الجدل المحتدم في واشنطن حول تقليص العجز في الميزانية وخفض الدين العام وإنزال المقصلة علي الإنفاق العام والمتوقع ارتفاع درجة حرارته خلال الأسابيع القادمة هو في ظاهره خلاف حول الأرقام والتوقعات ومساومات حزبية لأغراض انتخابية. لكنه في جوهره يمثل صراعا علي رؤيتين بشأن حجم ودور الحكومة والموازنة بين المسئولية الشخصية وآليات السوق من جانب والمسئولية العامة والرفاهة الاجتماعية من جانب آخر يعد الأول من نوعه منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان علي حد وصف صحيفة نيويورك تايمز. تجدد الصراع فجره وصول جيل الستينيات إلي عتبة استحقاقات التقاعد, وارتفاع تكلفة برامج الرعاية الصحية لكبار السن والفقراء علي نحو وضع العامودين الرئيسيين للرفاهة الاجتماعية علي المحك, في وقت أصبحت فيه الولاياتالمتحدة في حالة إفلاس فعلي بسبب ضخامة الدين العام لولا مكانة الدولار كعملة احتياطي دولي والأهمية العسكرية والسياسية للولايات المتحدة علي الساحة الدولية علي حد قول جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق والسياسي المرموق. الانتعاش الاقتصادي الضعيف رغم التكلفة الباهظة لبرامج التحفيز فرضت أيضا تساؤلات جادة حول فعالية السياسات الكينزية وعززت من قوة حجج التيار المحافظ بشأن ضرورة إعادة النظر في حجم الدور الحكومي ونطاقه وفعاليته. هكذا تلتقي عناصر الدورة الاقتصادية والتغيرات السكانية وتباين القوي السياسية لتفرض تغيرا وجدلا واسعا حول العقد الاجتماعي الذي سيتوافق عليه المجتمع الأمريكي في العقد القادم.والتحدي الذي يواجهه الرئيس باراك أوباما هو طرح رؤية تجعل الليبرالية والمؤسسات التي قامت علي أساسها في القرن العشرين قادرة بعد تحديثها علي مواكبة التغيرات في القرن الحادي والعشرين. في خطابه الذي ألقاه في جامعة جورج واشنطن مؤخرا حاول أوباما أن يقدم رؤية طموحة تنتقي من فكر اليسار واليمين نقاط اتفاق تحقق المواءمة بين الأفكار الليبرالية حول المجتمع العظيم وأفكار حزب الشاي الذي جسده النائب الجمهوري بول ريان من ولاية ويسكونسن ورئيس لجنة الميزانية في مجلس النواب الأمريكي في خطته لتقليص عجز الميزانية علي مدي عشر سنوات والذي يتمسك به الجمهوريون الآن كورقة رابحة قبل الموافقة علي رفع سقف المسموح للدين العام عن14.3 تريليون دولار والمتوقع أن تتجاوزه الإدارة الحالية بحلول شهر يوليو المقبل. أوباما استثار في خطابه كل معاني الوطنية منتقدا خطة الجمهوريين باعتبارها توجه ضربة قاتلة للعقد الاجتماعي ولقيم الإنصاف وضرورات الاستثمار في البنية الأساسية, وقال إنها ستحول الولاياتالمتحدة إلي دولة في العالم الثالث وتقوض أسس التلاحم في المجتمع الأمريكي. لكن فرصته في النجاح لا تتوقف فقط علي قدرته علي جذب العناصر المعتدلة في الحزب الجمهوري ولكن في شجاعته في التصدي للعناصر الشاردة يسارا في حزبه الديمقراطي بالدرجة الأولي. معركة الميزانية من هذا المنطلق يمكننا تبين الاختلافات في الخطتين اللتين طرحهما النائب بول ريان والرئيس أوباما لخفض العجز في الميزانية وتقليص الإنفاق العام. النظرة الأولي توحي بأن الاختلاف ضئيل. فخطة ريان تدعو إلي خفض العجز بنحو4.4 تريليون دولار علي مدي عشر سنوات مقارنة بتقليص حجمه4 تريليونات دولار وعلي مدي12 عاما في خطة أوباما. ولكن التعمق في طريقة الوصول إلي هذا الهدف يكشف الخلاف العميق بين الرؤيتين. خطة الجمهوريين تركز علي خفض الإنفاق العام وخصخصة برامج الرعاية الصحية لكبار السن وتحويل برامج الرعاية الصحية للفقراء إلي الولايات وإلغاء برنامج أوباما لإصلاح الرعاية الصحية وتخفيض الضرائب علي الأفراد الأثرياء والشركات وهي خطة تتسق مع رؤية الجمهوريين بأن كل تقليص للدور الحكومي هو في صالح تنشيط المبادرة الفردية والانتعاش الاقتصادي. أما أوباما فيطرح رؤية اجتماعية مغايرة ويقترح زيادة الضرائب علي الأثرياء بنحو تريليون دولار وخفض الإنفاق العام بنحو2 تريليون دولار وتحقيق وفر من فوائد سداد الديون بنحو تريليون دولار. وتركز خطته لضغط الإنفاق العام من خلال خفض الإنفاق العسكري بنحو400 مليار دولار وهو ضعف الرقم الذي اقترحه روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي أمام الكونجرس, في حين لم تتحدث خطة ريان عن أي خفض في الإتفاق العسكري. أما باقي بنود التقليص فتشمل خفض الإنفاق علي برنامج الرعاية الصحية بنحو480 مليار دولار من خلال عمليات الترشيد, و360 مليار دولار من مخصصات دعم المزارعين و770 مليار دولار من بنود الميزانية غير الثابتة. وللتأكيد علي جدية مقترحاته تنص خطة أوباما علي خفض كل بنود الإنفاق العام باستثناء البرامج الاجتماعية الرئيسية إذ لم تحقق خطته أهدافها بحلول عام.2014 توافق حزبي الخطة في نهاية الأمر حاولت تحقيق توافق حزبي علي حتمية خفض العجز في الموازنة لجذب أصوات المستقلين لكنها في طياتها عكست ميلا واضحا لترضية قاعدته الحزبية بتجنب الحديث عن فرض أي أعباء ضرائبية علي الطبقة المتوسطة وإثارة حفيظة الجمهوريين بهجومه الحاد عليهم بقوله إن خطتهم ستحرم50 مليون شخص من خدمات الرعاية الصحية, وتزيد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا, وأنها لن تتيح للأمريكيين بناء الجسور والطرق والبنية الأساسية وتطوير برامج التعليم الذي يمكن أن يهيئهم لتحديات القرن الحادي والعشرين. التباين في بنود الخطتين كان كافيا لتفجير حملة تراشق بين الجانبين. الجمهوريون لم يضيعوا وقتا لوصف خطة أوباما بأنها فارغة وخجولة وتنطق بالحزبية وأنها إعلان مستتر لشن حرب طبقية ورفضوا أي اقتراح لزيادة الضرائب. والديمقراطيون المتشددون من جانبهم اعتبروا أن الرئيس بالغ في تقديم التنازلات, وأنه أفرط في مقترحاته في خفض الإنفاق علي الخدمات الاجتماعية وكان مترددا في فرض الضرائب اللازمة علي الأثرياء. لو أن الهدف هو التوصل إلي اتفاق عام فهناك الكثير من بنود الخطتين التي يمكن التوفيق بينها وهو ما سيحدث في نهاية الأمر لأن كلا الحزبين يعاني من انقسامات داخلية تصل إلي حد التحدي العلني. الحل لن يخرج عن محورين لا يمكن التفريق بينهما وهما زيادة الضرائب وخفض الإنفاق العام وفقا لبنود عقد اجتماعي جديد لكن ما سنشهده خلال الأسابيع المقبلة سيكون مناورات سياسية ورفع لسقف الرهانات وهو ما يصلح للحملات الانتخابية لكنه لا يتيح الحوار الجاد لإصلاح أحوال دولة تواجه خطر الإفلاس. هذا الخطر لم يعد احتمالا بعيدا بل هو خطر ماثل جسدته مؤسسة التصنيف الائتماني الأشهر ستاندرد أند بورز حين خفضت نظرتها المستقبلية للاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل من مستقر إلي سالب وإن أبقت علي التصنيف السيادي الممتاز(AAA) للسندات قصيرة الأجل. وقد اتخذ الجمهوريون من هذا التقييم نقطة انطلاق لتعزيز هجومهم علي زيادة الإنفاق علي البرامج الاجتماعية باعتبار أن هذا يعرض الاقتصاد الأمريكي للخطر, لكن فاتهم أن تحليل ستاندرد أند بورز نفسه أرجع السبب في تدهور مستوي العجزالأمريكي من2.5% من الناتج المحلي الاجمالي بين عامي2003 إلي2008 إلي11% قي عام2009 إلي الأزمة المالية في النظام المصرفي الأمريكي وليس إلي زيادة الانفاق علي البرامج الاجتماعية بل علي برامج الإنقاذ باهظة التكلفة لانتشال البنوك وشركة التأمين أيه أي جي وشركة جي أم لصناعة السيارات من عثراتها. فبسبب عمليات الإنقاذ ارتفع العجز المالي المتوقع إلي1.5 تريليون دولار مما يزيد الدين العام بنسبة10% في الوقت الذي لا يزيد معدل النمو الأمريكي عن2.5%. أي أن الدين العام يزيد بأربعة أضعاف معدل النمو. المثير أن كل هذا الجدل حول خفض مقترحات تقليص الانفاق لن يمحو العجز المالي إلا بعد26 عاما علي الأقل وكل ما سيتحقق إذا تم الاتفاق هو خفض نسبة العجز إلي مستويات متقاربة لما كانت عليه قبل تفجر الأزمة المالية, أي أنه سيكون نقطة في بحر من أزمة ستستمر سنوات طويلة.