من الطبيعى أن تشهد مصر فى الانتخابات التشريعية التى بدأت مراحلها الأولى أمس الأول خارج مصر وبدأت أمس فى معظم الدوائر داخلها، نوعا جديدا من المشاركة الشعبية فى الاقتراع العام لاختيار برلمان جديد.. يختلف عن الانتخابات السابقة وربما البرلمانات السابقة التى كان يجرى تزويرها ولم يشارك فى التصويت فيها حينذاك غير نسبة ضئيلة مشكوك فى صحتها. وكانت من العوامل التى أدت للإطاحة بالنظام السابق! فى هذه المرة يتوجه الناخبون للاقتراع فى أعقاب ثورة شبابية أسقطت نظاما فاسدا ووضعت نهاية لنظام سياسى عفن، تمثل رءوسه الآن للمحاكمة أو تقضى أحكاما بالسجن.. وقد وجد المواطن المصرى نفسه لأول مرة مطلق الحريات، غير خاضع لهيمنة حزب حاكم، أو إرادة عليا ترسم مصيره وتحدد خياراته. وبعبارة أخرى، فلأول مرة يمارس الشعب المصرى حرية الاختيار فى تقرير مصيره دون إملاءات خارجية أو حزبية أو دينية. ويتذوق طعم الحرية والديمقراطية، وهو يفرض على السلطة الحاكمة التى يمثلها المجلس العسكرى مطالبه وأولوياته. ويقاوم إغراءات العودة بالبلاد إلى حكم عسكرى. كما يقاوم محاولات القوى المتشددة والسلفية فرض أفكارها ومبادئها!
ليس من الواضح بعد عشرة شهور من الشد والجذب، ومن اختبارات القوة، لمن ستكون له الغلبة فى الانتخابات. حيث امتلأت الساحة السياسية عن آخرها بعدد لا يحصى من الأحزاب (نحو 60 حزبا) على اختلاف درجات اللون: من اليسار الضائع إلى اليمين الطامع.. بين أحزاب مدنية ليبرالية وأخرى دينية محافظة.. بين تقدميين من دعاة الرؤية العصرية وسلفيين من الذين يريدون العودة إلى أمجاد الخلافة.. وفى الحساب الأخير سوف تظل المنافسة محصورة بين عشرة أحزاب، منها أربعة أو خمسة تحتل المقدمة.
وفى الظروف الطبيعية، كان من الممكن تقدير حجم القوى الحزبية المتنافسة. ولكن هذه الانتخابات تجرى وسط إقبال غير مسبوق فى جو شديد الاحتقان، نزعت فيه الثقة بين جميع الأطراف وبعضها البعض. إلى درجة التأمت فيها التحالفات الحزبية ثم انفضت دون نتيجة تذكر. وفقدت القوى الثورية التى يرجع الفضل إليها فى قيام ثورة يناير والإطاحة بالنظام السابق، تماسكها ووحدتها ورؤيتها التى فرضت بها وجودها فى ميدان التحرير. ونجحت إلى حد ما فى مطاردة الفلول التى هددت مولد الثورة.
يبدو المشهد الآن وكأن كل شىء يعاد إنتاجه من جديد.. فقد ظلت الأوضاع السياسية والدستورية تراوح مكانها. ولم يتغير شىء منذ حكومات شفيق وعصام شرف، غير جدل ومزيد من الجدل حول كل فكرة يجرى طرحها لإقامة بناء دستورى متكامل. وقد بدا المجلس العسكرى بطيئا فى حركته غير واثق من خطوته. وبينما ينظم الإخوان صفوفهم بدرجة كبيرة من الكفاءة، تتوزع الأحزاب الأخرى فى حركات غير منظمة إلى درجة اتهام المجلس العسكرى بالانحياز للإخوان.
غير أن العامل المجهول فى الانتخابات، هو بقايا الحزب الوطنى من الفلول الذين أعادوا ترشيح أنفسهم. ولم ينجح القانون الذى صدر متأخرا فى الحد من تسللهم إلى مقاعد البرلمان، وخاصة فى القرى والريف ومناطق النفوذ القبلى.
ومع ذلك تبدو التجربة الانتخابية حتى الآن صامدة فى وجه كثير من الأخطاء والانتهاكات التى يمكن أن تحول بين الناخب والتوجه إلى صناديق الاقتراع.. ففى بعض الدوائر ترددت الشكوى من تأخر أو عدم وصول أوراق الترشيح حتى ساعة متأخرة فى الصباح، ومن أخطاء فى الأسماء وقوائم الترشيح، أو توزيع دعايات دينية بالمخالفة لقوانين الانتخاب.
●● يبدو الشعب المصرى فى حالة ابتهاج وحماس غير مسبوقتين. والكل فى انتظار نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التى تعد اختبارا لأشياء كثيرة، فى مقدمتها الصراع بين الدولة الدينية والدولة المدنية.. وبعبارة أخرى بين الاتجاه الإسلامى ممثلا فى حزب الحرية والعدالة، والأحزاب الليبرالية تحت قيادة الوفد وغيره من الأحزاب الديمقراطية والاجتماعية.. فضلا عن تحالفات شباب الثورة التى تمثل اتجاها ليبراليا عاما بين النخبة، ولكنها لا تنتظم فى أحزاب.. بل يقدم مرشحوها أنفسهم على أساس فردى!
نحن إذن أمام بداية عهد جديد للتحول الديمقراطى نرجو أن تكتمل ملامحه بسلام.