قبل الانتخابات النيابية اللبنانية أبرز ناقدو فكرة حكومة الوحدة الوطنية أو فكرة الحكومات الائتلافية العديد من الأسباب والمبررات التى دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف: إذا كانت حكومة الائتلاف الوطنى هى حقا ائتلافية، بمعنى أن الفرقاء الداخلين فيها تحولوا إلى تحالف متكافل ومتضامن وأن الحكومة المنبثقة عنه تحولت إلى فريق عمل متجانس، فإنها تصبح مهددا للنظام الديمقراطى. من قال «اختلاف الأئمة رحمة بالأمة» كان ديمقراطيا دون أن يعرف ودون أن يقصد، فالديمقراطية تقوم على تعدد الأطراف التى تتشكل منها النخبة الحاكمة، وعلى التباين والاختلاف بينها بما يجعلها تتنافس على خدمة المصلحة العامة وتقدم للمواطن بدائل وخيارات متنوعة لكى ينتقى بينها ما يراه ملائما ومناسبا لحكم البلد. وحدة النخبة الحاكمة وتماسكها واتفاقها على كل شأن كبير أو صغير هما من خصائص الحكومات المركزية، ومن خصائص أنظمة المحاصصة التى تستأثر بكل شىء وتهمش المعارضة وتقزم السلطة التشريعية وتحولها إلى برلمان يبصم على مشاريع القوانين التى تحيلها إليه السلطة التنفيذية. إذا كانت حكومة الوحدة الوطنية هى ائتلافية بالشكل، أى إنها برلمان مصغر يضم أكبر التكتلات النيابية ولكن دون أن تتفاهم هذه التكتلات على بيان حكومى متناسق فى مضمونه واضح وموحد فى أهدافه ووسائل عمله، فإنها تتحول إلى حلبة للصراع ولتسديد الضربات وتسجيل الانتصارات على بعضها البعض. مثل هذه الحكومات سوف تشل البلد بدلا من أن توحده. ألم تعجز الحكومة اللبنانية الراحلة عن إصدار الموازنة العامة؟ ألم تؤخر إصدار التعيينات زمنا؟ الآن بعد الانتخابات النيابية سوف يضيف ناقدو فكرة حكومة الوحدة الوطنية مبررات إضافية لموقفهم. قبل الانتخابات لم يكن المجلس النيابى اللبنانى يعبر بدقة عن الاتجاهات العامة فى البلاد. جرت انتخابات 2005 فى ظل تحالف رباعى كان حزب الله من أطرافه. تأسيسا على ذلك كان من الشائع القول إن هذا التحالف فقد حقه فى تشكيل أكثرية حاكمة بعد أن خرج حزب الله منه. هذا الالتباس لم يعد قائما الآن. فريق 14 آذار يمثل الأكثرية النيابية بحيث يمكنه أن يشكل حكومته دون أن يقول له أحد إن أكثريته ناقصة. فضلا عن ذلك فإن الأكثرية تستند إلى معطى جديد ألا وهو ارتفاع نسبة المقترعين بصورة ملحوظة بالمقارنة مع الانتخابات الماضية. هذا العامل يضفى على الأكثرية النيابية، فى نظر أصحابها على الأقل، المزيد من الشرعية والمصداقية. أخيرا لا آخر، فإن التأييد القوى والمعلن الذى محضته الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبى وعدد من الدول العربية الرئيسية للأكثرية النيابية يعتبر من العوامل المهمة التى ترجح كفة دعاة تشكيل حكومة الأكثرية النيابية على كفة أولئك الذين يفضلونها حكومة وحدة وطنية. لقد جاء نائب الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن إلى لبنان قبيل أيام من الانتخابات لكى يقول بصوت عال: «سوف نقيم مساعداتنا إلى لبنان فى ضوء تشكيل الحكومة الجديدة والسياسات التى تنوى اتباعها»، ودعا الناخب اللبنانى، إلى الاستفادة من الفرصة الانتخابية.. للابتعاد عن طريق الذين يفسدون فرص السلام». لم يقل بايدن فى كلامه هذا إن واشنطن تقف ضد تشكيل حكومة ائتلافية، ولكنه أكد أنها تقف إلى جانب حكومة يتمتع فيها فريق الرابع عشر من آذار بالتأثير الحاسم، ولا يقدم فيها إلى فريق الثامن من آذار ما يشجعه على الانضمام إليها. هذه المعطيات والمبررات لا تشكل، على أهميتها، مسوغا لتشكيل حكومة أكثرية نيابية. صحيح أن الأكثرية اليوم هى ابنة فريق الرابع عشر من آذار دون غيره، صحيح أن نسبة المقترعين كانت عالية. ولكن الفارق بين الأكثرية والأقلية فى عدد النواب هو ليس كبيرا إلى درجة تسمح للفريق الفائز فى الانتخابات بالتفرد فى تشكيل الحكومة، ونسبة المقترعين، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الثغرات الكثيرة فى القانون الانتخابى، لا تشكل مؤشرا حاسما على تمثيلية المجلس النيابى. فعندما يحرم الشباب الذين يبلغون من العمر 18 عاما من حق الانتخاب، وعندما تبقى مناطق لبنانية فى منأى عن المنافسة الانتخابية المألوفة، وعندما يكون المال الانتخابى والسياسى متغولا على النحو الذى عرفناه فى الانتخابات، وعندما يلعب دورا بالغ الأهمية فى تقرير سير العملية الانتخابية، يكون من الملح، بالنسبة إلى الذين فازوا فى الانتخابات أن يقرأوا نتائجها قراءة جيدة فى ضوء الأوضاع العامة والتجارب الكثيرة التى عرفها لبنان. هذه القراءة ضرورة لا بد منها لكل من يريد توطيد النظام الديمقراطى اللبنانى. تدل تلك التجارب على أن السياسة الإقصائية التى مارستها القوى الممسكة بزمام السلطة اللبنانية فى مراحل كثيرة من التاريخ اللبنانى كانت وراء العديد من الأزمات والانفجارات التى أصابت لبنان. لقد مارست سلطات الانتداب الفرنسى هذه السياسة بصرامة، فكانت سببا من أسباب إعاقة تطور النظام السياسى اللبنانى. وبينما بدا وكأنه استجابة لمطالب فريق من اللبنانيين أمل أن تحميه فرنسا من «هيمنة الأكثرية الإسلامية فى المنطقة»، فإن السياسة الإقصائية التى مارستها السلطات الانتدابية أدت إلى انقلاب هذا الفريق نفسه على الانتداب الفرنسى. ما حدث فى مرحلة الانتداب الفرنسى تكرر خلال دولة الاستقلال. فكثيرا ما حاول الفريق الحاكم ممارسة هذه السياسة ضد فرقاء آخرين من اللبنانيين، فكانت هذه السياسة من الأسباب التى أدت إلى اضطرابات 1958 وحروب السبعينيات والثمانينيات. مقابل ذلك، عرف لبنان طعم الهدوء والاستقرار والتطور عندما تراجعت هذه السياسة أمام تقدم الروح الميثاقية وتجلياتها على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية. هذا التباين بين الحالتين دعا الزعيم اللبنانى حميد فرنجية إلى القول إبان مناقشته موضوع انضمام لبنان إلى «مشروع آيزنهاور» خلال عام1957، «إذا أجمع اللبنانيين على عمل فهو خير للبنان وإذا اختلفوا على أمر فهو شر له». ربما لم يكن فرنجية يقارن بدقة بين الإجماع والاختلاف، ولكنه كان يشدد على أهمية التفاهم على المبادئ الرئيسية بين اللبنانيين وعلى تفعيل هذا التفاهم عبر المؤسسات الديمقراطية وعلى التزام الحكومات اللبنانية به سواء فى تركيبها أو فى سياساتها. لعل الذين يمسكون بقرار الأكثرية النيابية فى لبنان يدركون خطورة السياسة الإقصائية. المشكلة هى أنهم على قناعة تامة بأنهم ليسوا إقصائيين بل ديمقراطيون فحسب. ألا تقول الديمقراطية إن الأكثرية تحكم وأن الأقلية تعارض؟ هذا صحيح. وصحيح أيضا أن تحقيق وتوطيد النظام الديمقراطى الأكثرى لبثا هدفا للإصلاحيين والديمقراطيين اللبنانيين والميثاقيين منهم بصورة خاصة. إلا أن هؤلاء كانوا يدركون أن تطبيق الديمقراطية الأكثرية على الحالة اللبنانية حيث الانقسامات الطائفية قد يؤدى إلى نمط من الاستبداد الأكثرى وليس إلى ديمقراطية الأكثرية. فعندما يفكر المرء طائفيا يقترع طائفيا. التمسك بخيار حكومة الأكثرية يضعنا على هذا الطريق. فلم يكن غريبا، فى ظل استفحال التعصب الدينى والمذهبى على نحو غير مسبوق فى تاريخ لبنان، انتخاب مجلس نواب جديد من حيث ولايته، قديم فى تركيبه وخريطته السياسية والطائفية. ولن يكون غريبا أيضا أن نعود إلى ما شهدناه من قبل من أزمات وتصدعات ومآس إذا ما ترك للنزعة الإقصائية أن تعبر عن نفسها مرة أخرى من خلال تشكيل «حكومة أكثرية». هذه الحكومة معناها ب«اللبنانى» إقصاء أكبر تكتل نيابى مسيحى وأكبر تكتل نيابى شيعى. هذا الإقصاء سوف يعيدنا إلى أجواء المرارة والاحتقان والإحباط، بينما نحن فى أمس الحاجة إلى التخفيف من حدة هذه الظواهر عن طريق حكومة الوحدة الوطنية. قد يعتقد البعض أنه لا بأس إذا شعرت بعض الطوائف بالغضاضة والنقمة إذا كانت هذه المشاعر ثمنا لا بد منه من دفعه حتى يتمكن مجلس الوزراء اللبنانى من «تمرير القرارات بسرعة». ولكن التاريخ يعلمنا أن الديمقراطية اللبنانية قد تتدهور وتنهار بنفس السرعة التى تمرر فيها القرارات الحكومية، هذا إذا سلمنا أن حكومات الوحدة الوطنية كانت هى حقا المعطل للقرارات والمعرقل لتلبية مطالب اللبنانيين وحاجاتهم سواء الملح منها أو البعيد المدى.