قلة عدد ساعات النوم فى الشهور الأولى للثورة مع زيادة هواجس الخطر الأمنى وخوف الثوار من فشل الثورة، جعلت الحديث عن أموال القصر وأركان النظام السابق تسيطر على حديث المصريين لعدد طويل من الساعات، خاصة أن ما تم الكشف عنه بشكل رسمى من أموال سائلة وأصول تخص آل مبارك، وحسين سالم، وعددا من المحيطين بهم من رجال أعمال، وخدام القصر، أذهل الجميع. ورغم مرور عام طويل على تلك الأحاديث لم يقترب المصريون حتى من استرداد بعض من تلك الأموال، وسط اتهامات للإدارة الانتقالية بعدم الجدية فى السعى خلف الأموال المنهوبة. وتبدأ رحلة تتبع أموال القصر بثلاثة وقائع تلت الثورة، الأولى البلاغ الذى قدمه مصطفى بكرى، النائب فى البرلمان الجديد، ضد الرئيس المخلوع مبارك وأسرته متهما إياهم باستغلال النفوذ، وجمع ثروة بطرق غير مشروعة بلغت نحو 250 مليون جنيه فى بنك واحد، هو البنك الأهلى المصرى فرع مصر الجديدة، وهو البلاغ الذى تسبب فى منع مبارك من السفر بشكل قانونى. وقدم بكرى أكثر من 40 مستندا تتضمن حسابات الأسرة، حيث بلغت حسابات علاء مبارك 10 حسابات، وجمال مبارك 8 حسابات، وسوزان مبارك 6 حسابات، بالإضافة إلى حساب مكتبة الإسكندرية الذى يضم 145 مليون دولار، وتتولى سوزان مبارك إدارته بمعرفتها دون سند شرعى.
أما الثانية فكانت صورة شيك بمبلغ 120 مليون دولار صادر من بنك أبوظبى الوطنى من قبل الشيخ زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الراحل، كدفعة أولى نظير دخول الجيش المصرى فى حرب الكويت، لكن المركزى نفى تحويلها إلى شخص مبارك، مؤكدا أن البنك الأهلى المصرى قام بتحصيل الشيك عن طريق مراسلات بنك «أوف نيويورك»، وأن الأموال أصبحت جزءا من احتياطات مصر من النقد الأجنبى.
الواقعة الثالثة كانت بلاغ وكيل الجهاز المركزى للمحاسبات بوجود نحو 9 مليارات دولار بالبنك المركزى تحت تصرف مبارك، منذ التسعينيات من القرن الماضى، تم تحويلها من 5 دول عربية، إلا أن المركزى، على لسان محافظه فاروق العقدة أيضا، أكد أن تلك الأموال استخدمت كنواة لتكوين الاحتياطى أيضا، الذى كان حاضرا بقوة خلال العام الماضى بعد فقدانه نحو 18 مليار دولار من قيمته على مدار العام الماضى ومازالت تبعيات ذلك البلاغ متواصلة.
ويقابل الوقائع الثلاثة هتاف شعبى ردده المتظاهرون كان الأول الذى يتحدث عن أموال الحاكم «يا مبارك يا طيار... جبت منين 70 مليار»، الذى ارتفع فى الأيام التى سبقت تنحى مبارك مباشرة فى ميادين التحرير المصرية، كان الأكثر تعبيرا عن نظرة المصريين لأموال حاكم القصر، مستندين لتقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية حول ثروة عائلة الرئيس، قبل قرار التنحى بأيام، وأذهل الجميع.
6 ملايين فقط من شقى السنين
لكن مبارك وعلى لسان محاميه فريد الديب قال إن أمواله لا تزيد على 6 ملايين جنيه فى أحد البنوك الحكومية، جمعها من شقى السنين وليس من عرق المصريين، مؤكدا أنه لا يوجد له أموال فى الخارج، لكن التحقيقات وجهاز الكسب غير المشروع أكدوا غير ذلك. وأظهرت التحقيقات التى أجراها القضاء الإسبانى، وأعلن عن نتائجها فى نهاية الأسبوع الماضى، بخصوص ذراع مبارك اليمنى، حسين سالم، بعض الحقائق، حيث يصف سالم الرئيس المخلوع بأنه رجل أعمال شاطر يبحث تأمين أولاده، مقدرا ثروته بنحو 12مليار دولار فى الخارج و4 مليارات جنيه فى الداخل، بخلاف الأصول وبعض الشركات التى يشاركه فيها.
وقد بدأت الشراكة بين سالم وبين مبارك من شركة «الأجنحة البيضاء» فى مطلع حكم الرئيس المخلوع فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى، وكان صهر مبارك، منير ثابت، الشريك الثالث لهما، ومن تلك الشركة دخل مبارك الأب عالم الأموال.
وحتى الآن لم يتم حصر دقيق لأموال مبارك الأب خاصة أن ما يحاكم عليه فى القضية المعروفة «بقضية القرن» فى جزئها المالى مقتصرة على شراء عدد من الفيلات من حسين سالم فى مدينة شرم الشيخ التى كانت مدينته المفضلة واستردها المصريون بعد ثورة يناير التى أطاحت بمبارك وأركان حكمه. وتبقى الإجابة عن حجم أموال مبارك الأب فى عهدة التاريخ ورغبة جادة من قبل صانع القرار لمعرفة العلاقات المتشابكة للرئيس السابق خاصة بأمراء منطقة الخليج وكبار الساسة والأنظمة فى العالم.
حسين سالم «مفتاح أموال مبارك»
حماية الرئيس المخلوع لحسين سالم كانت معروفة ومحيرة طوال السنوات الثلاثين الماضية، لذلك كان كشفه مفتاحا مهما للتعرف على ثروة الحاكم، فالإعلان عن حجم ثروة سالم جعلت القانونى البارز حسام عيسى يقول إن أموال «صبى مبارك» وصلت إلى 4 مليارات دولار حسب التحقيقات، مستشهدا على ضخامة ثروة الرئيس المخلوع.
وتعد شركة «ايا تسكو» المصرية الأمريكية لخدمات الشحن المحدودة أبرز شراكة بين مبارك وسالم ويشاركهم فيها منير ثابت شقيق زوجته سوزان ثابت بنسبة 12٪، ويمتلك جمال وعلاء مبارك 48٪ منها، وهى الحصة التى كان يملكها مبارك حتى عام 1990، حيث باع مبارك حصته فى نفس العام لنجليه وتم تسجيل عملية البيع فى نيويورك، مقر الشركة الأمريكية. بالإضافة إلى شركة «جالاكسى ماساكا العالمية القابضة للفنادق» التى تتخذ من جنيف مقررا لها.
ولا يمكن أن يتجاهل متابع لملف سالم علاقته بملف الغاز مع إسرائيل والعلامات والصفقات التى جعلت قيادة وزارة البترول الآن فى السجن، وكذلك استثمارات الرجل فى أوروبا، خاصة فى إسبانيا التى يحمل جنسيتها، بعد تخليه عن الجنسية المصرية فى ظل ملاحقات قضائية متشابكة معظمها يتعلق بملفات مالية وتهرب ضريبى وغسل أموال تلاحق سالم وأسرته، وسط رغبة من المصريين فى عودته إلى مصر ومحاكمته، التى ستكشف بقية جبل الجليد فى الملف المالى السرى لثلاثين عاما ماضية، كان سالم أبرز اللاعبين السريين فيها.
فدية سوزان لعتق رقبتها من الحبس
سوزان مبارك واحدة من الأسرار الكبرى فى ملف أموال القصر ونظامه السياسى، خاصة أنها الوحيدة تقريبا من أركان النظام الرئيسية الموجودة خارج أسوار السجن دون أن تخرج من مصر، وقد جاءت الضربة الأولى فى علاقتها بأموال المصريين من خلال بلاغ بكرى الخاص بمكتبة الإسكندرية، واستمر ذلك الملف من خلال أموال الجمعيات والمؤسسات الاعتبارية التى كانت الوحيدة التى لها حق التوقيع على صرف الأموال الخاصة بها، حتى جاءت الضربة الكبرى من النيابة السويسرية التى قررت قبل أيام تجميد أموالها وأموال جمعية المرأة من أجل السلام وذلك بناء على التحقيقات التى تجريها حول جريمتى شبهة غسيل أموال والانضمام لتشكيل عصابة والمسندة لمبارك وأسرته، بناء على معلومات قدمتها اللجنة المصرية المشكلة لاسترداد أموال مصر المنهوبة من الخارج ضد أسرة الرئيس السابق.
ولعل سوزان هى الوحيدة من أركان النظام السابق التى حصل المصريون منها على جزء من أموالهم التى كانت فى حوزة النظام السابق، فقد قامت برد عشرين مليون جنيه وأحد القصور التى كانت اشترتها من خلال رئاسة الجمهورية دون سند قانونى صحيح، وهو ما أنقذها من الحبس الذى كان مؤكدا.
أسطورة علاء وجمال
الصور المنقولة عن قصر آل مبارك فى عاصمة الضباب لندن، التى يحمل جنسيتها أفراد العائلة، طبعت فى ذهن المصريين خاصة أنهم بسبب حكم تلك العائلة عاش الكثير منهم فى مناطق عشوائية تخلو من أبسط الضروريات المطلوبة لاستكمال الحياة، وسط صعوبات أوجدها حكم مبارك. فمنزل جمال العريس الذى كان يحلم بحكم مصر يقع بأحد أرقى أحياء لندن مكون من ست طوابق ويتعدى سعره 10 ملايين جنيه استرلينى، أى ما يزيد على 17 مليون دولار.
ونشرت شبكة التليفزيون الأمريكية «أى بى سى» أن ثروة عائلة الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك تتراوح ما بين 40 و70 مليار دولار، وهذا ما تطرقت له صحيفة «لا تريبون دو جنيف» الصادرة باللغة الفرنسية فى جنيف أثناء الإعلان عن قضية غسل الأموال التى أعلن عنها الكسب غير المشروع، التى اتهم فيها نجلا المخلوع بغسل الأموال، ويحقق فيها القضاء فى الوقت الحالى.
ولا يمكن أن يذكر النجل الأكبر لمبارك «علاء» إلا وتستحضر مشاركته فى جميع الانشطة الاقتصادية من وراء الستار، وجاءت شهادة وزير الإسكان الأسبق حسب الله الكفراوى قبل أيام لتؤكد الكلام الذى تم التعامل معه لفترة طويلة باعتباره شائعات، حول نفور المستثمرين اليابانيين من عمل مشروع كبير فى منطقة القناة، بسبب الإتاوة التى كان يريدها جمال مبارك.
الفساد للركب وتجارة الساعات
من سكان القصر رجلان لا يمكن لأحد أن ينساهما خاصة أن الملف المالى لهما الذى تم الكشف عن جزء منه حتى الآن يعتبر صدمة إذا ما قورن بطبيعة عمل موظف حكومى فى نهاية الأمر. الأول «زكريا عزمى» رئيس ديوان القصر، صاحب عبارة «الفساد وصل للركب فى المحليات» قبل الثورة، الذى أظهرته التحقيقات بعدها إلى أشهر «تاجر ساعات»، فقد كشفت عن حصول عزمى على عدد كبير من العقارات والأصول له ولزوجته وأموال سائلة، لا تتناسب مع دخله الوظيفى الذى بدأه فى عهد «جمال عبدالناصر» وأنهاه فى عهد مبارك ليتم إيداعه السجن، مع التحفظ على صناديق من الساعات التى كانت فى حوزته، والمصنوعة من معادن مرصعة بالأحجار الكريمة، يتراوح سعرها الواحدة منها بين 90 ألف جنيه و120 ألف جنيه، بجانب ساعات مصنوعة من البلاتين وأخرى من الفضة الخالصة وأيضا المصنعة من الذهب الخالص.
ولا يختلف الوضع كثيرا حسب التحقيقات مع الرجل الثانى الأكثر قربا من مبارك، وهو جمال عبدالعزيز السكرتير الأول للرئيس لمدة ثلاثين عاما، والمحبوس على ذمة قضايا مالية، تقدر بنحو 7 مليارات جنيه.
وإن كانت الشخصيات السابقة هى التى كانت تحكم وتتحكم فى القصر وأمواله فهناك عشرات من رجال الأعمال والسياسيين حاولوا وتمنوا أن يحصلوا على رضاء أصحاب القصر، واستفاد عدد منهم بالقرب من خلال مناقصات الأراضى والسمسرة فى التوكيلات. وربما يؤدى كشف المزيد من ملفات هؤلاء إلى إظهار حقائق أكبر بخصوص ثروة الرئيس المخلوع وأسرته ومعاونيه، وقد تساعد على استردادها.