كيف تستقيم إقامة معرض عن استمرار الثورة بدون هؤلاء؟ الأربعة عشر مصورا الذين عاشوا يوميات الثورة وما قبلها، يلقون الضوء دائما على ما يخفى عن العيون، ويقتفون أثر القصة الإنسانية المصورة هنا وهناك التى تفجر الحدث. فى مركز الجزيرة للفنون بالزمالك، اختاروا أن يكون معرضهم جماعيا مثلما كانت تجربتهم جماعية وعنوانه «الشعب خط أحمر». حيث تنتصر كتيبة الفنانين للشعب فى معركته المستمرة ضد الاستبداد فى معركة الأجور وفى مقاومته للانغماس فى الطائفية وفى ثباته ضد الطوارئ وفى إيمانه بالدولة المدنية. كتيبة المصورين
يستمر المعرض حتى 26 نوفمبر ويشارك فيه 14 مصورا هم رندا شعث وتوماس هارتويل ومجدى إبراهيم وهبة خليفة وجيهان نصر
وأحمد عبداللطيف ومحمد الميمونى وفادى عزت وإيمان هلال ومحمود خالد وروجيه أنيس ولبنى طارق وعلى هزاع والراحل محمد حسن
رندا شعث «الفكرة ليست رصد الثورة وتوثيقها.. لكن التعليق عليها والتفاعل معها
الثورة مستمرة حتى تتحقق مطالب الشعب
على الجدار فى أحد الشوارع المؤدية إلى ميدان التحرير، رسم لنموذج أحد الثوار وكتب أسفله «مستمرون»، هو هذا الرسم الذى يطلق عليه جرافيتى والذى انتشر على الجدران موثقا تارة وصارخا تارة وساخرا مرات مما يحدث، وبجانب الواجهة الزجاجية لأحد المحال، يجلس شاب فى حالة تأمل، أو تربص أو قل انتظار مؤقت، من فوق مقعد من حجرتين، واضعا يده على خده. بينما تنعكس حركة الشارع والناس وصخب المدينة على الواجهة الزجاجية بجانبه.
تعبر هذه الصورة الرمزية بامتياز عن فكرة المعرض الجماعى المقام حاليا بمركز الجزيرة للفنون بعنوان «الشعب خط أحمر» الذى يرتكز من خلال ما يزيد على مائة صورة هى ثمار عمل فريق من 14 مصورا على فكرة أصيلة أن «الثورة مستمرة حتى تتحقق مطالب الشعب» كما تقدم رندا شعث فكرة المعرض. ونقرأ حينئذ جلوس الشاب فى صورة شعث كما لو كان استراحة محارب لم يلق بسيفه، لكنه يتمهل قليلا، ولا يسلم إلا بعد تحقيق مطالبه كاملة. تؤكد شعث قائلة: «الفكرة ليست رصد الثورة وتوثيقها، لكن التعليق عليها والتفاعل معها. فالثورة مستمرة مع تصاعد الاحتجاجات التى نرفض وصفها بالفئوية، ومع تطور العلاقة مع المجلس العسكرى، ومع المعايشة اليومية وخفة الدم أيضا التى تتجلى فى رسوم الجرافيتى أو مع انتشار رمز العلم المصرى فى المدينة الذى نخصص له جزءا من المعرض.
حكايات من كواليس الحياة اليومية فى التحرير
لم يكن الهدف هو رصد الأحداث الكبرى، بل أدرك شباب المصورين أن التفاصيل الإنسانية الصغيرة هى ما تصنع الحدث. فراحت عدساتهم تلتقط، ليس فقط المسيرات ومقاومة الأمن أو البلطجية فى عدة مواقع فى أيام التحرير (مثل صور محمد الميمونى وجيهان نصر وروجيه أنيس)، بل أيضا حلقات الناس الحميمة يسمرون ويغنون ليتجاوزوا الزمن الذى يمر بطيئا، أو يلتفون حول نار مدفأة بدائية صنعوها فى ليالى البرد أو حين صمدوا للأمطار تغمر خيامهم الصغيرة. هنا بين الخيام تجلس مجموعة من الأطفال، تصفف الأم شعر ابنتها بينما تمسك شقيقتها لها بالمرآة، وهنا تتخذ الأم مكانا داخل الخيمة لتبدل ملابس وليدها، وفى خلفية المشهد ابتكر المصريون ساحة خاصة مليئة بالمراحيض لتتسع لآلاف المعتصمين (على هزاع)، وحين يرتفع صوت المؤذن إيذانا بالصلاة تتوحد صفوف المعتصمين ليتحول الميدان إلى لوحة تشكيلية، وبقع لونية مع سجود المصلين، وحين يمتلئ الميدان عن آخره يتشبث كل بمكانه للمشاركة فى الصلاة هؤلاء الذين يحتلون جزيرة عالية أو أولئك الذين امتطوا عامودا معدنيا وسجدوا فوقه من علٍ (تصوير مجدى إبراهيم). بينما تثبت المصورة والتشكيلية هبة خليفة لحظات إنسانية على كوبرى قصر النيل، فى 28 يناير يوم جمعة الغضب، عن طريق الكولاج والتلوين مع الفوتوغرافيا. حيث تؤرخ الفنانة للحظات العادية بينما يسير الناس فوق الكوبرى، وقد أصيب بعضهم واتكأ أحدهم على صاحبه بعد إطلاق الأمن وابل الخرطوش والقنابل المسيلة للدموع عليهم، لكنها فى نظرها لحظات فارقة استدعت عظمة الفراعنة الذين صورتهم يسيرون بين البشر العادية، أو تستدعى اللحظة رحلة دخول العائلة المقدسة أرض مصر وقد رسمتها تحلق حول الثوار، وتكتب فى تقديمها لمشروعها «كوبرى قصر النيل»: «تتكرر رحلة العائلة المقدسة على أرض مصر. ويبدأ التاريخ فى التحول».
حكاية محمد حسن زميل الطريق الذى حلم بالتغيير
تسلط رندا شعث الضوء على أهمية العمل الجماعى الذى حلمت به مع فريق الأصدقاء، 13 مصورا عملوا معها جنبا إلى جنب فى جريدة الشروق بالإضافة إلى زوجها المصور الحر توماس هارتويل، وحصلوا على تمويل انتاجى من مؤسسة المورد الثقافى من أجل تحقيق الهدف. ولم يكن الهدف هو انتقاء الجميل من الصور وما أكثرها بل التعبير عن التقاء وتعارض واختلاف التجارب التى جمعتهم فى بوتقة استمرار الثورة. ومثلما كانت القصة المصورة هى شريعتهم على صفحات الشروق، ذهبت كتيبة مصورى الثورة تحكى بعدساتهم ما عايشوه وذاقوه سويا، ليس فقط فى الاعتصام الذى كسر فيه من كسر وأطيح بمعداته من أطيح وبطش به الأمن مع من بطش به من الشعب. ولم تكن الحكاية ممكنة بدون إبراز أحد الأصوات المهمة فى الفريق، أى صوت محمد حسن الذى يحتفى أصدقاؤه بذكراه السنوية الأولى. حيث تحتل أعماله إحدى القاعات الثلاث بعنوان «الطريق إلى الثورة» وهى الأعمال التى أنجزها حسن فى حياته المهنية القصيرة، وهو الذى رحل عن 23 عاما، وكانت كلها تدور حول الاحتجاجات والاعتصامات والحملات ضد التوريث، أو حملة «مصر كبيرة عليك»، أو الحد الأدنى للأجور، أو مظاهرات خالد سعيد، أى كل ما كان يبرهن للمصور الشاب أن الحال لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال، وأن التغيير قادم لا محالة.
حتى الأماكن تحكى تحولاتها
تحت عنوان «أبيض وأسود»، قدم محمود خالد مشروعه الفوتوغرافى حول تحولات المدينة، ذهبت عدسته تلتقط نفس الأماكن ونفس الزوايا، وقد تغير المضمون تماما. ستة أزواج من الصور ترصد المكان قبل وبعد، قبل سقوط نظام المخلوع أمام وزارة الداخلية يفر الناس من عصى وهراوات رجال الأمن، أما فى صورة ما بعد الحدث، يظهر المكان مهجورا، بينما الجدران تنطق باستمرار الثورة وقد كتب عليها لا للطوارئ، ولا للمحاكمات العسكرية. أو صورة ميدان عبدالمنعم رياض حين تحول أيام الاعتصام إلى قلعة بدائية بناها الثوار من المتاريس ولافتات يسقط مبارك تعلو المشهد، وصورة بعد الاعتصام وقد عادت الحياة والسيارات وطلى الأسفلت من جديد. وتأتى أهمية الصورة التى تعد شاهد اثبات رأى وحكى، وحتى وإن تغيرت معالمه يظل يحمل روح الثورة داخله.
كذلك كان رمز العلم الذى غزا قلوب المصريين بعد اعتصام الثمانية عشر يوما، فصار كما لو كان كل مصرى يحتفى برمز كان قد سلب منه، كان رمزا لا يخصه تستخدمه السلطة القامعة أو لمجرد المثيل الرياضى للوطن من خلال المباريات، وصار رمزا يعتز به كل مواطن، فرصد فادى عزت غزو الأحمر والأبيض والأسود على أدوار المبانى المخالفة وقد طلتها ألوان العلم المصرى، أو ارتدته إحدى المنتقبات كزى كامل يعلوه النسر داخل الاعتصام، أو طليت به أسوار المبانى وجذوع الأشجار ضمن مشاريع اللجان الشعبية فى تجميل المدينة.
الصورة.. حكاية تتحدى المحو
فى لحظة المقاومة التى يتمسك بها الفلول ورءوس النظام القديم العنيد، يحاربون فيها محاولات الشعب التعبير عن مطالبه، يلتفون على الحقائق فى أحداث ماسبيرو والمحاكمات العسكرية وغيرها، تتبدى الصورة كطوق نجاة وشهادة تتحدى المحو. فإذا كانت الفلول وأتباع النظام المخلوع قد نجحت فى محو شواهد المقاومة فى التحرير من خلال إعادة طلاء الجرافيتى، هذا الفن الثورى الرفيع الذى يعبر عن الغضب والاحتجاج على الجدران والذى عرفته شوارع العالم أجمع، فلن يمكنها أن تمح الوثيقة المصورة. نعم الثورة لم تنته بعد، كما تؤكد إيمان هلال من خلال مشروعها المكون من مجموعة من البورتريه لمن فقدوا عيونهم أو إحدى العينين فى ثورة 25 يناير، تبعث المصورة الشابة برسالة: «أثناء بناء مصر الجديدة لا ينبغى أن ننسى هؤلاء لأن حياتهم لم تنته مع انتهاء الثمانية عشر يوما، بل علينا أن نجد حلولا لهم». كما شاركت هلال روجيه أنيس فى عمل فيديو يقدم شهادات هؤلاء من ضحوا بعيونهم فداء لمصر.
أما الجرافيتى الذى قد تراه فى العواصم الأوروبية أو على الجدار العازل بفلسطين هو دليل حى على المقاومة والاحتجاج، دليل على الحيوية والحياة، فقد صورته كتيبة المصوريين الأربعة عشر أثناء اعتصام التحرير وبعده، ليثبتوا أن الثورة التى تحدث عنها العالم ما زالت مستمرة بحسها الساخر وضحكها وقفشاتها، ورجوع البسمة على شفاه المصريين من جديد. اقتفت عدسات فنانينا يوميات الجرافيتى سواء التى أبدعها فنانو الجرافيتى أو تلك التى أنجزها الحس الشعبى الثائر، منذ البدايات «أنا عايز انترنت» و«إرحل» و«لا لمبارك عميل الأمريكان» على واجهة محل كنتاكى، وحتى «الداخلية بلطجية»، او رسوم الجرافيتى المبكرة التى رصدت الدبابة فى مواجهة بائع الخبز فوق عجلته، وحتى أحداث اليوم على جدران المستشفى القبطى «مينا مات مقتول والعسكر هو المسئول» أو «علاء مش بلطجى» حول محاكمة المدون علاء عبدالفتاح واتهامه بالبلطجة.