نعم كان يوجد وزير ثقافة قبل الثورة غير فاروق حسنى.. أمس الأول، تلقى البعض خبر رحيل د. ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق، باستغراب شديد، معتقدين أن فاروق حسنى لا يسبقه وزير للثقافة، وكان يعيش حتى وقتنا هذا.
هؤلاء زادوا من استغرابهم بسؤال حول ما فعله عكاشة، وفى أى عهد تولى الوزارة، وكأنهم لا يعرفون عكاشة الذى كان ملء السمع والبصر، فلو لم يكن بفضل فترته فى الوزارة، لكان بفضل كتبه الفكرية المهمة.
ولمن لا يعرف عكاشة، فهو من مواليد 1921، شغل منصب وزير الثقافة مرتين فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من عام 1958 إلى عام 1961، ومن عام 1966 إلى عام 1968. وهذا يعنى أنه كان وزير ثقافة وسط جيل العملاقة، جيل الستينيات. وهل هناك أهم من هذا الجيل المبدع الذى قارب أعضاؤه على الانتهاء؟ ولكن كان اهتمام عكاشة ينصب على الفنون، خصوصا الفن التشكيلى، بجانب الأدب، ومن أهم مؤلفاته فى هذا الشأن سلسلة «العين تسمع والأذن ترى» التى تتناول المراحل التاريخية المختلفة لتطور الفنون، فضلا عن ترجماته، وكتبه المهمة: «مذكراتى فى السياسة والثقافة» الذى صدر فى ثلاثة أجزاء، والفن المصرى، والفن العراقى القديم، والتصوير الإسلامى الدينى والعربى، والتصوير الإسلامى الفارسى والتركى، والفن الإغريقى، والإغريق بين الأسطورة والإبداع.
بدأ عكاشة حياته العملية ضابطا بالقوات المسلحة، وعين بعد ثورة يوليو رئيسا لتحرير مجلة التحرير. وكان ملحقا عسكريا بالسفارات المصرية فى بون عاصمة ألمانياالغربية، وباريس، ومدريد، وسفيرا فى إيطاليا على التوالى. ومن بين ما شغله من مناصب: رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى المصرى من عام 1962 إلى عام 1966 ومنصب مساعد رئيس الجمهورية للشئون الثقافية بين عامى 1970 و1972. وكان عضوا بالمجلس التنفيذى لمنظمة اليونسكو فى باريس بين عامى 1962 و1970. وشغل عضوية مجلس الأمة (مجلس الشعب) بين عامى 1964 و1966. وحصل على عدة جوائز ودكتوراه فخرية فى العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة.
تولى حقيبة الثقافة فى ظرف ثورى كالذى نعيشه حاليا، مما يؤدى رغما عنا إلى المقارنة مع وزراء الثقافة السابقين والحالى، وكيف أقنع قادة ثورة يوليو فى ذلك الوقت المنشغلون بأمور سياسية داخلية وخارجية بأهمية إنقاذ آثار النوبة، وكيف أقنع أيضا العالم بأن آثار مصر تراث إنسانى يهم العالم كله، لا مصر وحدها. ولذلك، لا يمكن أن ننسى ما قام به من إنقاذ لآثار النوبة ومعبد أبوسمبل ومعبد فيلة عند إنشاء السد العالى، وأنه قام بوضع اللبنة الأولى لمشروعات الصوت والضوء حيث قام بنقل فكرة تلك المشروعات للأماكن الأثرية من قلعة فرساى بفرنسا إلى الأهرامات وأبوالهول بالجيزة عام 1961 ثم تلا ذلك مشروع قلعة صلاح الدين بالقاهرة عام 1962، ولكنه توقف لسوء الحظ بسبب حرب 1967. وكذلك دوره فى بناء قصور الثقافة وتنشيط وجمع الفنون الشعبية والموسيقية بأسلوب علمى حفاظا عليها من الضياع، وإنشاء الفرق المسرحية والموسيقية إلى جانب فرقة القاهرة السيمفونية وفرقة الموسيقى العربية التابعة لدار الأوبرا الحديثة والمتحف الإسلامى والقبطى واليونانى والرومانى إضافة إلى متحف المثال محمود مختار وإنشاء معاهد البالية ودار الكتب والوثائق القومية ومعاهد السينما.
كان عكاشة قليل الظهور فى الفترة الأخيرة، كأنه يتهرب من التعليق على حال الثقافة المصرية، يعتكف فى فيللته، التى يجب ألا تباع، وإنما بالحفاظ عليها كجزء من التراث الثقافى المصرى.
ولعل آخر ظهور له كان فى احتفالية الصوت والضوء والسينما بمناسبة مرور 50 عاما على عروضها فى مصر، وجاء شعار الحفل: «ثروت عكاشة العقل الذى أبدع الصوت والضوء». ووقتها اعترف الجميع أنه لولا التأسيس الصحيح لعكاشة لما وصل الصوت والضوء لهذا النجاح، والذى حقق هذا العام (2010) أرباحا وصلت ل70 مليون جنيه.
فى هذا الحفل، لم يستطع عكاشة الاكتفاء بكلمات الشكر والتقدير لتكريمه، كعادة هذه الحفلات، لكنه وجدها فرصة لائقة للحديث عن الثقافة والتراث، قائلا: «وعلى الرغم مما يبدو فى الفن من روعة وإبهار وتنوع على أيدى الفنانين فى عصر من العصور، فهو ليس إلا وحدة شارك فيها الزمان والمكان والفكر. وهذه الأمور الثلاثة هى التى تجعل من الفنانين كلا واحدا»، مضيفا: «ثم إن عجلة الحياة تدور وليست هناك قوى تستطيع أن تقف عائقا فى سبيل دورانها، كما أن بناء الإنجاز الفنى على أساس من التراث هو فى الواقع إقامة له على أسس إنسانية عريقة وقيم ثقافية حية رصينة. ومن هنا لا يجوز لنا أن نضحى بتراثنا القومى بحجة التطور أو نجمد التطور بدعوى الحفاظ على التراث، وإنما نقتحم مجالا يجمع بين التراث والتطور. فلقد أثبتت التجارب الإنسانية المعاصرة أن ثمة منهجا وسطا يجمع بين الاهتمام بالقديم والجديد بصورة لا تناقض فيها ولا اضطراب، فكما نقسم الزمن أطوارا، علينا كما يقول شاعرنا الخالد جبران أن ندع الحاضر يعانق الماضى بالذكرى ويطوق الغد بالحنين».