فى مقال يعد من أهم المقالات التى تعبر عن المرحلة المفصلية الحالية فى تاريخ الاقتصاد العالمى، اعتبر الاقتصادى الأمريكى الأشهر، جوزيف ستجلتز، فى مقال له فى بروجيكت سينديكيت، أن موجة الثورات التى بدأت من تونس الى مصر أصبحت «حركة احتجاج كونية»، من الأغلبية الكادحة، ضد طبقة ال1% التى تستأثر بالثروة، ونبه الاقتصادى الحائز على نوبل إلى أن المجتمعات الغربية أصبحت أسيرة ثنائية القطاع المصرفى المتحرر من كل القواعد التنظيمة، لتحقيق أكبر ربح ممكن، والديمقراطية المقيدة التى تمنع نشطاء وول ستريت من أبسط حقوق حرية التعبير، استخدام مايكروفون فى الشارع للتظاهر. حركة الاحتجاجات الشعبية التى انطلقت من تونس فى يناير الماضى وانتقلت لاحقا إلى مصر ثم إسبانيا غدت الآن حركة كونية بعدما أصبحت هذه الاحتجاجات تطوق وول ستريت عاصمة الرأسمالية العالمية ومدنا أخرى عبر القارة الأمريكية.
وبفضل العولمة والتقنيات الحديثة، تمكنت الحركات الاجتماعية من اجتياز الحدود والتنقل عبرها بسرعة فائقة كما تنتقل الأفكار، وفى كل مكان تجد لها تربة خصبة، يغذيها إحساس بأن «النظام» قد فشل، وقناعة بأن العملية الانتخابية حتى فى الدول الديمقراطية لم تصلح الأخطاء. وحتى حينما نجحت فى إصلاح الأخطاء، فإنها لم تفلح فى ذلك إلا بضغوط قوية من الشارع.
فى شهر مايو الماضى زرت موقع الاحتجاجات التونسية، وفى يوليو تحدثت فى إسبانيا إلى أعضاء فى حركة «إنديجنادوس» (التى تعنى الساخطون)، ومن هناك ذهبت لمقابلة شباب الثورة المصرية فى ميدان التحرير بالقاهرة.
وقبل أسابيع قليلة، تحدثت إلى نشطاء فى حركة «احتلوا وول ستريت» فى نيويورك.. وفى كل مرة تكررت فكرة واحدة، وعبارة واحدة، «نحن ال99%».
هذا الشعار يحاكى عنوان مقالة نشرتها مؤخرا أصف فيها تعمق الظلم الاجتماعى فى الولاياتالمتحدة.. 1% من الشعب الأمريكى يتحكمون فى أكثر من 40% من الثروة ويحصلون على أكثر من 20% من الدخل. ثم إن هذه الطبقة الثرية لم تجن ثروتها لأنها أسهمت أكثر من غيرها فى نهضة المجتمع بل لأنها بكل بساطة سماسرة ناجحون (وفاسدون أحيانا).
هذا لا ينفى بالطبع أن بعضا من هذه الفئة الصغيرة أسهمت إسهامات كبيرة، وفى حقيقة الأمر فإن المنافع الاجتماعية لكثير من الابتكارات الحقيقية (وليس طبعا الابتكارات المالية الجديدة التى تسببت فى تدمير الاقتصاد العالمى) تفوق بكثير ما جناه أصحاب هذه الابتكارات. غير أن النفوذ السياسى عبر العالم والممارسات غير التنافسية (التى تلقى غالبا دعما سياسيا) لعبت دورا مركزيا فى تعميق الظلم الاقتصادى.
النظم الضريبية
فالنظم الضريبية التى تمكن مليارديرا مثل وارن بوفيت من دفع ضرائب أقل من سكرتيرته، أو تمكن المضاربين الذين أسهموا فى انهيار النظام الاقتصادى العالمى من دفع ضرائب تقل عن أولئك الذين يعملون لهم أو معهم، عززت هذه الظاهرة.
ولقد أظهرت البحوث التى أجريت فى الأعوام الأخيرة مدى تجذر الإحساس بالظلم، فالمحتجون الإسبان وغيرهم فى الدول الأخرى، محقون فى سخطهم.. فهنا نظام أنقذ رجال المصارف وترك أولئك الذين كانوا فرائس لهم لأنفسهم.
والأدهى من ذلك أن المصرفيين عادوا إلى مكاتبهم يحصدون مكافآت لا يحلم معظم الموظفين بجنيها طيلة الحياة، بينما لا يجد الشباب الذين كدوا وكدحوا فى الدراسة أى فرصة للحصول على وظيفة لائقة.
إن تعاظم ظاهرة الظلم الاجتماعى والاقتصادى متولد من حلقة مفرغة.. السماسرة الأثرياء يستخدمون ثروتهم فى وضع تشريعات تحمى وتنمى ثروتهم ونفوذهم. فالمحكمة الأمريكية العليا أطلقت (فى قرارها سيئ الذكر المعروف باسم «مواطنون متحدون») يد الشركات فى استخدام أموالها للتأثير فى الاتجاهات السياسية. وبينما يحق للأثرياء استخدام أموالهم كى يصدحوا بآرائهم، فإن الشرطة لم تسمح لى بمخاطبة نشطاء حركة «احتلوا وول ستريت» فى الشوارع عبر مكبر الصوت.
إن التناقض الصارخ بين الديمقراطية المقيدة والمصرفيين الأحرار لم يمر دون أن يلفت الانتباه. لكن المحتجين كانوا مبدعين، فقد أعادوا ما قلت عبر الجماهير كى يُسمِعوه للجميع، ولتفادى مقاطعتى بالتصفيق، فقد استخدموا إشارات قوية بالأيدى للتعبير عن موافقتهم.
هم محقون فى قولهم إن ثمة خطأ ما فى «نظامنا».. ففى الولاياتالمتحدة هناك ملايين المنازل الفارغة التى لا تجد من يسكنها وهناك ملايين المشردين الذى لا يجدون مساكن تؤويهم.
لا أجندات
لقد وجهت انتقادات للمتظاهرين بسبب عدم وجود أجندة لهم، لكن هذا الانتقاد فى غير محله ولا يبدو أن منتقديهم يدركون الغاية من هذه الاحتجاجات... فهذه الاحتجاجات تعبير عن الإحباط من العملية الانتخابية، هى جرس إنذار.
كلنا يذكر ربما الاحتجاجات التى شهدتها مدينة سياتل الأمريكية عام 1999 بمناسبة انطلاق جولة جديدة من محادثات التجارة العالمية. تلك احتجاجات لفتت الأنظار إلى إخفاقات العولمة والمؤسسات الدولية والاتفاقات التى تحكمها.
حركات الاحتجاج هذه لها مطلبان أساسيان: الأول مطلب متواضع يتمثل فى الحصول على وظيفة معقولة براتب معقول ورؤية اقتصاد ومجتمع أكثر عدالة. هذه مطالب عادية لا ثورية. ثانيا هم يطالبون «بصفقة عظيمة»: ديمقراطية يكون الناس لا المال فيها هو المهم، واقتصاد سوق يقوم بما ينبغى له أن يقوم به.
هذا المطلبان مترابطان، فالأسواق غير المنضبطة (كما رأينا) تقود إلى أزمات اقتصادية وسياسية. ولذلك لا تعمل الأسواق بالطريقة التى ينبغى لها أن تعمل بها إلا عندما تعمل فى إطار من الضوابط الصحيحة، ولا يمكن بناء ذاك الإطار إلا عبر ديمقراطية تعكس مصالح الجماهير لا مصلحة ال1%. الحكومات التى نشتريها بالمال ليست حكومات جديدة.