عبر سيل من المجادلات والخطب، أرسى الرئيس أوباما ومعارضوه الجمهوريون أسس نزاع العام المقبل فيما يخص السياسة الاقتصادية. فيا لها من معركة انتخابية! فسوف تكون نوعا من صراع الأيديولوجيات لم تشهده أمريكا منذ عقود. من جانبه، أعاد السيد أوباما الذى طرح لتوه خطة للتحفيز الاقتصادى قدرها 447 مليار دولار للتأكيد بقوة على رؤيته بشأن كفاءة سياسة زيادة الإنفاق الحكومى والتخفيضات الضريبية فى مكافحة البطالة. ويمثل ذلك أول تعارض واضح، خلال شهور مع الصخب الذى أحدثه الجمهوريون الطامحون فى الفوز بترشيح الحزب لهم فى انتخابات الرئاسة، فيما يخص وضع سياسة مالية متشددة على أقصى نحو، وهو الأمل الذى يغذيه النصر الانتخابى الذى حققه الحزب فى انتخابات التجديد النصفى وقوة استطلاعات الرأى المؤيدة له.
وبالرغم من قوة خطاب الرئيس، فإن ما أظهر الفجوة بين الطرفين لم يكن انزلاق الديمقراطيين نحو اليسار. إذ يواجه السيد أوباما على أية حال، انتقادات من التقدميين لأنه لم يتدخل فى الاقتصاد على نحو كاف بقدر ما كان ترنح الجمهوريين نحو اليمين، حيث يضغطون من أجل تبنى سياسات متطرفة، على غرار التراجع واسع النطاق عن البرامج الاجتماعية من أجل القضاء بسرعة على العجز المالى.
ويُعد طرح الأسس الفكرية لكل طرف وهى العملية التى تظل فى الأغلب بعيدة عن الأنظار مهمة الاقتصاديين الذين توفوا منذ وقت طويل. ويواصل البيت الأبيض الاعتماد بقوة على كتاب الاقتصادى جون مينارد كينز دون ترديد اسمه. ذلك أنه فى ظل فشل العجز الضخم فى دفع الاقتصاد إلى الأمام، أصبحت كلمة «كينز» تقريبا كلمة سوقية فى الخطاب الأمريكى، وهو ما يعود جزئيا إلى تعرض مبادرة أوباما التى تتبنى المنهج الكينزى تماما خطة التحفيز لعام 2009 وقيمتها 825 مليارا لسخرية واسعة النطاق باعتبارها غير فعالة.
وأصبح الجمهوريون أقل خجلا فى التعبير عن مدرستهم المفضلة: مدرسة «لودفنج فون ميزس وفريدريش هايك». ويبدو الحس شبه الليبرتارى والمضاد للدولة الذى يتسم به هذان الفيلسوفان جذابا للجمهور الغاضب على الحكومة. وقالت ميشيل باكمان لأحد محاوريها «أحب فون ميزس. عندما أذهب فى أجازة وأرقد على الشاطئ، أحضر معى فون ميزس».
ولا يشاركها منافساها الأهم «ميت رومنى وريك بيرى» حماستها العلنية لفون ميزس. لكنه على كل، تُعد هذه المجموعة من المرشحين الجمهوريين أكثر محافظة من رونالد ريجان أو أى من المدافعين النموذجيين عن الحزب منذ «بيرى جولد ووتر» عام 1964. كما أن هذه المجموعة تُعتبر فى كثير من النواحى أكثر محافظة من حركة حفلة الشاى نفسها. ذلك أنه بينما صوت 58% من أعضاء الحركة تأييدا للخطة التى طرحها الرئيس فى أغسطس بهدف تجنب العجز عن السداد، عارض الخطة جميع الطامحين الأساسيين للفوز بترشيح الحزب الجمهورى فى منصب الرئاسة. ويريد هؤلاء تقليص الحكومة المركزية على نحو دراماتيكى فى المجالات كافة، من تنظيم عمل المشروعات إلى خطة أوباما للرعاية الصحية.
ويدعو السيد بيرى إلى إعادة منح المجالس التشريعية الحق فى اختيار أعضاء مجلس الشيوخ، وهو الاختيار الذى يجرى عن طريق الانتخاب المباشر منذ عام 1913. ويمتد الاختلاف إلى بنك الاحتياط الفيدرالى. ففى أغسطس من عام 2009 أعاد السيد أوباما تعيين بن برنانكى رئيسا للاحتياط الفيدرالى لفترة أربع سنوات أخرى. واليوم، يتبارى منافسو أوباما لرؤية من هو أكثر انتقادا لما يصرون على أنها سياسة نقدية فضفاضة على نحو مبالغ فيه.
وبينما يتصدر وصف السيد بيرى لبرنانكى باعتباره «خائنا تقريبا» عناوين الصحف، قال السيد رومنى وهو الأكثر اعتدالا أو أقل محافظة بين أولئك الأوفر حظا للفوز بترشيح الحزب الأسبوع الماضى إنه لن يُبقى على السيد برنانكى الذى عمل مستشارا سابقا للرئيس جورج دبليو بوش حال فوزه بمنصب الرئيس. ربما يحقق خطاب الجمهوريين نتائج جيدة فى صناديق الاقتراع، لكن سياساتهم تفتقر إلى الكفاءة.
وبالرغم من المزايا المقنعة لتخفيض العجز على المدى الطويل، فإن المفهوم الكينزى بشأن السياسة المالية لمواجهة التقلبات الدورية مازال صالحا. وكما اكتشف الاقتصاديان ألان بليندر ومارك زاندى (المستشار السابق للمرشح الجمهورى جون ماكين) فقد أدت خطة أوباما الأولى للإنعاش الاقتصادى إلى إنقاذ 8.5 مليون وظيفة، وربما منعت حدوث كساد. ويقدر السيد زاندى الآن أن خطة أوباما الجديدة سوف تخلق 1.9 مليون فرصة عمل فى غضون العام المقبل، وتضيف نقطتين مئويتين إلى إجمالى الناتج المحلى. وسوف يكون للبديل الجمهورى الضغط بعنف على المكابح نتيجة عكسية. ويصعب دائما قياس السيناريوهات المفترضة، أى الانهيار الذى كان سيحدث لو بقيت واشنطن خارج الملعب عندما ضربت الأزمة الولاياتالمتحدة فى 2008 وهو الطرح الذى يتبناه المعارضون الجمهوريون الآن، وإن كان بدرجات مختلفة. لكننا لا نحتاج إلى تحويل الاقتصاد إلى مختبر. وبالنسبة إلينا، يوفر الاقتصاد ما يكفى من العلم كى ندرك أن التخفيض الحاد للعجز مع السياسة النقدية المقيدة سوف يغرقنا مرة أخرى فى الكساد.