مستلهما صرخة أحمد السقا الشهيرة فى فيلم «الجزيرة» قال لى سائق التاكسى الأبيض بكلمات سريعة غاضبة: «من النهارده مافيش عداد.. إحنا اللى هنحدد الأجرة». حاولت أن أناقشه بهدوء وقلت له إننى أدفع فى المسافة من ميدان التحرير إلى ميدان لاظوغلى خمسة جنيهات، فنظر لى نظرات نارية أكثر غضبا ووجه لى كلماته الأخيرة: «مافيش عداد وطالما أنكم لا تشعرون بنا أو بمعاناتنا فسوف نحرق لكم البلد قريبا إن شاء الله». استغربت لغته واستخدامه للضمير» «نحن» و«أنتم»، ولم يكن هناك ما يشير إلى اختلاف بيننا إلا أننى كنت أرتدى «بدلة وكرافتة».
ساد الصمت للحظات، ثم كسره بقوله إنه آسف وإن الضغط عليه وعلى أسرته شديد. ثم استرسل يحكى لى همومه وهموم معظم زملائه، وأنه يلف نصف اليوم بالتاكسى أو على قدميه ويقف بالساعات بحثا عن البنزين أو الغاز الطبيعى من دون جدوى، ومطلوب منه فى نهاية اليوم أن يجمع مبلغا معينا من أجل القسط الشهرى، ومبلغا للمعيشة اليومية.
تلاشت لغة التحدى والتنمر من عيون السائق الأربعينى، وبدأت ملامح الضحية تكسو وجهه، وهو يسرد إثر الزحام الموجود فى شوارع القاهرة على تقليل حصيلة يومه، وأن كثيرا من الزبائن صاروا يعتمدون على المترو أو يجلسون أكثر فى بيوتهم هربا من الفوضى والبلطجة.
عند هذه النقطة كان شعورى بالحنق والغضب تجاهه قد اختفى وحل محله التعاطف. وعندما فكرت أن أضع نفسى مكانه، وجدتنى أشفق عليه.
الصورة النمطية الشائعة لدينا عن سائق التاكسى أنه مستغل وجشع ولا هم له إلا سرقة الزبون، وقد يكون ذلك صحيحا فى الماضى، لكن ومنذ خروج «التاكسى الأبيض» إلى النور قبل حوالى أربع سنوات صار أى سائق شريف «محشور» فى مصيدة قسط البنك وتكاليف المعيشة، ذلك إذا كان هو صاحب التاكسى أما إذا كان سائقا فهو مطالب بأن يسلم مبلغا محددا لصاحب التاكسى إضافة إلى تكاليف البنزين وأى مصاريف أخرى، وما يزيد إذا زاد يذهب إلى أسرته.
لا يوجد عذر يبرر لأى سائق أن يلغى العداد من تلقاء نفسه، أو يتحجج بأنه عطلان، وهى حجة صارت شائعة جدا هذه الأيام، لكن علينا فى المقابل أن نتعامل مع أصل المشكلة وليس عرضها.
أصل المشكلة أن تكاليف الحياة لا تحتمل والدولة تكاد تختفى، ومن يتظاهر ويضرب عن العمل يحصل فى مرات كثيرة على حقه، أصحاب أو سائقى التاكسيات لا يعملون عند الحكومة، وينظرون إلى زملائهم سائقى أتوبيسات النقل العام الذين تمكنوا من تحسين أوضاعهم، وزملائهم سائقى الميكروباص الذين يرفعون الأجرة ب«مزاجهم»، والطبيعى فى ظل هذه الحالة أن يقرروا أن يتعاملوا بأيديهم مع مشكلتهم طالما أنه لا أحد ينصفهم.
أسهل حل هو أن نطالب الحكومة التى تتصدع سلطتها كل يوم بتطبيق القانون بكل حزم، لكن السؤال المنطقى الذى يسأله كثيرون هو: هل تطبيق القانون يكون على الفقراء فقط.
الحكومة تخلت كثيرا عن سائقى التاكسى خصوصا فى أيام يوسف بطرس غالى بعد هروب الشركات من تسديد ما التزمت بدفعه للسائقين نظير إعلانات الدعاية، والحكومة الراهنة لم تقف بجانبهم بعد الخسائر التى تعرضوا لها بعد الثورة، وعندما لا يجد البلطجية عملا يسرقون سائقى التاكسى، وأحيانا يقتلونهم.
وبما أن اليأس سلوك المحبطين فإننا نناشد الحكومة التدخل لإيجاد حل لهذه الفئة.
تمرد السائقين «سيلخبط» خريطة المرور فى القاهرة بأكملها. الالتزام بالعداد أحد آخر مظاهر التحضر القليلة الباقية فى الشارع المصرى، فالرجاء تحركوا، وأقنعوا الشعب أنكم تفعلون شيئا لصالحه.