هل تتحول السياسة إلى لعنة تحل على الثقافة؟ . سؤال يتردد الآن فى فنزويلا بقوة مع مخاوف من انهيار أحد أهم المشاريع الثقافية فى هذه الدولة الأمريكية اللاتينية واختفاء حركة فنية موسيقية تحولت إلى مفخرة ثقافية. ويقول دانيل واكين فى تقرير بصحيفة "نيويورك تايمز" إنه فى بلد يعانى من انقسامات عميقة وحادة جراء مايصفه بالممارسات الشعبوية الصاخبة للرئيس هوجو تشافيز كان بمقدور الفنزويليين أن يتفقواعلى شىء واحد وهو أن النظام الخاص بتدريب الموسيقيين الشبان والمعروف باسم "برنامج ايلسيستيما" يشكل آلية عزيزة للتطور الاجتماعى بقدر ماهو مصدر للفخر الوطني .
غير أنه فى السنوات الآخيرة كما يقول دانيل واكين دب الشقاق وظهرت التصدعات فى هذا التوافق الموسيقى بسبب التوجهات التى يتبناها الرئيس هوجو تشافيز حيال برنامج "ايلسيستيما" الذى أثار غضب بعض أنصاره واستغلها خصومه لتأليب الرأى العام ضد الرئيس الشعبوى .
وكان كل شيىء على مايرام فى هذا البرنامج الموسيقى الذى تناوب وزراء وشخصيات فنزويلية لامعة على الاشراف عليه ورعايته كحركة متكاملة حتى تقرر منذ نحو عامين وضع برنامج "ايلسيستيما" تحت الاشراف المباشر لمكتب الرئيس هوجو تشافيز لتبدأ المشاكل وتتحول أحيانا إلى عواصف من الانتقادات لرئيس فنزويلا .
ويحق للرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز أن يشعر بالقلق عندما يكون من بين الذين انتقدوه شخصيات تحظى بالشعبية والاحترام فى فنزويلا مثل خوزيه انطونيو ابريو مؤسس هذه الحركة الموسيقية والموسيقار جوستافو دودميل الذى يقود أهم الفرق الموسيقية ضمن برنامج ايلسيستيما .
ولم تتردد عازفة البيانو الشهيرة جابرييلا مونتيرو فى اتهام تشافيز بأنه يسعى لسرقة برنامج ايلسيستيما وتوظيفه لصالح أهدافه السياسية، معتبرة أن هذا البرنامج لم يكن أبدا ابنا شرعيا لتشافيز ولا من بنات أفكاره .وفيما نددت جابرييلا مومنتيرو بسياسات حكومة لرئيس الفنزويلي والتضييق على منظمات المجتمع المدنى فقد ذهبت إلى أن "تشافيز يحاول السطو على مشروع سهر الموسيقيون عليه طوال العقود الأربعة الآخيرة وهاهو يدس أنفه فيه ويلوثه".
وعلى الجانب الآخر، يقول وزير الاعلام الفنزويلى اندريز ايزارا إن رسالة "ايلسيستيما" تتفق فى الجوهر مع سياسات الرئيس هوجو تشافيز فى تقديم الدعم والمساندة للمهمشين والفئات المحرومة، معتبرا أن اهتمام تشافيز بهذا البرنامج الموسيقى ينبع من أنه يشكل استراتيجية هامة ضمن استراتيجيات القضاء على الفقر فى البلاد.
ويؤكد وزير الإعلام الفنزويلى أن الاتهامات باستخدام الرئيس هوجو تشافيز لهذا البرنامج الموسيقى لتلميع صورته وزيادة شعبيته هى اتهامات بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولاتزيد عن كونها مجرد افتراءات على رئيس راغب فى مساعدة الفقراء بكل السبل .
وواقع الحال أن برنامج ايلسيستيما تحول إلى مايشبه مخزون ذكريات عزيزة لدى الفنزويليين حتى أن أغلبهم ينأى بنفسه عن أى كلمة سيئة تتعلق بهذا البرنامج منذ أن ولد رسميا عام 1975 على يد انطونيو ابريو البالغ من العمر 72 عاما والذى جمع مابين عشق الفن والموسيقى وتخصصه العلمى فى الاقتصاد وشغل منصب وزير دولة .
والفكرة المحورية التى جسدها انطونيو ابريو فى هذا البرنامج تتمثل فى تحويله إلى برنامج اجتماعى فاعل للشباب المهمش والمنتمى إلى فئات المحرومين عبر جمع مئات الآلاف من الشوارع ليتحول هذا الشباب الضائع إلى فرق غنائية وموسيقية تنتشر على طول فنزويلا وعرضها .
وشيئا فشيئا تحول برنامج "ايلسيستيما" إلى ايقونة عزيزة فى دنيا الموسيقى الكلاسيكية، فيما كان أحد نجوم البرنامج وهو جوستافو دودميل قد عمل أيضا كقائد لفرقة لوس انجلوس الاوركسترالية فى الولاياتالمتحدة وبات شخصية تحظى بشعبية هائلة فى بلاده .
والمشكلة تكمن فى عدم الثقة بين المثقفين والساسة فكثير من الموسيقيين والمثقفين على وجه العموم فى فنزويلا يتخوفون من أن تكون الرعاية التى فرضها الرئيس هوجو تشافيز على برنامج ايلسيستيما غطاء ليس فقط لتحقيق مكاسب سياسية وإنما للسيطرة الحكومية الكاملة على هذا البرنامج الذى حفر بصمته فى تاريخ الثقافة والفنون بأمريكا اللاتينية .
ولعل "ايلسيستيما" ينجو من عواصف السياسة ويبقى مفخرة ثقافية لكل الفنزويليين الذين فرقتهم السياسة وأطماعها ودروبها المراوغة، وهاهى عواصف السياسة تثير التساؤلات المزمنة والاسئلة القديمة الجديدة عن تقاطعات وتداخلات السياسة والثقافة والفنون ويبدو أن مثل هذه الاسئلة ستبقى دوما بلا اجابات قاطعة.