فى الآونة الأخيرة أدلى عدد كبير من كبار المسئولين السياسيين فى الولاياتالمتحدة وإسرائيل وأوروبا بتصريحات علنية تتعلق بكيفية وقف المشروع النووى الإيرانى. لكن عددا قليلا من بينهم كان يقصد فعلا ما يقوله أو يؤمن به. وقد أدى التعارض بين هذه التصريحات إلى حالة من الارتباك، وكشف عدم التنسيق فى المواقف. وحتى الآن يبدو أن الطرف الوحيد الذى لا يعانى من الارتباك هو إيران التى تعتقد أن ليس هناك من ينوى جديا وقف برنامجها النووى. عندما نلقى نظرة على هذه التصريحات المتناقضة، نجد وزير الدفاع الأمريكى ليون بانيتا يعرب عن تقديره أن إسرائيل ستهاجم إيران فى الفترة الواقعة بين نيسان/أبريل وحزيران/ يونيو من هذا العام. لكن بعد ذلك مباشرة يصرح الرئيس الأمريكى باراك أوباما بأن إسرائيل لم تتخذ قرارها بمهاجمة إيران.
أمّا رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكى الجنرال مارتين ديمبسى فقد ألمح خلال الزيارة التى قام بها مؤخرا لإسرائيل إلى عدم وجود تفاهم أو تنسيق بين إسرائيل والولاياتالمتحدة، وقال إنه لا يعلم ما إذا كانت إسرائيل ستخطر الولاياتالمتحدة مسبقا بهجومها على المنشآت النووية الإيرانية فى حال إقدامها على ذلك، وذلك فى الوقت الذى قال فيه أوباما إن التنسيق بين إسرائيل والولاياتالمتحدة اليوم هو أفضل من أى وقت سابق.
●●●
ويبدو أن ما يدور هو عبارة عن عملية شد حبال، ففى حين يقوم بعض المسئولين بالتصعيد وبشد الحبال من أمثال بانيتا وديمبسى، يقوم آخرون بتهدئة الأمور مثلما حاول أوباما أن يفعل من خلال تصريحاته المعتدلة.
يقول أوباما إنه يجب عدم استبعاد أى خيار، بما فى ذلك الخيار العسكرى، الذى يجب أن يبقى كخيار أخير. وتؤمن إدارته بضرورة إعطاء فرصة للعمل الدبلوماسى وللعقوبات القاسية ضد تصدير النفط الإيرانى. وما يتخوف منه أوباما هو أن يكون توجيه إسرائيل ضربة عسكرية لإيران هذا الصيف أمرا سابقا لأوانه ومن شأنه تخريب العقوبات وتوريط الولاياتالمتحدة فى حرب جديدة وهى على أعتاب انتخابات رئاسية.
فى المقابل، هناك حاجة إلى التهديد بعمل عسكرى من أجل إقناع القوى العظمى المترددة، مثل روسيا والصين، بأن العقوبات القاسية هى السبيل الوحيد للحئول دون توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، والتى ستكون بحسب الجميع كارثية.
هناك اختلافات فى الرأى داخل إسرائيل بشأن الضربة العسكرية لإيران وبشأن توقيتها. ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إيهود باراك ووزير الشئون الاستراتيجية «موشيه» يعالون تهدف إلى زيادة الضغط على المجتمع الدولى ودفعه إلى اتخاذ عقوبات أكثر تشددا ضد إيران، أم أنها تعكس تصميما على منع إيران من الحصول على القدرة النووية بكل الوسائل.
تشكك إسرائيل أكثر من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى فى قدرة العقوبات، حتى الصارمة منها، على وقف تقدم المشروع النووى الإيرانى، وهى تعتقد أن العمليات السرية التى استهدفت العلماء الإيرانيين والمرافق الإيرانية النووية لن تفعل أكثر من تأخير الطموحات الإيرانية. وفى جميع الأحوال فإن التسريبات الأخيرة الصادرة عن مسئولين أمريكيين بشأن وقوف إسرائيل وراء الاغتيالات والتفجيرات فى إيران أظهرت عدم التنسيق بين الحليفين. وعلى ما يبدو فإن الولاياتالمتحدة متخوفة من رد إيرانى إرهابى على ما حدث ضد أهداف أمريكية، وهى تريد أن تقول: «لسنا نحن من فعل ذلك، وإنما إسرائيل».
●●●
من جهتها ردت إيران على العقوبات القاسية التى فرضت عليها بالقول إنها ستقدم على إغلاق مضائق هرمز، ولكنها تراجعت عن ذلك بعد إعلان الولاياتالمتحدة أنها ستعيد فتح المضائق بالقوة، فصرح مسئول إيرانى رفيع المستوى بأنه فى ضوء تخطيط إسرائيل لمهاجمة إيران، فإنه يتعين على بلاده أن تتخذ إجراءات وقائية وأن تشن هجمات إرهابية فى شتى أنحاء العالم. فى وقت قال مسئول إيرانى آخر إن إيران مستعدة للعودة إلى المفاوضات للتحاور مع الولاياتالمتحدة وأوروبا.
لكن فى حال فرض عقوبات أكثر قساوة على إيران، وإقدام هذه الأخيرة على إغلاق مضائق هرمز، فإن الولاياتالمتحدة ستضطر إلى استخدام القوة من أجل إعادة فتح المضائق، وتدمير المنشآت النووية الإيرانية. لذا فإذا كانت القيادة الإيرانية عقلانية، فإنها لابد من أن تكون تراوغ فى هذا الموضوع وهى لن تقدم على إغلاق مضيق هرمز.
تتفق أغلبية الدول فى العالم على ضرورة منع إيران من الحصول على القدرة النووية، لكنها تختلف فيما بينها بشأن كيفية تحقيق ذلك، إذ ترفض روسيا والصين الضربة العسكرية وتقولان إن نتائجها ستكون أسوأ بكثير من تحول إيران إلى دولة نووية، وهما تعارضان فرض عقوبات قاسية وتدعوان إلى استئناف المفاوضات مع طهران. ويعارض الزعماء الأوروبيون الهجوم العسكرى أيضا، ويرون أن العقوبات الصارمة هى السبيل الوحيد للحئول دون حدوثه، وقد قرروا تطبيق هذه العقوبات بدءا من تموز/يوليو المقبل. وإذا كانت إيران على وشك صنع السلاح النووى، فإن هذه العقوبات ستصبح عقيمة، فضلا عن ضرورة مشاركة روسيا والصين فى هذه العقوبات كى تصبح فعالة.
●●●
لقد اقترحت كل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى التفاوض مع إيران فى مقابل تجميدها تخصيب اليوارنيوم، الأمر الذى رفضته إيران، وهذا يعنى أن الإيرانيين مستعدون للتفاوض شرط أن يمنحهم هذا الوقت الكافى لاستكمال صنعهم القنبلة النووية.
وكان دنيس روس، المستشار السابق فى الإدارة الأمريكية، قد نشر مقالا فى صحيفة «نيويورك تايمز» قال فيه إنه حان الوقت للبدء بالتفاوض مع إيران.
وقد تفسر إيران هذا الكلام بأنه علامة ضعف من جانب الأمريكيين، وقد تستغل المفاوضات لتجنب التعرض لمزيد من العقوبات فى الوقت الذى تقترب فيه من الحصول على السلاح النووى.
يدعى مسئولون روس وكبار المسئولين الأمريكيين والأوروبيين أن العقوبات الحالية أوجدت أزمة خانقة بالنسبة إلى القيادة الإيرانية والحكومة هناك، وأنها سوف تفتح المجال أمام المسار الدبلوماسى. وفى رأيى أن هذا تقدير خطأ، فلا يكفى أن تخلق العقوبات أزمة كى تكون فعالة، وإنما يجب أن تقنع الحكومة الإيرانية بأن ثمن العقوبات التى تهدد جوهر بقائها أكبر بكثير من فوائد تحولها إلى قوة نووية. وهذا لم يحدث حتى الآن.
إن الأمر الوحيد الذى قد يدفع آيات الله إلى تغيير أهداف مشروعهم النووى هو المزج بين التهديدات العسكرية ذات الصدقية وبين العقوبات الصارمة. لكن حينما تبدو التهديدات العسكرية غامضة نتيجة التصريحات المتناقضة لقادة العالم، وعندما يؤجل قرار فرض عقوبات صارمة على إيران لعدة أشهر ولا يشمل دولا عظمى، فمن المتوقع أن تواصل إيران تطوير سلاحها النووى من دون خوف أو عرقلة.
وللأسف الشديد، يبدو حاليا أن الغرب ليس مصمما فعلا على وقف مشروع التسلح النووى الإيرانى.