وفي كأس مائك تنزوي الأشياء ذائبةً فأنت الذي تذيبُ كلَّ شيءٍ باقتدار.. سنصمتُ مهما تغنَّينا.. ونخضعُ مهما تكبرنا.. ونزوي مهما تماسكنا.. ونرحل مهما تحاببنا.. نفارق مهما تعاشرنا.. فهذه حكمتك وهذه دينونتك: كل شيءٍ ذائقك، فما بالك بالبشر؟! عاد الصوتُ المغرد صافيا ملكا لنا.. رحل فينا وغيَّر وجداننا قبل أن تُرحِّلَه بعيدا في غياباتك.. ورصدنا البهاء المشعَ من هذه الروح، وشربناه، قبل أن تذهب به إلى حيث يذهبون ولا يرجعون..
قلْ لي: لماذا تختار الجياد؟ نعرف أنك نقاد جيد، لكن المعرفة شيء وعين اليقين شيء آخر.
تعرفُ: ستغيب الآن عن حدود بشريتنا، ربما تتحول إلى حدود لا نعرفها، فلم يخبرنا واحد عنها، كل ما نعرفه أنها الآن في برزخ، في معبر، في مسافة من الحلم واليقين، تبعد كثيرا عن أيادينا، في حين تتوغل أكثر في أرواحنا..
تعرفُ مثلي أن الحديث عن الذكرى يُقويها، والآن أنت منحتنا الذكرى صافية، حولت كل أنفاسها البشرية إلى ذكرى، حولت كل أنغام صوتها إلى ذكرى، وجعلت صورَها كلها ذكرى، وقصصها ذكرى، وألمها ذكرى، وفرحها ذكرى، ونشوتها ذكرى، وهواء أنفاسها ذكرى.. فما الذكرى؟! أليست حياة سابقة؟! أليست محبتنا السابقة؟ أليست آلامنا السابقة؟ أليست أحلامنا المتحققة؟ أليست أحلامنا المحبطة؟ أليس الآن بذكرى الغد؟! ألسنا نحن ذكرى؟!
قل لي: من سيكتب ذكراك أنت إذا كنت تكتبنا ذكريات لك؟ ألسنا الآن نكتب ذكرياتنا ونحن نعلن لأنفسنا أننا نحيا الحياة؟! نقولُ لنا: "نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، تردُّ علينا: "أحبوا ما تشاءون.. متى تشاءون.. فإنكم مفارقون.. وسأكتبكم ذكرى"!
ستكتبُ صوتنا في ذكرياتك وأنت تباهي الجميع بقدرتك، أيها الماء الذي يذيبُ كلَّ شيء.. ارتفق بنا.. أعرفُ مثلما تعرف أنك لن تمهلنا ولن تمهلني مهما توددت أو غضبت، لكنه يحب الرفق في الأمر كله.. فهلا ارتفقت قليلا؟!
تعالَ يا صديقي أقصُّ عليك من ذكرها ما استطعتُ إليه سبيلا: صوت نبت في الدماء، شربته الضلوع فارتوت منه حتى الثمالة، قالت لولدها العاشق: "جهزت العشاء ثلاث مرات يا حبيبي وانتظرتك.. لا أطيق أن تداهم بيتي بالصدفة وتجعله "هليهلي" مثلما هو طبعك.. لن أسخن العشاء للمرة الرابعة.. هيا أعطني حريتي وأطلقني في براحك.. ستغني عندها كما لم تفعل سابقا.. سأظل في أنغام عودك.. وستبقى في بحة صوتي للعاشقين أملا في ألا يكرروا أخطائنا.. هيا يا غلامي.. انتظرني في معبرك.. لن أغيب مهما قلتُ لك: "بودعك".. رد الولد العاشق للبنت المعشوقة: "قدر العيون السود أحبك.. تعرفين كم في بلادي من جمال في العيون السود"، لكنك لم تمهل الولدَ كثيرا حتى يكتب من ذكرياته، ويطلقها في الهواء، كي تدندن عاشقة للحبيب: "أحبك".
يا أيُّها الموتُ.. يا صديقٌ اختبرت أساه قبلاً لجلالك ينحني كلُّ شيء وفي كأسِ مائك كلُّ شيءٍ يذوب