التراث الأسطورى ملكي الخاص والمرأة سبب مبهج للتعلق بالعالم الشعراء العرب لم يٌقرأوا كما يجب والكلمات لا يبهجها الشعراء الكسالي
حوار: عزة حسين
ليس فقط لأنه أبرز مؤسسي رابطة الكتاب السوريين الأحرار، التي انطلقت في القاهرة مؤخراً، وضمت عشرات الكتاب السوريين، من تحت القصف ومن الشتات، واتسعت لتضم كتاباً عرب ومصريين، تجدر محاورة الشاعر السوري الكبير نوري الجراح.
الرحالة، بموازاة عشرة دواوين شعرية، وعدة من كتب الرحلة، ومجلة وجائزة تعنيان بكتابات المرأة، وكتباً حازت جوائز في أدب الطفل، وثلاثة مختارات شعرية في ثلاث عواصم عربية، ومجلة للشعر وأفكاره الحرة، وأخرى للنقد، وترجماتٍ لشعره بلإنجليزية، والفرنسية والفارسية، ولقاءاتٍ ومحاضرات، وأسفارٍ، وأكثر من ذلك.
رحلة سوَد الإبداع كافة مربعاتها البيض، حتى ليقفز سؤال مشروع: هل تكفي 56 عاماً لكل هذا الإنتاج؟، وسؤال آخر هو: مالذي لم يفعله نوري الجراح منذ غادر دمشق مطلع الثمانينيات؟
رغم ذلك يتعجب الشاعر، الذي صدرت أعماله الكاملة قبل أربعة أعوام، عندما أصفه بالمبدع غزير الإنتاج: "هل أنا هكذا؟، قد يكون نشاطي العلمي في مجال أدب الرحلات هو ما أوحى لك بغزارة نتاجي." موضحاً أن آخر دوواينه "طريق دمشق" والحديقة الفارسية" صدرا منذ ثمان سنوات.
"لا أعتبر نفسي مكثراً أو مسفاً" يؤكد صاحب "حدائق هاملت"، متوقفاً عند واقع أن الغزارة في ثقافتنا العربية الحديثة ترتبط غالبا بتدني المستوى الإبداعي، ليحيل مسألة الغزارة، "لو صح عليً هذا التوصيف"، إلى نسبة الطاقة التي يتمتع بها الشعراء والكتاب، فهي، بداهة، متفاوتة من شخص إلى آخر. "إنما المهم هو الكيفية التي نكتب بها، نوعية الكتابة، درجة إبداعيتها، وجودتها وابتكاريتها..."
كما لايعتبر نوري أن شعره قرئ كما ينتظر، رغم صدور ثلاثة مختارات شعرية له ببيروت والقاهرة والجزائر هي: "أمير نائم وحملة تنتظر"، "رسائل أوديسيوس"، و"ابتسامة النائم"، لعب كل ٌ منها دوراً في إعادة تقديم شعره للقراء "لاسيما أن وراء هذه الأعمال نقاداً ومبدعين من ذوي التاريخ المشرف أدبيا"، وهو ما يراه الرجل مصدر قيمة لهذه المختارات، ومصدر اعتزاز، دون أن يعني ذلك أنه قرئ كما ينتظر الشاعر أو يفكر في درجة القراءة،"فأنا لا أظن أن الشعراء العرب عموما، باستثناء قلة قليلة، قرئوا كما يٌنتظر أن يقرأوا في أمة قامت ثقافتها الكلاسيكية على الشعر، وشكل الشعر حجر الزاوية في ثقافتها".
أقنعة وملامح
بالانصراف عن الكم، كم الإبداع وكم قراءة منجز نوري الجراح، تظهر بوضوح أحياناً وأحياناً بمواربةٍ، سمات أسلوبية وإبداعية، تتبادل أحجامها ومواقعها عبر مجموعاته الشعرية، كمركزية الغياب، الزوال، الحركة والسفر، مع إمكانية فصل كل ذاتٍ عبر الديوان أو القصيدة عن الذات التي كتبتها، ذلك رغم أنه: " أياً كان المتكلم فهو بالتأكيد أنا، حتى وإن كنت أكتب بضمير الجماعة. وقلما أفعل".
لا يعني هذا أن ثمة يداً، ولو يد الشاعر، ترسم مكان أو حدود هذه الذات قبيل الكتابة، هذه التي يعدها "الصبي" "مغامرة مفتوحة"، يكون قبلها كل شيء غامض وعصي ومن المستحيل التكهن به. وإلا فقدت الكتابة مغامرتها.
"إذا جئتَ ولم أكن/ اترك البابَ، اتركه موارباً/ أوراقي منهوبةٌ والليل يرسل أجنحته/ ... لا تردّ الباب/ اتركه/ اترك الباب موارباً/... إذا جئتَ، ووجدتني ممدّداً/ كالرسالة/ لم تقرأ/ ... كالحبّ، لم يؤخذ، ولم يترك/ مرّ بيدك على أمس الوسادة/ إذ ذاك رفّ طيور في زرقة يصخب المنزل،/ وملائكةٌ، بملابس مرحة، ينهضون بالمائدة».
هي نفس الذات، أنا نوري الجراح حتى لو ارتدت أقنعةً فرعونيةً أو إغريقيةً أو شكسبيريةً، أو حملت أسماء مثل بينيلوب، سيبتيموس سيفيروس، أوزوريس، تيريسياس، ديدالوس، تيلماخوس، إيكاروس، نرسيس، هاملت، أورفيوس أوغيرهم، بما لكلٍ منهم من إحالاتٍ وتاريخ ميثولوجي: "التراث الأسطوري، سواء أكان عراقياً أو سورياً أو فرعونياً او إغريقياً، أو إسلامياً ومسيحياً وغيره هو تراث شخصي لي"، فهو لا ينسى أننا أبناء المتوسط، قلب العالم القديم، وفي القلب منه سوريا " القلب الحقيقي للعالم القديم" فيعد كل ما أبدعته قرائح ناس المتوسط، لاسيما على الضفة الشرقية إرثٌ شخصي له كشاعر، ولع منذ طفولته بالأساطير والحكايات والملاحم التي أبدعتها حضارات المتوسط، وللجغرافيا السورية القديمة نصيب كبير في هذا الإبداع. من هنا بدأت العلاقة بالمادة الأسطورية وبالنسيج الحكائي البطولي والمأساوي على نحو خاص.. ثم تطورت هذه العلاقة حتى شملت الصياغات والمعالجات التي قام بها الأدباء والمسرحيون في العالم كشيكسبير أو جوتة أو دانتي وغيرهم ...
"لكن الأساطير ليست بالنسبة لي معطيات كلاسيكية.. أنا لا أتعامل مع الاساطير والشخصيات الاسطورية كمعطيات نهائية.. بل كعوالم وأرواح متحركة ومتبدلة وقابلة للولادة مجدداً... في صياغات خاصة".
الآخر كحبيب
داخل الشعر وخارجه في مجلة باسم "الكاتبة" انبثقت عنها جائزة بنفس الاسم، تجد للمرأة حضوراً لافتاً يوازي أكثر من نصف حضور ما عداها بمسار كتابة نوري الجراح ك "سبب مبهجٍ ومثير للتعلق بالعالم.
هي، المرأة، الآخر الذي لا يمكن التواصل مع العالم بطريقة مغرية إلا عبره، خاصةً المرأة ك"حبيب"، لكن مع إضافة للملمح السابق كلمة "كان"، فمؤخرا "أشعر أن بوصلتي الشعرية أخذت تتغير. المسألة تتعلق بحواسنا ومشاعرنا في ما قبل الشعر ... إنما دعينا نرى ما الذي سيطرأ على الشعر بفعل ذلك".
ومثلما تتوظف مضامين الشاعر دائم الترحال كمحيلات إلى قديم ماضوي يعيد الإحالة إلى الشاعر نفسه، تتناسخ الإحالات من لغته أكثر من المقولات، كل كلمة، جملة، عبارة هي أحد وجوه المجسم، مجسم الحالة والمبنى الشعري: "أتعامل مع الكلمات في ذاتها ولذاتها، وأترفق بها فأتلمس ظلالها، وأروم منها طرفاً وآثاراً وإيحاءات"، إذ لا يظن أن الكلمات يمكن أن يبهجها الشعراء الكسالى الذين يرمون أنفسهم عليها ارتماءً
"الكلمات أرواح نافرة.. أرواح مرهفة، أرواح مسافرة لا تستجيب أبدا لشاعر ليس لديه طاقة على اللعب"
اللغة كائن حي.. يحب ويكره
مضافٌ إلى سابق الملامح المنحوتة خصوصيتها عبر قصائد ومراحل شعر نوري الجراح، تطفو سمة التصوف، عبر أجواء وتجارب خاطفة وعميقة، لا عبارات، بقناعة أن" كل ما هو شعري هو صوفي بالضرورة"، لكن ليس بمعنى أن تكون له لغة تتوسل القاموس الكلاسيكي الصوفي، وإنما الموقف من من الوجود، من الذات والعالم:
كل شعر هو بالضرورة فيض يرتقي بالذات الشاعرة إلى ما هو علوي. وإلا ستكون القصيدة ثرثرة وصنعة لا كبير قيمة لهما.
ومهما تبرجت القصيدة أو تزيت بأزياء الشعر، فهي لن تبلغ بشاعرها أرض الجمال الحي". «يوماً بعد يوم/ أنامُ/ إلى أن يخرج من رأسي كلُّ ما عرفْتُ/ وملائكة يحملونني على مطرَّزات/ إلى خالةٍ/ في منزلٍ/ وراء النهر».
المعرفة/الجمال يبقى الملمح الأبرز، المعضل، مصدر الإعجاب والتعجب، وهو تجادل المعرفي والجمالي داخل شعره، إذ يرى صاحب "القصيدة والقصيدة في المرآة" أن لافرق أبداً بين المعرفي والجمالي في الشعر. فماهو جمالي هو معرفي بالضرورة وما هو معرفي هو جمالي أيضا. لأن الشعر ينتج المعرفة من الجمال، ويفعل هذا بواسطة اللغة التي هي جملة من المعارف القائمة في ذاتها:
"دعيني أقول إن أهم ما يولد الطاقة للغة هو ذلك الاستعداد لتسليم النفس إلى ضروب لا تنتهي من التناقض الفعال الذي يميز علاقتي باللغة. وبالتالي فإن المعرفي كالجمالي قائم على انزياحات لا تنتهي في العلاقات بين الاشياء، زائغ باستمرار، ويتولد من زيغ... ومن حيوية التناقض الذي يحرر علاقتي باللغة كلما كادت أن تؤثر صيغة أو تبتهج بميل أو تركن إلى جمال".
كمثل العلاقة بين الشعري والصوفي، المعرفي والجمالي، يربط صاحب "الفردوس الدامي" و"رحلة الوزير في افتكاك الأسير" الشعر والسفر وأدب الرحلة، بوصف الشعر هو الأب الشرعي للرحلة: "الشعر منذ امرؤ القيس تحقق عبر رحلة. ولو أنت عدتِ إلى كل شاعر عربي لوجدت شعره رحلة، أو عبر رحلة أو لأجل رحلة. فالشعر والسفر توأمان. فهو سفر في الأرض وسفر في المخيلة وسفر في الكلمات. أولم يقل أبو تمام "وإني رأيت بقاء الفتى في الحي مخلق لدباجتيه فاغترب تتجدد". ولدى الشافعي: تسافر تجد عوضا عمن تفارقه....".
يضيف: "ثقافتنا الشعرية بصورة خاصة هي ثقافة الأسفار، وفي نظري كل قصيدة ثمرة رحلة يطوف فيها الخيال في أفق ما. وعلى هذه الخلفية أتعامل مع أدب الرحلة، انطلاقا من وعي بهذا الأدب يجعله نص النصوص المنتجة للمعرفة. وبالتأكيد فقد تاثر اختياري وولعي بأدب الرحلة بسفري بعيداً عن ملعب طفولتي والموطن الذي نشأت فيه؛ المدينة العظيمة دمشق التي دفن في مقابرها مئات إن لم يكن آلاف الشخصيات العظيمة عبر قرون. لقد خرجت من مدينة كانت قبلة المسافرين، وطوفت في مدن وبلاد وأقاليم وقارات، لكن الشعر طالما كان قدري ورفيقي.
الكتاب الأحرار أخيراً أسس الجراح مع نخبة من المثقفين السوريين الآخرين مثل ياسين الحاج صالح، حسام الدين محمد، خلدون الشمعة، صادق جلال العظم، مفيد نجم، وفرج بيرقدار، "رابطة الكتاب السوريين الأحرار" بديلاً عن الاتحاد الرسمي المنتمي للسلطة البعثية، وأجريت في مصر قبل أقل من شهر انتخابات الأمانة العامة لهذه الرابطة مسفرةً عن فوز ثلاثة عشر كاتباً سيتولون فيما بينهم تشكيل المكتب التنفيذي، لكن على الرغم من اعتدال معايير الترشح والانتخاب، فضلاً عن نصاعة الأسماء السورية والمصرية والعربية التي شاركت في الإشراف عليها ك: بول شاوول، زهير أبي شايب، حسن نجمي، محمود الريماوي، سعد القرش، حلمي سالم، وغسان زقطان، لم تسلم هذه الانتخابات من النقد، أو بتسمية الجراح الذي رفض الترشح لهذه الانتخابات والاكتفاء بالعضوية "الشوشرة":
"ما ثار حول انتخابات الرابطة، لم يكن كله نقداً، قليله كان ينتمي إلى النقد وأكثره إلى الشوشرة، لذلك لا أجد أي ضرورة للتعليق عليه هنا. أما ماكان نقدا فقد أخذ بعين الاعتبار، في حينه، واعتبرناه جزءاً طبيعياً وضرورياً من العمل.
وفي كل الأحوال الانتخابات أنجزت وقد اعترف القاصي والداني بنزاهتها، وعبرت نتائجها عن وعي رفيع المستوى لدى الكتاب السوريين بالقيم المدنية وعن غلبة الروح الحضارية على سلوكهم الفكري، ولعل صعود أربع كاتبات إلى المكتب التنفيذي لفوزهن بأعلى الأصوات دليل على ذلك الوعي وتلك الروح".
ويرفض الجراح اعتبار رابطة الكتاب السوريين الأحرار مسيسةً، موضحاً أن الظرف الموضوعي لتأسيس الرابطة ليس طابعاً سياسياً وإنما هو طابع وطني ثوري. ومؤكداً أن من واجب الشاعر والكاتب والمفكر أن يتسلح بالشجاعة الأخلاقية وينتمي إلى الحالة الثورية التي ولدها انفجار الثورات العربية بوصفها عملاً خلاقاً، وبذلك ينسجم مع المقولات العظمى للشعر والأدب والفن بوصفه عملا ثوريا وخلاقا،: "الثورة تعيد بناء الأولويات في المجتمعات الإنسانية، وهذا ينطبق أيضا على أولويات الأدب والفكر والفن".
واتساقاً مع الحالة الثورية التي انبثقت عنها رابطة الكتاب السوريين الأحرار، يرى صاحب "كأس سوداء" أنها ليس بحاجة للانتساب لاتحاد الكتاب والأدباءالعرب كجهة رسمية، محتفظاً بحق الأمانة العامة للرابطة في مناقشة هذا الأمر.
مع ذلك يرى الشاعر أن ترحيباً بولادة الرابطة وشروعها في العمل من قبل هذا الاتحاد أمراً ليس سيئا، ويستدرك قائلاً: "أظن أن هذا غير ممكن اليوم في ظل الظروف الحالية، لاسيما أن غالبية روابط واتحادات الكتاب العربية المنتسبة إلى هذا الاتحاد هي روابط واتحادات رسمية ومن المتوقع أن تنتصر للعضو السوري الرسمي فيها"،
ويضيف: "نحن رابطة أدبية حرة. وربما نكتشف مستقبلاً أن اعتراف الاتحاد العربي بنا يكون دليلا على تأثير الثورات العربية بالهياكل والمؤسسات الثقافية العربية، ومنها اتحادات الكتاب وروابط الأدب، التي بات من الضروري أن يعاد تشكيلها على أسس حرة، وبعيداً تماماً عن السلط العربية، بمعنى أدق أن تنفصل تماما عن المؤسسة العربية الحاكمة وتتحول إلى مؤسسات تعود إلى المجتمع المدني الناهض."، مستطرداً أن هذا المصير مرتبط بمصير الثورات العربية ومآلاتها، وبقدرة الثقافة العربية على تحرير نفسها من ربقة المؤسسات العربية الحاكمة