشبيك مع الرأسمال الإمبريالي من أجل تحقيق مصالحها. رغم "التناقض" الذي يحكم علاقتها مع ذلك الرأسمال، وخصوصاً مع الإمبريالية الأميركية. والذي يبدو ك "تناقض" شكلي لأن الخلاف فيه هو حول شكل السلطة أكثر منه خلاف حول سياسات وأهداف.
وبالتالي فإذا كانت التناقضات الطبقية تتصاعد نتيجة الوضع الاقتصادي، فإنها تتصاعد في إطار وضع عالمي مقلق، وأخطار تعصف في كل المنطقة، انطلاقاً من الميل الإمبريالي الأميركي، والأوروبي إلى الهيمنة وفرض تغييرات عميقة في الجغرافيا السياسية لها. لهذا تعيش سورية وضعاً مربكاً، ومنذراً بتغيّرات عميقة نتيجة تراكب أخطار متعددة، في وضع تبدو فيه قوى التغيير هامشية ومشتتة، وبعضها يتشابك مع الضغوط الإمبريالية.
القسم الأول:
حول الواقع القائم
حدود التغيير وإمكانات مختلف القوى
1) إذا بدأنا بعزل الوضع العالمي والدور الأميركي في الضغط والتغيير، يمكن أن نطرح السؤال: هل هناك إمكانية لتحقيق التغيير من الداخل؟ أي بقوى داخلية؟ سواء هدف التغيير إلى تغيير السلطة أو تغيير آلياتها فقط؟
من الضروري هنا أن نلمس ميزان القوى الداخلي، وطبيعة التوازن بين السلطة كقوّة حاكمة والحركة السياسية المعارضة. ولكن من الضروري أن نلمس كذلك حدود الحراك الاجتماعي، لأن أيّ تغيير، أو أيّ ضغط، لن يكون ممكناً دون قوّة اجتماعية. فقد استندت السلطة في فِعْلها التدميري للحركة السياسية (سواء بدمجها بالسلطة عبر الجبهة، أو بوضعها في السجون وشلّ حركتها المجتمعية) إلى التكوين الطبقي الذي أسهمت في تشكيله، من خلال الإصلاح الزراعي الذي وسّع من الفئات الوسطى في الريف (صغار ملاّك الأرض)، وأيضاً ربط مصلحة الفلاّحين بالدولة عبر الدور التسويقي الذي لعبته، وكذلك دورها في توفير المواد الضرورية للزراعة (البذور والأسمدة واللقاحات والمبيدات). كما من خلال التأميم والتوسّع في التصنيع، الأمر الذي سمح بإيجاد فرص عمل لجيش العمل الاحتياطي الذي تحرّر من الريف بعد قانون الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع. ولقد كانت الدولة المجال الأكبر للتوظيف، في الجيش والأمن والإدارات، مما وسّع كذلك من قاعدة الفئات الوسطى المدينية. وفي إطار كلّ ذلك حقّقت الدولة العديد من المطالب العمالية، فأقرّت تحديد ساعات العمل بثماني ساعات، وحقّقت الضمان الاجتماعي والصحّي، وحقّ العمل ذاته. إضافة إلى تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار عبر ضبط الأسعار والتحكم بالتجارتين الخارجية والداخلية. في الوقت ذاته الذي إنفرض فيه التعليم المجاني الذي لامس أحلام فئات واسعة خصوصاً في الريف الذي كان يشكِّل الكتلة الأساسية من السكان، والكتلة الأساسية التي كانت تعاني أقسى أشكال الاضطهاد الإقطاعي.
و بالتالي تشكّل تكوين طبقي تغلب عليه سيطرة الفئات الوسطى الريفية والمدينية، وتحقّق فيه وضع أفضل للطبقات الفقيرة (العمال والفلاحون الفقراء). وأصبحت الدولة تستحوذ على كتلة أساسية من قوّة العمل، سواء كان عملها في الإدارات أو في المشاريع المملوكة للدولة، أو لها مصلحة في العلاقة مع الدولة (خصوصاً هنا الفلاّحون، وحتى فئة التجار والصناعيين). هذا الوضع كان يقود حُكماً إلى حالة من «الاستقرار الطبقي»، ودعم اجتماعي من كلّ هذه الفئات للسلطة. وبالتالي توفير المقدرة للسيطرة على اتحادات العمال والفلاّحين والطلبة خصوصاً، قبل السيطرة العنيفة على باقي الاتحادات المهنية، التي مثّلت الفئات الوسطى المدينية المطالبة بالديمقراطية خلال أزمة سنوات 1979/ 1980.
هذه الملاحظة الأخيرة يمكن أن تلقي الضوء على مشكلة سوريا نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث نشأت المعارضة من طرفين، الأوّل: هو الفئات الوسطى المدينية التي بدأت تحلم بتحقيق الديمقراطية. ولقد سار في هذا المسار أحزاب متعدِّدة هي التي شكّلت «التجمّع الوطني الديمقراطي»، لكنها شملت فئات مهنية عملت في اتحادات المهندسين والمحامين والأطباء بدرجة أقلّ. والثاني: جماعة الإخوان المسلمين التي عبّرت عن فئات وسطى مدينية كان التطوّر الاقتصادي يهمّشها، وأقصد بالأساس الحرفيين وصغار التجّار، أو البنية التجارية الحرفية التقليدية التي كانت تشكّل عَماد المدن. ولقد جمعت بعض الفئات الريفية في مناطق كانت لازالت مغرقة في التخلّف (حوران وريف حلب خصوصاً). وبين هذا وذاك كان صراع البعث العراقي ضد السلطة من موقع الحلم بالوصول إليها دون أن يكون له أيّ برنامج مختلف، أو رابطة العمل الشيوعي (ثم حزب العمل الشيوعي) التي انطلقت من أن الرأسمالية استنفدت ضرورتها، فاعتقدت بأن الواقع يفرض الانتقال إلى الاشتراكية، وإنْ من أجل تحقيق «البرنامج الانتقالي» أولاً. وبالتالي تضادّت مع الحركة الأصولية ولم تقبل برنامج «التغيير الوطني الديمقراطي» الذي طرحه التجمّع.
و فيما عدا تلك الفئات الوسطى التقليدية والمهنية، كان التكوين الاجتماعي خارج الصراع القائم. حيث كان إما داعماً للسلطة نتيجة مكاسبه، أو محايداً نتيجة وضعه المستقرّ. حتى أن قطاعات أساسية من البرجوازية التقليدية كانت متحالفة مع السلطة، وكيّفت مصالحها معها عبْر تحالف «موضوعي»، رغم «تدخّلات القوّة» التي قامت بها فئات من السلطة ل «الشراكة» الاقتصادية مع هذه الفئات، والتي بدت ك «خوّة». لكن البرجوازية في المقابل استفادت من نهب الدولة بطرق شتّى (المشاركة في مشاريع عبر القطاع المشترك، والتهريب والتسويق للدولة).
و بالتالي كان الصراع (خارج صراع الإخوان المسلمين) يتّخذ شكلاً «سياسياً» فقط، دون قاعدة اجتماعية، وفي إطار مطالب ديمقراطية عامة كانت تعبّر عن ميول فئات وسطى مدينية (رغم وجود بعض المطالب الأخرى المحدودة)، في مواجهة سلطة امتلكت قوّة هائلة نتيجة استنادها إلى قاعدة اجتماعية واسعة. الأمر الذي مكّنها من بناء أجهزة أمنية قوية رغم ضعف فاعليتها، ومستفيدة من الإطار الطائفي في ذلك لضمان الولاء المطلق. مما أسّس لنشوء سلطة مستبدّة فائقة القوّة ومتمكّنة. وبالتالي كانت قادرة على فرض هيمنتها على النقابات والاتحادات والمنظمات التي أنشأت معظمها، وكذلك على المدارس والجامعات، وفي الغالب على المؤسسات الدينية والنوادي الرياضية والمنتديات. أيّ على كلّ أركان المجتمع المدني وعلى معظم أركان الحياة الاقتصادية، والتعليم. وعلى الجيش بكلّ تأكيد. وكذلك على الحياة السياسية بالطبع، خصوصاً بعد دمج أحزاب لها تاريخ مثل الحزب الشيوعي السوري في الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت الغطاء السياسي لممارسات السلطة، وفي الوقت نفسه «الدليل» على تعدديتها! لتبدو السلطة وكأنها تبتلع المجتمع، حيث السياسة المحكومة من قِبل الأجهزة الأمنية تهيمن على الاقتصاد والتكوين الاجتماعي وعلى «الحياة العاديّة»، أيّ على تفاصيل حياة المواطنين «من المهد إلى اللحد»، وهو الأمر الذي أسّس لنشوء السلطة الشمولية.
و كان هذا الوضع يفرض تهميش الحركة السياسية: الملتحقة بالسلطة، والتي أصبحت آلياتها متوافقة مع آليات السلطة، ومحدَّدة بها، وبالتالي لم تكن قادرة على الخروج عنها. والمعارضة التي تعرّضت لضربات أمنيّة قوية، دمّرت قواها، وحوّلتها إلى هوامش، حيث عانت من كون معظم كادرها قد دخل السجون، ومنْ بقي عاش متخفّياً وفي وضع صعب. لكن الأهمّ هنا أن ذاك التكوين الاجتماعي الذي وُجد (والذي كان يعبِّر عن مرحلة انتقال من نمط قديم/ إقطاعي جرى تدميره، إلى آخر جديد كان يتشكّل دون أن يعني ذلك أنه سينتصر) أسَّس لنشوء أجيال لم تدخل المجال السياسي، وظلّت بعيدة عن التفكير والعمل السياسيين، رغم تفتّحها على آفاق من الوعي كبيرة نتيجة التطوّر العام العالمي وتقنيات التواصل والتطوّر المعرفي (بعكس الواقع الريفي السابق الذي جعل المعارف محدودة وإمكانيات التواصل شبه معدومة، مع استمرار الثقافة التقليدية، وهو ما حكم الحركة السياسية السابقة). الأمر الذي فرض إحداث قطيعة بين الحركة السياسية بمختلف أطيافها (فيما عدا حزب السلطة الذي استقطب كل منْ يسعى إلى امتياز مادي أو معنوي، رغم أن هؤلاء ظلّوا دون معرفة سياسية)، وبين المجتمع الذي كان يتشكّل من أبناء هؤلاء الذين حصلوا على الأرض، أو الذين أصبحوا عمالاً أو موظّفين، في دولة باتت هي ربّ العمل الكبير. وإذا كان قد تهمّش وضع الريف السياسي، وكذلك وضع العمال السياسي نتيجة هيمنة السلطة، وبات هؤلاء «يعيشون الحياة» فقط، وما دام كلّ ذلك قد أوجد استقراراً اجتماعياً، فإن «أبناءهم» الذين أصبحوا طلاباً باتوا غير معنيين بالنشاط السياسي، خصوصاً وأن قوّة السلطة القمعية أشارت إلى الخطر الذي يلاحق كلّ منْ يمارس هذا النشاط، إضافة إلى أن «مصالحهم المباشرة» لم تَعُدْ تؤسِّس الدافع للانخراط في العمل السياسي.
وهذا الأمر كان يهمّش الحركة السياسية من جهة، لكنه كان يحوّلها إلى حركة هرمة من جهة أخرى. لأنها لم تَعُدْ تُرفد بناشطين جدد، مما قلّص من مقدرتها وفاعليتها وامتدادها. وحيث باتت متشرنقة في وعيها «القديم» دون رفد جديد، وبالتالي دون المقدرة على رؤية المتحوّلات. مع ملاحظة أن وعيها وتصوّراتها كانت إشكالية، وهذا ما يحتاج إلى بحث جادّ، لكنه كان ينعكس على مقدرتها على وعي التحوّلات التي جرت منذ الوحدة المصرية السورية سنة 1958، وخصوصاً منذ انقلاب آذار سنة 1963. وبالتالي تقديرها للدور الذي يمكن أن تلعبه في الوضع الجديد. وكان ذلك سبباً في أزمتها وتهميشها، حيث أن معظم المهام التي نادت بها لم تخرج عمّا تحقّق، وبعضها كان طموحه أقلّ مما تحقّق، مثل الحزب الشيوعي مثلاً.
ولاشكّ في أن السلطة تسير نحو الضعف والهزال منذ بدء الأزمة الاقتصادية سنوات 1985/ 1986، نتيجة تناقص المساعدات القادمة من الدول النفطية، ووضوح ارتباك البناء الاقتصادي الذي تحقّق خلال عقدين، ومن ثَمّ تصاعد النهب الذي بات قانوناً عاماً، وفرض نشوء تمايز طبقيٍّ واضح خلال العقود الأربعة السابقة، حيث قلّة باتت تمتلك مليارات الدولارات هي تلك التي تبوأت مناصب كبيرة في الدولة، وأكثرية مفقرة. وإلى تأزّم وضع «القطاع العام» وإفلاس شركات عديدة كانت تموّل من ميزانية الدولة، الأمر الذي أوقعها في وضع حرج. وبالتالي تشكّل «طبقة» تميل إلى التخلّص من دور الدولة الاقتصادي، وإلى احتكار السوق لمصلحتها المباشرة. وهو ما فتح الأفق لحراك اجتماعي بدأ في بعض الإضرابات العمالية، وبعض التحرّكات الاحتجاجية. وكذلك فإن الوضع الراهن يتّسم بوجود أزمة اقتصادية طالت الدولة نتيجة تراكم النهب وسوء التخطيط الاقتصادي وقلّة كفاءة المدراء والمسئولين، تنذر بانهيار اقتصادي، في الوقت الذي تتزايد فيه إمكانية تصاعد الحراك الاجتماعي. وفي وضع عالميّ ينذر بالخطر على السلطة التي باتت محاصرة ومهدّدة، وبالأساس على الوطن كله.
بمعنى أن الاستقرار الذي أفادت منه السلطة طيلة عقود بات في مهبّ الريح، وأن قوّتها باتت تتآكل بعد أن انفضت قاعدتها الاجتماعية عنها، وباتت تشكّل خطراً نتيجة أزمتها التي يمكن أن تدفعها إلى «التمرّد» والعصيان.
لكن رغم ذلك، لازالت الحركة السياسية تعيش وضع العقدين الأوّلين من سلطة البعث، وتعتقد بأن قوّة السلطة لازالت كما كانت، وأن الوضع الشعبي لازال كما هو، أو أنها لم تفكّر في النظر إلى واقع الطبقات الشعبية، وكذلك لم تلمس تآكل السلطة وانحدار قوّتها. وإذا كان قد أصبح بمقدورها الجهر بآرائها، فهي لازالت تعتقد بأن هذه السلطة مؤبّدة. ونتيجة الوضع الذي حاولتُ توصيفه للتو، حيث هيمنت السلطة على المجتمع (بالتالي بدا أن ليس هناك مجتمع أصلاً)، وحيث بدت السلطة هي الجبروت، فقد تمركز الخطاب المعارض حول الديمقراطية التي بدت أنها المطلب الوحيد، وتغلّّب الميل لمطالبة السلطة لتغيير ذاتها، أو الحلم بدور «خارجي» لتغييرها. ولقد باتت تتشكّل المعارضة من نخبة من السياسيين القدامى في الغالب، ومن مثقفين، منغلقة ومعزولة عن الواقع الاجتماعي، وبعيدة عن الحراك الاجتماعي الذي بدأ يتشكّل. ولاشكّ في أن التوترات الاجتماعية وحالات الإفقار التي باتت تطال قطاعاً واسعاً من الطبقات الوسطى والدنيا، أصبحت تشكّل الأساس لميل تديّنيّ لدى قطاعات اجتماعية، باتت تشكّل بيئة لحركات أصولية، مثل الإخوان المسلمين و«القاعدة» (أو التيار الوهابي عموماً الذي يبدو أنه هو الذي يقاوم أميركا)، وبالتالي أصبحت قاعدة أساسية لإمكانية تحوّل هذه الجماعات إلى قوّة فعلية. لكن لازال قمع السلطة وإمساكها الوضع الداخلي يمنع تلك الجماعات من الوجود القوي، رغم أن أيّ تحوّل في السلطة باتجاه «انفراج ديمقراطي»، أو نهاية السلطة، سوف يجعلها قوّة فاعلة، بعكس كل الأحزاب الأخرى التي ستبقى تمثّل النخبة السياسية الثقافية. وهذا لا يعني «تخويف» من طرح مسألة التغيير، بل يعني رؤية الوقائع كمقدمة للوصول إلى استنتاجات ضرورية لفعل اليسار الماركسي. وبالتالي يجب أن نلحظ بأن تقوقع النخبة ضمن خطاب «موحّد» دون تمايزات واختلافات هي في صميم الواقع، ويركّز على المستوى السياسي فقط، لن يسهم في أن تتقاطع مع الوضع الاجتماعي المتأزّم والذي يطرح أسئلة أخرى ويطمح إلى مطالب تتعلّق بعيشه قبل أن تطال الديمقراطية. وميزة الأصولية، والتي تجعل منها قوّة قادرة على التغلغل في النسيج الاجتماعي، هي في عنصرين، الأوّل الدين الذي يشكّل جسراً ما وإنْ كان غير كافٍ، حيث يمكن أن يعبّر كذلك عن توترات اجتماعية محدودة، والثاني الصراع العالمي للإسلام الجهادي ضد «الغرب»، وبالتالي تقاطعه مع الميل الشعبي الرافض للسيطرة الأميركية الصهيونية. وسنلمس بأن الموقف من التوترات الاجتماعية غائب لدى النخبة المعارضة، كما أن الموقف من الحرب الإمبريالية الأميركية ملتبس لدى قطاع منها، وهو غائب في فِعلها السياسي كذلك.
و إذا كانت الأزمة الاجتماعية قد بدأت عبر التفارق بين الأجور والأسعار، كما عبر نسبة الفقر التي بلغت وفق إحصاءات رسمية ما يقارب ثلث السكان ( 5،3 مليون شخص )، هم الذين يعيشون تحت خط الفقر ( الذي يساوي دولار واحد في اليوم )، رغم أن نسبة الفقر أعلى من ذلك إذا علمنا أن متوسط دخل الفرد لا يزيد عن مئة دولار، بينما تشير دراسات رسمية أجريت قبل أربع سنوات إلى أن متوسط الدخل الضروري للعيش يجب أن يقارب ال 400 دولار ( 18 ألف ليرة سورية )، وهو مبلغ يساوي أضعاف متوسط الأجور الحالي. وهذا ما يدفع إلى الحراك الاجتماعي. وبالتالي فإذا كانت الأزمة الاجتماعية قد بدأت، فإن الوضع «الموروث» يشير إلى بطء الفاعلية الاجتماعية نتيجة «الخوف» الذي رافق المرحلة السابقة، رغم أن بعض الاحتجاجات قد بدأت، وأن التململ قد أصبح بادياً للعيان. وبالتالي فإن انفجار الوضع ليس قريباً، أو ليس الآن، رغم أنه بات يرفد السياسة بفاعلين جدد ليس من مؤشّر إلى قدرة الأحزاب القائمة على استقطابهم.
و رغم أن قوّة السلطة قد تراجعت، وباتت «مفككة» وهشّة ومأزومة، نتيجة الوضع الاقتصادي الداخلي وخطر تفجّر أزمات متعدّدة، وحدوث اضطرابات اجتماعية، كما نتيجة الوضع الدولي الضاغط، فإن ميزان القوى الداخلي لازال يميل لمصلحتها، حيث – وكما أشرنا – أن القوى المعارضة منحصرة في نخبة سياسية ثقافية «هرمة»، وهذا الانعزال هو الذي جعلها تضخّم من الحاجة إلى الديمقراطية كما نوّهنا قبل قليل، لأنها تعتقد بأن الانفراج الديمقراطي هو الذي سوف يسهّل لها التفاعل مع المجتمع، ويفتح لها أفق التحوّل إلى قوّة سياسية فاعلة. بينما تكمن المشكلة في مسائل أبعد من الاستبداد الذي يفرض المطالبة بالديمقراطية، رغم أهمية ذلك، تتعلّق بوعيها وبنيتها وأهدافها، وخصوصاً تحويل «الحلقة المركزية» التي هي الديمقراطية، إلى حلقة وحيدة، حيث يجري «اللعب» في فضائها دون لمس أسس الاستبداد وبالتالي مشكلات الطبقات الشعبية الناتجة عن النهب الذي كان الاستبداد غطاءه السميك. لهذا يجري تضخيم المطلب الديمقراطي واعتبار أنه هو «الحلّ السحريّ» لكلّ المشكلات، رغم أن الديمقراطية هي – في الوضعية التي نناقشها – آليات سلطة تنظّم الصراع بين قوى اجتماعية سياسية، وتحدِّد كيفية استلام السلطة وتنظيم الحكم. بمعنى أن رؤية الأحزاب للعمل السياسي، النابعة من وعي «بسيط»، هي التي تشكّل مبدأ تقوقعها، وهذا ما لن تحلّه الديمقراطية.
2) لاشكّ في أن انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، قد وضعتا السلطة السورية في مأزق، حيث انتهت الظروف التي كانت تسمح بالمناورة، وبالتالي تحدّد الخيار في الخضوع للقطب الأوحد أو مقاومته، ولأن خيارات السلطة إنبنت على التوازن الدولي فقد باتت تميل إلى التكيّف منذ الاشتراك في الحرب الأميركية الأولى على العراق سنة 1990/ 1991، رغم أن السياسة الأميركية ظلّت تضعها في موقع ملتبس.
لكن المتحوّل العالمي كان عنصراً واحداً، حيث يمكن أن نلمس المتحوّل الداخلي. فقد قادت التجربة ذاتها إلى مشكلات حقيقية، وإلى وضع غير مستقرّ، أو يميل إلى التأزّم. وبات الوضع هشّاً وقابلاً للحراك.
فإذا كانت الإجراءات التي قامت بها السلطة في المرحلة الأولى قد أوجدت قاعدة اجتماعية عريضة تستند إليها، بفعل قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم، وكلّ الإجراءات التي تتعلّق بحقّ العمل والضمان الاجتماعي ومجانية التعليم. وحيث بدا أنها تحقِّق تطوّراً في المجتمع. فقد بدأت الأمور تتوضّح بعد إذ، حيث سنلمس ثلاثة مسائل أساسية حكمت صيرورتها: أ) فقد تبلورت كسلطة فردية دكتاتورية تعتمد على حكم الأجهزة الأمنية، وتأسّست في شكل شموليّ هيمن على كلّ مفاصل المجتمع، من الإدارات البيروقراطية واحتياجات المواطن العادية إلى النقابات والاتحادات، إلى الحياة العادية للمواطنين ( الولادة والزواج والوفاة والحصول على الهوية والمشروع التجاري.....)، بحيث تغلغلت في مسام المجتمع وأصبحت حاضرة في كلّ مكان. وإذا كانت قد سمحت بكلّ نشاط شخصيّ، بما في ذلك السرقة والرشوة، فقد حرّمت النشاط السياسي حتى على القوى التي شكّلت «الجبهة الوطنية التقدمية». وبهذا فقد كانت تتعامل بعنف مع كلّ المعارضين، وتنهي المجال السياسي بشكل تامّ، في الوقت الذي كانت تلغي دورها كدولة لها مهمات تتعلّق بخدمة المواطن وتسهيل نشاطه العادي وتطبيق القانون.
و من هنا نبع الميل للتأكيد على الحريات الأساسية، وحقّ النشاط السياسي والديمقراطية، حيث أن نمط السلطة هذا كان تدخّلياً في المستوى السياسي والإداري إلى أبعد مدى، الأمر الذي قاد إلى توجيه ضربات عنيفة إلى أحزاب المعارضة أنهت بعضها، وهمّشت الآخر. كما قاد إلى حصر نشاط أحزاب الجبهة في إطارات محدودة أضعفتها إلى حدٍّ كبير. بحيث باتت الحركة السياسية تشكِّل هامشاً في الصورة العامة.
ب) وإذا كانت قد تحسّنت أوضاع فئات اجتماعية واسعة في المرحلة الأولى، حيث حصلت على أرض أو على عمل وعلى حقوق، وبالتالي أحسّت بتحسّن كبير في وضعها، تحسّن يوازي النقلة، فإن السنوات الماضية أعادت فرز الوضع الاجتماعي بحيث لم يعد تطوّر الأجور يوازي تصاعد أسعار السلع والاحتياجات الأساسية للحياة، لأن توزيع الثروة أصبح مختلاً لمصلحة فئة محدودة عملت على نهب موارد الدولة، وكانت تستفيد من المشاريع التي تمتلكها الدولة لتحقيق مصالحها الخاصة عبر طرق مختلفة كانت تودي بالمشاريع ذاتها وتنعكس خسارة على الدولة وبالتالي على المجتمع، وهو الأمر الذي يؤسّس الآن للحديث عن تراكم ديون تلك الشركات، وعن ضرورة خصخصتها لأنها أصبحت عبئاً على الدولة دون الإشارة إلى السبب الجوهريّ في ذلك، ألا وهو النهب، ودون التأكيد على أن هناك خيار آخر غير الخصخصة يمكن أن يُتّبع ويجب أن يُتّبع. وبالتالي فقد كان نشاط الدولة الاقتصادي، الذي أفاد قطاعات واسعة من مختلف الطبقات، مجالاً لنهب هذه الفئة للتراكم الرأسمالي الذي من المفترض أنه ملك للمجتمع، وتحويله إلى ثروة خاصة وُضعت غالباً في البنوك الأجنبية، الأمر الذي دمّر صيرورة التطوّر ذاتها وأوصلها إلى مأزق حتميّ.
و لقد أصبح واضحاً أن فئة قليلة باتت تمتلك ثروة هائلة بينما أفقرت قطاعات شعبية كبيرة، وتضعضع وضع الفئات الوسطى، مما بدأ يشكّل قطيعة بين هذه القطاعات ( التي كانت تشكّل قاعدة السلطة ) والسلطة ذاتها. وباتت أوضاعها سيئة، وهي في مرحلة يمكن أن يزداد السوء فيها نتيجة ارتفاع الأسعار دون ارتفاع موازٍ للأجور، ونتيجة الخصخصة والانفتاح على العولمة والتعميم الفظ لليبرالية الجديدة. كما سيقود ذلك إلى ازدياد هائل في عدد العاطلين عن العمل، وفي الحاجة إلى التعليم. وسيقود كذلك إلى انهيار الضمان الاجتماعي وتردّي الوضع الصحّي. وهذه كلها تفرض طرح مطالب جدّية وضرورية، وهي كلها ستكون أساساً لنشوء أزمات اجتماعية حقيقية، خصوصاً بعد تسارع تخلّي الدولة عن دورها عبر خصخصة سريعة، وانفتاح متسارع على «العالم الرأسمالي» كما حدث خلال سنوات 2006/2007 و2008.
ج) والوضع الآن يشير إلى توقّف «التنمية»، حيث أن الميل الليبرالي فرض تراجع دور الدولة الاستثماري، دون أن يكون ممكناً أن يلعب القطاع الخاص الدور الضروري لتشغيل قوّة العمل الفائضة، ولتحقيق «التنمية» عبر التوظيف الضروري في القطاعات المنتجة. وسوف يؤدي الاندماج بالعولمة إلى انهيار ما بُنيَ وقطْع الطريق على أيّ ميل لبناء القوى المنتجة.
وبالتالي فإن القوّة التي إمتلكتها السلطة خلال مراحلها الأولى آخذة في التآكل، وأصبحت أضعف بعد أن انحسرت قاعدتها الاجتماعية. لكن وضع الحركة السياسية ضعيف، وفاعليتها محدودة، وتميل في الغالب نحو موقف ديمقراطيّ ليبراليّ، وبالتالي تبدو أنها تتكيّف مع الميل «الموضوعي» نحو «انتصار الليبرالية» والتبعية للنمط الرأسمالي.
إن تناقضات الوضع الداخلي تتصاعد نتيجة تمركز الثروة وإفقار الطبقات الشعبية، وهو الأمر الذي فرض بدء حراك بطيء لكنه متصاعد. كما أن ضعف السلطة يفرض أن يتحوّل الحراك إلى فعل، وأن يتصاعد كلما تنامى ضعف السلطة. الأمر الذي يشير إلى انفتاح أفق الصراع الداخلي. لكن كلّ ذلك يحدث لحظة الدور الأميركي من أجل التغيير، وبالتالي تحدث كل هذه التحولات وتتنامى الصراعات في وضع دولي تدخلي، يعمل من أجل فرض مصالح الطغم الإمبريالية. وهو الأمر الذي يفرض مواقف واضحة من هذا الدور لأنه يشكل أخطاراً حقيقية راهنة ومستقبلية، ولأنه سوف يجلب مشكلات أعمق في كلّ الأحوال. ولقد قاد استبداد السلطة إلى ضعف الحراك السياسي إلى الحدّ الذي يجعل مواجهة الفعل الأميركي محدودة بعد أن دمّرت السلطة الفعل السياسي، وهي أيضاً ضعفت إلى حدٍّ بعيد.
طبيعة التناقضات ووضع القوى
3) وهذا التحديد للسلطة يعني أننا لا نشير إلى السلطة بالمعنى السياسي فقط ، بل نشير إلى الفئات التي نهبتها والتي أفقرت المجتمع ودمّرت «القطاع العام»، والتي بدأت مصالحها تتشابك مع الرأسمال العالمي. لهذا كانت تميل إلى التفاهم مع الدولة الأميركية والتكيّف مع سياساتها، رغم أن قصر النظر السياسي لديها جعلها ( أو جعل قطاعات متنفّذة منها ) لا تفهم حدود القوّة الأميركية ولا طبيعة سياساتها، وقرارها فيما يتعلّق بالسلطة ذاتها. الأمر الذي دفعها إلى ممارسة تكتيكات خاطئة أسهمت في تورّطها، عبر محاولتها توهّم دور لم يعد ممكناً، ووجود لم يعد متاحاً، واستمرار بات موضع شك.
و كان تناقضها المجتمعي، وليس السياسي الذي تمثّل في استمرار السياسة الأمنية ومنع السياسة في المجتمع فقط، بل تناقضها الطبقي كذلك الذي بات واضحاً عبر تحوّل الفئات الحاكمة إلى «طبقة» بالغة الثراء، نتيجة النهب الذي مورس طيلة العقود الأربعة، قد أوجد «بؤر تفجّر» اجتماعيّ ذات خطورة. بمعنى أن المسألة لم تعد مسألة سلطة تسلّطية فقط ، حيث يمكن تغيير آلياتها باتجاه ديمقراطي، بل غدت مسألة صراع طبقيّ يتخذ أشكالاً طائفية أو قومية أو طبقية صريحة، يمكن أن تتطوّر بتسارع بالتوازي مع خطوات تلك الفئات الحاكمة إلى تسريع النهب، أو التحوّل نحو اقتصاد السوق وإنهاء دور الدولة الرعائي كما حدث في السنة الأخيرة.
هذا الوضع يجعل التناقض بين تلك الفئات والطبقات الشعبية متفاقماً، دون مقدرة على تمويهه أو تحييده. ويجعل تلك الفئات، وبالتالي السلطة، غير قادرة على تخفيضه، لأن ذلك يعني وقف النهب وتوظيف أموال طائلة لتحسين وضع الطبقات الشعبية ذاتها، هي غير موجودة لأنها هُرّبت إلى البنوك الأجنبية، إضافة إلى أن هذه الفئات لم تعد تفكّر أو تمتلك المقدرة على ذلك. وهو الأمر الذي يجعلها لا تميل إلى تقديم تنازلات جدّية داخلية لإعادة ترتيب التناقضات، حيث أن ذلك يفترض تقديم تنازلات جوهرية في المستوى الاقتصادي عبر رفع سريع للأجور بما يحقّق مستوى معيشيّ أفضل، وضبط العلاقات الاقتصادية من أجل التحكّم بالأسعار (وهي تفعل العكس من ذلك)، كما إلى التوظيف الاستثماري بما يسمح بامتصاص البطالة الحالية واستيعاب العمالة الوافدة سنوياً، وبتحريك عجلة التطوّر من جديد. وتنازلات في المستوى السياسي تفرض إنهاء كلّ ما هو استثنائي، وإلغاء الطابع الاستبدادي التدخّلي الشمولي للسلطة، وتحقيق الحرّيات العامة، والاتجاه نحو تأسيس نظام برلماني ينطلق من إلغاء الدستور الحالي وصياغة دستور جديد ديمقراطي ويكرّس العلمانية. وتنازلات أخرى في المستوى الاجتماعي تتعلّق بالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي (أي بدور الدولة الرعائي). لكي يؤسّس كلّ ذلك لتحييد التناقض الكامن بين السلطة والطبقات الشعبية، من أجل توافق على مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي. وهذا الوضع هو الذي جعل السلطة تفكّر في التكيّف مع السياسات الأميركية وليس «التنازل» للطبقات الاجتماعية، حيث باتت مصالح المافيات الحاكمة تترابط مع الرأسمال الإمبريالي وليس مع المجتمع.
و إذا كانت الدولة الأميركية تسعى إلى تغيير السلطة، وتهديد البلد في إطار رؤيتها للوضع الجيوسياسي في المنطقة، فإن المقدرة على التفاهم بين السلطة والطبقات الشعبية لا تبدو ممكنة، حيث أن التناقض العميق في المستويين السياسي ( الاستبداد ) والاقتصادي ( الوضع المعيشي )، يفرض تنازلات كبيرة من السلطة وهو ما لا تميل إلى تحقيقه، رغم أن الميل العام لتلك الفئات الحاكمة هو التفاهم مع الولايات المتحدة والتكيّف مع مشروعها، وهو خيارها الوحيد لأن مصالحها باتت تفرض ذلك.
إذن، سيكون التناقض قائماً في مستوى أوّل بين الطبقات الشعبية والسلطة بصفتها تمثّل فئات مافياوية نهبت «القطاع العام»، وأفقرت تلك الطبقات، وأيضاً بصفتها دكتاتورية انطلاقاً من أن الدكتاتورية هي الغطاء الذي سمح بتحقيق كلّ ذلك النهب، وبالتالي أوجد التمايز الطبقي ( التفارق الطبقي ). لكن التناقض في مستوى ثانٍ هو بين الطبقات الشعبية والمشروع الإمبريالي الأميركي ( أو الإمبريالي بقيادة أميركية )، نتيجة «الطابع العام» للرأسمالية كونها تنهب المجتمعات والطبقات، وتفقر الشعوب وتمنع تطوّرها. وكونها تنزع نحو الحروب البربرية وتميل لاحتلال دول. ونتيجة كونها ( بالتالي ) تحتلّ العراق وفي ترابط لا ينفصم مع الدولة الصهيونية التي تحتلّ فلسطين، وكذلك مجمل سياساتها العامة تجاه الوطن العربي وكسر طموحه نحو الاستقلال والتحرّر والتوحّد (وهذا هو نتاج الشعور القومي العام لديها، والذي هو نتاج الشعور بأن تطورها مرتبط بذلك ). وثالثاً نتيجة استهدافها سوريا وسعيها إلى صياغة النظام السياسي الاقتصادي بما يتوافق مع مشروعها الإمبريالي الصهيوني. ولاشكّ في أن الإحساس بالخطر الأميركي حقيقة واضحة لدى تلك الطبقات.
و في مستوى ثالث فإن «التناقض» بين الفئات الحاكمة والإمبريالية نتج، في لحظة، عن رؤية كلّ طرف لدوره، وبالتالي لدور الآخر، إقليمياً وعربياً. وعن عدم التطابق بين ميل الرأسمالية الإمبريالية لفرض الليبرالية الجديدة المتوحّشة، وبالتالي إطلاق هيمنتها على البنى الاقتصادية ( بما في ذلك تدمير بنى قائمة – الصناعة مثلاً – وإعادة صياغتها ) هذا من جهة، وميل الفئات الحاكمة إلى «الهدوء» في تكييف انفتاحها وخضوعها ( الذي أُسمي التباطؤ في الإصلاح ) من جهة أخرى. لكن يبدو أن الرؤية الأميركية لوضع السلطة لا يقف عند حدّ تغيير السياسات، الأمر الذي جعل «التفاهم» غير مطروح مع السلطة. لكن في وضع السلطة القائمة، فإن مصالح كتلة الفئات التي أثْرت تميل إلى التكيّف، وبالتالي التخلّي عن كلّ العناصر «المعاندة» ( أو المرفوضة )، سواء في المستوى السياسي أو في المستوى الاقتصادي، وهو الأمر الذي يشير إلى هشاشة بنية السلطة وعدم تماسكها أمام الضغوط الأميركية.
و إذا ما نشأ ميل لتخفيض التناقض مع الطبقات الشعبية، إنْ تبلور لدى طرف، فسوف يشقّ الفئات الحاكمة ذاتها، لأن مصالحها لم تعد تتوافق مع ذلك، رغم أنها يمكن أن تميل إلى قبول الشقّ السياسي ( وإنْ في صيغة مشوّهة، رغم أنه لازال كاحتمال ضعيف)، لكن يمكن أن يتحقّق ذلك في إطار سعيها للتكيّف مع «الإرادة الأميركية»، في سياق تطبيق «التصوّر الديمقراطي الأميركي» القائم على تأسيس نظام برلمانيّ فيدراليّ طوائفيّ، يُضعف الدولة ويؤسِّس لتفككها، ويؤسِّس سلطة هزيلة ملحقة.
لهذا فإن تحالف الطبقات الشعبية مع الفئات الحاكمة لمواجهة «الخطر الأميركي»، أو حتى التركيز فقط على ذاك الخطر، يبدو صعباً. وفي كلّ الأحوال فإن قدرات وقف التكيّف مع السيطرة الإمبريالية الأميركية (بغضّ النظر عن شكل هذا التكيّف) يبدو صعباً كذلك، لأن السلطة ليست متماسكة وتميل في الغالب إلى التكيّف. ولهذا فهي لازالت تقمع الحراك السياسي عموماً بما فيه الحراك المناهض للإمبريالية الأميركية، ولازالت تشلّ كلّ إمكانية لتنظيم القوى الهادفة إلى مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.
في هذا الوضع تنطرح مسألة صياغة التحالفات، والتكتيك الضروري الآن. فالتناقض مع المشروع الإمبريالي الأميركي غير قابلٍ للحلّ إلا عبر الصراع، وبالتالي من المنطقي التفكير الجدّي بالمقاومة، وبرؤية عربية للمقاومة مادام المشروع الإمبريالي يطال كلّ الوطن العربي (إضافة إلى آسيا الوسطى وأيضاً العالم). وهذه مسألة تعزِّز الإطار القومي الديمقراطي للعمل.
لكن، وأمام هذا التناقض، لا يبدو ممكناً تشكيل تحالف مع السلطة نتيجة ما سبق، لهذا يمكن الانطلاق الآن (وكلمة الآن مهمة هنا) من التالي:
أ) التأكيد على مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي، والتأكيد على رفض تدخّله وصيغته لتكوين الدولة والمجتمع في سوريا والوطن العربي (والعالم). وهذا المستوى يتخذ شكلاً دعاوياً تحضيرياً، لأن «التلامس» لم يحصل بعد. وسيصبح ملموساً لحظة التدخّل سواء في شكل عسكريّ أو في شكل إقامة سلطة خاضعة.
ب) إن الصراع من أجل انتزاع الديمقراطية وحقوق الطبقات الشعبية يظلّ أساسياً في الممارسة العملية مادامت السلطة مستمرّة، ولهذا يكون الهدف هو تحقيق التغيير الديمقراطي العلماني الذي يحقِّق مطالب الطبقات الشعبية.
ج) لكن وجود الخطر الأميركي يفرض ضمن ما ورد في الفقرة السابقة، التحشيد لمواجهته. والعمل لتفعيل الحراك الاجتماعي هو المدخل لتحقيق التغيير الوطني الديمقراطي العلماني، وتحضير القوى لمواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.
إشكالات رؤية المعارضة
4) انطلاقاً من ذلك يمكن أن نلمس إشكالين يحكمان المستوى السياسي المعارض، ينتجان عن «عقل أحاديّ» يضع المسائل في إطار مبسّط يقوم على ثنائية السلطة أو أميركا، الاستبداد الداخلي أو الخطر الأميركي. الإشكال الأوّل يتمثّل في الميل لاعتبار «الخطر الأميركي» هو التناقض الرئيسي، وبالتالي السعي ل «الالتفاف» حول السلطة وتمتين «الوحدة الوطنية» من أجل مواجهة «المخططات الإمبريالية». وربما كان هذا الميل هو استمرار للمنطق الذي ساد في الحزب الشيوعي السوري، الذي كان يغلّب التناقض الخارجي على التناقضات الداخلية، ويعتبر أن مواجهة الإمبريالية هي التي تحظى بالأولوية بغضّ النظر عن كل «الملاحظات» على الوضع الداخلي، حتى إذا تناقضت الوقائع مع كلّ التوافقات التي تحدَّدت في «ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية».
هذا الميل الذي كان في السابق وينشأ الآن، يقوم على تبخيس المشكلات الداخلية التي تكوّنت خلال العقود السابقة، والتمايز الطبقي الذي تبلور خلال ذلك، على عكس الوضع حينما تحقّق التحالف مع السلطة، حيث كان الاختلاف الجوهري يتمثّل في مسألة طبيعة السلطة فقط، لأن السياسات الاقتصادية التي كانت تنفذ آنئذ لم تكن تخدم المعارضة الديمقراطية لأنها كانت توسع من القاعدة الاجتماعية للسلطة كما أوضحنا، وبالتالي كانت تهيئ لتحالف قوى تحت شعار «مواجهة الإمبريالية والصهيونية». لكن الظرف الراهن يؤشّر إلى تناقض داخليّ عميق لا إمكانية لجسره من أجل تحالف يواجه الخطر الأميركي، خصوصاً أن السلطة مستمرّة في آليات ممارساتها في المستوى السياسي وفي المستوى الاجتماعي الاقتصادي، ولا يبدو أن مصالح الفئات الحاكمة تسمح بذلك كما أشرنا للتو. الأمر الذي يجعل التحالف التحاقاً بسلطة هشّة، وعلى أبواب تغيير بفعل دوليّ وأميركيّ خصوصاً. في وضع لا تضيف القوى السياسية شيئاً في ميزان القوى بعد أن دُمّرت بفعل القمع المديد، وبفعل التحوّلات المجتمعية المشار إليها سابقاً، كما بفعل مشكلاتها الذاتية. وأيّ فعل يفترض فتح السلطة لحرّية الحراك السياسي الاجتماعي من أجل تهيئة القوى لمواجهة الخطر الأميركي.
كما أن «التحالف» الآن، والسلطة هي التي تمارس القمع والنهب، والخطر الأميركي لازال غير ملموس ولا أمر واقع وغير محدَّد الشكل (أي الاحتلال أو التغيير الداخلي)، يجعله التحاقاً من جديد كما كان سنة 1972 حين تأسست الجبهة الوطنية التقدمية، لكن دون جدوى، ودون قبول عام ليس من الأحزاب فقط بل من الطبقات الشعبية كذلك. لهذا سيبدو أن مواجهة الخطر الأميركي سوف تتحقّق فقط بعد أن يكون قد أصبح أمراً واقعاً، وليس قبل ذلك، حيث أن شروط التحالف القادر على المواجهة الآن ليست قائمة، وهي تتعلّق بتنازلات عميقة تقوم بها السلطة بالتحديد.
و ربما نتج هذا الميل عن موقف «غريزيّ» تبلور نتيجة النظر الأحادي الذي تحدَّد في «التناقض الرئيسي»مع الإمبريالية. وهو الخطاب الذي ولّد معكوسه نتيجة هشاشته وتبسيطيته الفظّة، والتي بدت واضحة أمام تطوّرات الوضع الداخلي، وتفاقم الاستبداد والنهب وبالتالي التمايز الطبقي. ولأن المسألة باتت «غريزية» فقد جرى غضّ النظر عن التحوّلات الداخلية ( التي كانت تترافق بامتيازات لأحزاب معيّنة). وظلّ الشعار العام هو: مواجهة الإمبريالية.
و الآن ماذا يمكن أن يضيف أيّ تحالف بعد أن بدت كلّ القوى هشّة، والوضع الداخلي غير قادر على الفعل؟ يمكن أن يضيف فقط اتخاذ موقف يضعف إمكانات المستقبل عبر وضع تلك القوى الداعية إلى ذلك في موقع الالتباس، وربما الشكّ نتيجة تقاربها من السلطة التي أصبحت تمثل فئة مافياوية. وبالتالي فإذا كانت مواجهة «الخطر الأميركي» ضرورة، لكنها لا تفرض التحالف مع السلطة، بل تفرض التعبئة وتحضير القوى المجتمعية للمواجهة حين تصبح قائمة. ومن أجل ذلك ستبرز أهمية الديمقراطية، لأن السعي لمواجهة ذاك الخطر مترابط مع العمل لتحقيقها، كما أن تحقيقها مترابط مع التحضير لمواجهة ذاك الخطر كما أشرت سابقاً.
في المقابل، ينشأ الإشكال الثاني الذي يتمثّل، على العكس، في «الاتكاء» على «الخارج»، وتصوّر أن إنهاء الاستبداد و«نشر الحرّية» لن يكونا إلا بفعل خارجيّ، أميركيّ تحديداً. ولاشكّ في أن القمع العنيف الذي مارسته السلطة، والسجون، وأيضاً الهيمنة الأمنية على المجتمع، كلّها مسائل أسّست ل «وعي» يقوم على أن التغيير الداخلي مستحيل، حتى أن شعار «إلى الأبد» إنغرس في وعي كلّ الذين باتوا يراهنون على «الخارج»، ويتوهمون بأنه يحمل «المنّ والسلوى» الديمقراطية. وإذا كانت طبيعة السلطة الاستبدادية الشمولية مؤذية ومدمّرة، لاشكّ في ذلك، إلا أن الوضع يحتاج إلى أبعد من رؤية هذه «النقطة»، سواء فيما يتعلّق بفهم الوضع الداخلي الآن (وليس في العقدين السابع والثامن خصوصاً)، وكذلك فيما يتعلّق بفهم طبيعة «الخطاب الديمقراطي الأميركي»، وبالتالي الأهداف الأميركية المبنية على المصالح وليس على القيم.
لقد أنتج الشعور ب «العجز» والميل ل «الرد»، الميل إلى رفض كلّ ما قالت به السلطة ( الخطاب الأيديولوجي، حتى بكلماته )، وكلّ ما بنته. وبدت أنها «الشرّ المطلق» الذي ليس من خيار لهزيمته سوى عبر «مخلّص»، وهو ذاك الذي تكون له مخططات لتغيير السلطة ومناصبتها العداء، بغضّ النظر عن كلّ أهدافه أو مصالحه وممارساته. كما قاد رفض الشعارات التي أطلقتها السلطة إلى قبول الشعارات المعاكسة، حيث بدل الاشتراكية (التي كانت توسم بها السلطة ، وحتى لدى الذين لم يقرّوا سابقاً أنها كذلك، باتت لديهم الآن هي كذلك) كانت الليبرالية، وبدل القومية كانت «الدولة الوطنية» و«المتحد الوطني». وبدل مواجهة الإمبريالية النوم في حضنها 0000 الخ.
هذا الخطاب ينطلق من الغريزة في وعي الواقع، وبالتالي ينطلق من ردود الفعل، الأمر الذي يحوّلها إلى «عملية انتقام شخصي» أكثر منها عملية صراع سياسيّ ، وربما مسألة مصالح كذلك لدى فئات منها تحاول أن تركب التغيير من أجل تحقيق "التحول الطبقي". مما يخفض السياسة إلى مسألة «ذاتية»، و«وعي غريزيّ». وهو الأمر الذي يقود إلى وعي الدور الأميركي ك «إله منتقم»، وإلى بوش ك «مخلّص» يحمل رسالة أخلاقية تتمثّل في «نشر الحرّية والديمقراطية» على دبابة. دون الحاجة إلى النظر إلى ما يجري في العراق، وكيف أن وعود الديمقراطية والحرّية تحوّلت إلى فوضى، و«ديمقراطية طوائف» تقوم على المحاصصة، والليبرالية تحوّلت إلى دمار طال البنى التحتية والصناعة 000 الخ. إن الغريزة التي ترفض ما هو قائم تقود إلى قبول الآخر دون وعي بماهيته. فالرفض هو الأساس دون الحاجة لتحديد البديل أو التدقيق في المشاريع المطروحة.
و هنا تقود مواجهة خطر الاستبداد إلى أخطار كبيرة كذلك، دون التأسيس لدور ذاتيّ مستقلّ، يعي ما يريد، ويعمل من أجل تحقيقه. إنه ينتظر المخلّص لتحقيق «الحلم» الذي بدا ك «الحلم الاشتراكي» السابق والمحمول على الدبابة السوفييتية، لكن بشكل معكوس هذه المرّة.
هذان الإشكالان يعبّران عن نزعات من الضروري أن تُكشف وأن تُنقد في سياق السعي لبلورة رؤية جدية. لكن سنلمس أنه في المستوى النظري/ السياسي يمكن أن نلمس إشكالين كذلك، يحتاجان إلى خوض صراع فكريّ معهما، رغم الالتقاء في بعض النقاط، لكنهما يمثّلان اتجاهين لا يسمحان بتحقيق التطوّر ، بل يكرّسان التخلّف والتبعية. واحد في المستوى الاقتصادي ( التيار الليبرالي ) والآخر في المستوى المجتمعي ( التيار الأصولي الإسلامي )، وبالتالي فهما يتوافقان في نقاط أساسية. وربما كانا يهيمنان على وعي النخب ( في السلطة والمعارضة ). ولاشكّ في أن التحوّلات القادمة سوف تجعل منهما تياران قويان، وينشئ «الصدام» معهما، بسبب النتائج الواقعية لدورهما.
فالليبرالية، التي بدأت تصبح خيار النخبة الحاكمة وخيار قوى أساسية في المعارضة، باتت تشكّل تياراً سوف يطبع المرحلة القادمة، ليس على المستوى الفكري فهو أهزل من أن يقدّم فكراً، بل في المستوى العملي عبر تعميم اقتصاد السوق المنفلت، أي دون حساب للواقع ودون ملاحظة انعكاس تعميمه على الطبقات الاجتماعية، وعل مجمل الاقتصاد الوطني، كما على القرار السياسي ودور سوريا العربي والعالمي. الأمر الذي سوف يقود إلى إعادة ربط سوريا بالنمط الرأسمالي العالمي من موقع التبعية، وبالتالي تدمير كلّ القطاعات الاقتصادية التي تشكّلت خلال العقود الماضية، دون بناء قطاعات منتجة جديدة، وبالتالي تعميم الاقتصاد الطفيلي. وهو الأمر الذي سوف يفرض تعميم البطالة والفقر، وإنهاء عملية التطوّر المتوقّفة منذ زمن.
و إذا كانت الفئات الحاكمة قد مالت إلى الليبرالية بعد أن نهبت وأصبحت ذات مصالح خاصة، فإن أزمة الصراع مع السلطة أنتجت الاتجاه ذاته في الحركة السياسية. فقد فرض «العقل الأحادي» الذي اعتبر أن السلطة هي سلطة اشتراكية، فرض أن تصبح الليبرالية هي البديل الوحيد ( البديل المقدّس، فهو نهاية التاريخ ). كما أن الانتماء للماركسية ( وأساساً للمنظومة الاشتراكية ) فرض التحوّل إلى الليبرالية لحظة انهيار تلك المنظومة، حيث بدت الاشتراكية كوهم والليبرالية كواقع راسخ.
و لاشكّ في أن هذا التيار يتقاطع مع الميول التي تراهن على «الخارج»، وربما كانت تلك الميول تعبّر عن الحدّ المتطرّف في التيار الليبرالي، رغم أن هذا التيار يتكيّف في إطار العولمة، ولا يرى إمكانية غير ذلك، دون أن يتوافق بكليته تماماً مع السياسات الإمبريالية الأميركية.
نحن هنا إزاء تيار يسعى لفرض التكيّف مع السيطرة الرأسمالية والاندماج في العولمة، وبالتالي الالتزام بكل السياسات العولمية، خصوصاً تعميم الليبرالية الجديدة وتهزيل دور الدولة، وتمييع مفهوم السيادة الوطنية والاستقلال الوطني. الأمر الذي سوف يفرض تفاقم الأزمات الاجتماعية على ضوء انهيار البنى الاقتصادية القائمة. انهيارها بفعل المنافسة القوية من قِبل الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي باتت تفرض شروطها، وتصيغ الظروف التي تخدم احتكارها.
و نحن هنا إزاء صراع على تحديد اختيارات تمسّ عملية التطوّر أو تنفيها، وبالتالي تمسّ كلّية المجتمع. وتتمحور هذه الاختيارات حول دور الدولة الاقتصادي الرعائي بالأساس، أو السعي لفرض حرّية مطلقة للسوق وللنشاط الرأسمالي يؤسِّس لتنافس غير متكافئ مع احتكارات عالمية قادرة على أن تفرض منطقها على شعوب العالم. ونحن هنا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.