الدكتور محمود إبراهيم تعوَّد أن يصارع الزمن فى معركة غير متكافئة، فبحكم عمله فى مجال الإغاثة كطبيب تخدير، كان عليه دوما أن «يغزل برجل حمار» كما يقول المثل الشعبى. ففى مدينة مصراتة الليبية، عمل الطبيب الثلاثينى فى ظروف بالغة القسوة لإنقاذ حياة طفل فى الثالثة من عمره سقط ضحية لرصاص قناصة القذافى، فتهشم مفصل قدمه تماما. صراخ الطفل اختلط فى أذنيه، على حد قوله، بصوت القذف الذى كان دائما ما يزداد مع منتصف الليل. لذا كان عليه أن يعمل على تأمين المكان ويخفت الضوء أو يشتغل على ضوء سهارى ضعيف حتى لا تتعرض للقصف المستشفى الوحيد الصامد الذى عمل به طاقم الإغاثة المصرى. سيارات الإسعاف كانت تتوافد على المكان مع تكثيف القصف، والجرحى كانوا يتساقطون كأوراق الشجر.. الدواء والغذاء والمستلزمات الطبية كانت تتناقص بدورها مع وطأة الحصار، مما زاد العبء الملقى على عاتق فريق الإغاثة. «لم أعمل فى حياتى فى ظروف مثل التى عملنا بها فى مصراتة، فقد كنا نستقبل فى اللحظة نفسها عدد من الجرحى وصل أحيانا لست عشرة حالة حرجة جدا، جميعها كانت تحتاج لتدخل جراحى سريع. كنا نعمل على إسعاف حالتين فى الوقت نفسه، بل كان علينا أن نستغل أيضا كل شبر فى المستشفى لمواجهة هذه المواقف العصيبة»، هكذا يروى الطبيب عضو لجنة الإغاثة والطوارئ باتحاد الأطباء العرب والذى كان ضمن وفد توجه لمصراتة فى رحلة استغرقت قرابة ستة عشر يوما، استطاع خلالها أن يسعف 60 حالة بالغة الخطورة. يقول الدكتور حمدى السيد نقيب الأطباء السابق إن هناك قرابة 500 طبيب مصرى متطوع، لهم باع طويل فى هذا النضال الذى لا يقتصر على المناطق الساخنة بسبب الحروب ولكن أيضا فى مناطق الكوارث الطبيعية. فأطباء الإغاثة قد ارتحلوا إلى إندونيسيا لمد يد العون للمنكوبين عقب الزلزال المدمر الذى ضربها، كما لم يتردد هؤلاء الأطباء فى حزم أمتعتهم والذهاب إلى دارفور التى امتنعت منظمات إغاثة عدة مثل أطباء بلا حدود عن التوجه إليها بسبب صعوبة الموقف هناك. كما يوضح الدكتور إبراهيم الزعفرانى أمين عام لجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب أن هناك منظمات تتردد فى دخول بعض البلدان التى ترزح تحت نير الحروب أو التى تعانى من الكوارث إلا إذا كان أطباؤها سيعملون فى ظروف على درجة عالية من الأمان، خاصة أن تكلفة التأمين على الأفراد العاملين قد تقدر بالملايين من الدولارات. قوافل أطباء الإغاثة ثرية بالتجارب الإنسانية التى تتوارى خلف أجواء السياسة وشظايا الحروب، فلم يكن وصول الدكتور مصطفى مروان إلى مصراتة مثلا بالأمر اليسير، وقد كان البحر هو المدخل الوحيد للمدينة المحاصرة. لكن سرعان ما تحول بدوره لمسرح للصراع، فالطريق عبر المتوسط كان المغامرة بعينها خوفا من قذائف قوات النظام والنيران الصديقة أو «العميلة» كما يروق للدكتور حمدى السيد أن يطلق عليها. وسط هذا الجو المشحون، مكث الطبيب نحو تسعة أيام فى الطريق قبل أن يصل للمدينة لأن وسائل النقل البحرية لا تسلك المسارات المعتادة. على متن «جرافة» تشبه إلى حد كبير قوارب الصيد، دخل الطبيب إلى مصراتة فى حظر شديد خاصة بعد أن أصبح الميناء هدفا صريحا. يقول الدكتور الزعفرانى: «لقد عملنا بشكل جيد فى المناطق الشرقية لأن الوصول إليها كان أسهل بكثير، بينما كنا نحاول الوصول للمدن الليبية الغربية بطرق مختلفة إما تحت مظلة حلف الناتو أو برا عن طريق تونس أو من خلال بلدان صديقة مثل تركيا التى تشارك بحكم عضويتها فى الحلف المذكور، وكانت قد أخبرتنا بوجود مكانين شاغرين على متن أحد بوارجها من الممكن أن تحمل أطباء من مصر». اكتشاف القنابل الفسفورية من مصراتة إلى دارفور تختلف الصورة، لكن يبقى القاسم المشترك هو مشكلة التنقل. يروى الدكتور إيهاب عمران الذى ذهب إلى دارفور عام 2010 أن المشهد فى دارفور يشبه ما كانت عليه الظروف الحياتية فى مطلع القرن التاسع عشر بمصر، فلا توجد شبكة مواصلات تسهل المهمة. ويقول: «عليك أن تتخيل أن الطريق من القاهرة للخرطوم أيسر منه من دارفور إلى الخرطوم، ناهيك عن أن الخدمات الطبية فى المناطق الريفية شبه منعدمة». وجد الطبيب نفسه مكتوف اليدين أمام حالة تحتضر لأنها تحتاج لجهاز تنفس صناعى أو حجرة رعاية مركزة، بينما قد يؤدى نقله إلى أقرب مستشفى تتوافر بها هذه المستلزمات إلى التعجيل بهلاكه. ولا يقتصر الأمر على وعورة الطريق، فبمجرد أن تطأ قدم الطبيب البلد المنكوب تفرض التحديات نفسها، فنقص المعلومات يمثل تحديا آخر على حد قول الدكتور محمد يوسف أستاذ الجراحة بجامعة القاهرة، الذى يروى تجربته فى غزة بين نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009: «شعرت أننى ذاهب للمجهول، لم نكن ندرى على أى أرض نقف، وووجدنا ما توقعناه بالضبط، فقد كنا حديثى العهد بالقنابل الفسفورية التى اعتاد الأهالى أن تسقط على رءوسهم. بل إنها كانت تسبب لهم آثارا غريبة كالسيولة فى الدم والتى لم نكن نجد لها أى مبرر طبيا». التحدى نفسه واجهه الأطباء فى مصراتة، كما يحكى الدكتور مصطفى مروان: «عندما ذهبنا لمصراتة كنا مثل باقى المؤسسات نعانى نقصا شديد فى المعلومات الخاصة عن كميات الغذاء والدواء التى كانت تتناقص كل يوم بسبب الحصار. كما كنا نعانى نقصا فى المعلومات الخاصة بالكوادر الطبية والتخصصات التى يحتاج إليها الضحايا. وقد يكون أهم ما قمنا به فى ليبيا هو توفير تلك المعلومات الناقصة، خاصة وأننا كنا من أوائل الجهات التى تحركت وذهبت إلى مصراتة. فأعددنا بيانات استفادت منها منظمة الصحة العالمية وبعض المنظمات الأخرى العاملة فى مجال الإغاثة». الدكتور مروان هو مسئول مخازن الأدوية التابعة لاتحاد الأطباء العرب وقد دأب على تنسيق توزيع الأدوية فى البيضا وبنغازى. ويضاف إلى نقص المعلومات عوامل أخرى سياسية واجتماعية قد تعرقل عمل الطبيب، إذ يروى أحدهم أنه فى إحدى المدن الليبية كان هناك توجس من الغرباء، بسبب الخوف من الطابور الخامس. وهو ما ألقى أعباء إضافية على الطبيب القادم من أجل الإغاثة، فكان عليه أن يثبت فى البداية حسن نواياه. وقد يكون ذلك هو سبب تردد الدكتور الزعفرانى فى الذهاب لليمن حيث تلعب الورقة السياسية دورا فى عرقلة العمل الإغاثى، بحسب قوله: «المجتمع اليمنى يقوم فى الأساس على القبلية، نخشى مثلا أن ننزل ضيوفا على إحدى القبائل الموالية للرئيس فنواجه بطشا من قبائل الثوار والعكس صحيح». الدكتور محمد يوسف يوافقه الرأى، موضحا: «عندما كنا نعمل فى غزة كنا نستشعر بعض الاحتقان بين الأطباء الذين ينتمون للفصائل المختلفة. وكان ذلك يجعل الجو مشحونا فى بعض الأحيان ويصعب مهمتنا، خاصة وأن المهمة الطبية تعتمد فى الأساس على روح الفريق». الشارع لنا فى مصراتة كان كل شىء مستهدفا حتى دور العبادة، فقد انتهكت قدسيتها. حتى سيارة الإسعاف التى استقلها الدكتور محمود إبراهيم كى يصل لمكان إقامته ضربت بالهاون، كما حدث مع سيارات الإسعاف الأخرى التى نالت نصيبها من رصاص القناصة، وقد أصبح الطبيب المسعف على دراية تامة بأنواع الأسلحة المختلفة. وقد تعمد النظام أحيانا القيام بأعمال غير آدمية للإضرار بفرق الإغاثة، فوضع مثلا العديد من الجثث على طرق مفخخة حتى يتردد الأطباء فى إسعاف الجرحى، طبقا لشهادة الدكتور مصطفى مروان. مستشفى «الحكمة» الذى كان يعد أهم مركز للإغاثة فى مصراتة لم تتعد طاقته الاستيعابية أكثر من 500 سرير و5 غرف للعمليات ووحدة عناية مركزة. يقول الدكتور محمود إبراهيم: «ومع هذا كنا نجرى العمليات على الأسرة العادية، كنا نعانى نقصا شديدا فى بعض التخصصات الطبية مثل جراحة الأوعية الدموية وجراحة المخ والأعصاب، كذلك كان هناك عجز فى كادر التمريض بعد مغادرة الممرضات من شرق آسيا وأوروبا، فكان طاقم التمريض يعمل 36 ساعة متواصلة». لذا فقد كان على فريق الإنقاذ ممارسة لعبة القط والفأر مع النظام القذافى، فالكثير من مخازن الغذاء والدواء كانت مستهدفة، وتعاون الأهالى معهم لتغيير أماكنها بصفة منتظمة لكى يتفادوا تدميرها. وفى خضم التحديات تعرض الأطباء للخطف والتهديد، كما حدث مع إحدى الطبيبات التى ظلت محتجزة لأكثر من ستين يوما، وذلك للضغط على باقى الفريق بهدف الامتناع عن إعلان العدد الحقيقى للقتلى والجرحى. أما مشكلات الاتصال الناجمة عن قطع خدمة الانترنت والهواتف فحدث ولا حرج، إذ لجأ البعض لتزويد الأطباء بهواتف تعمل بالأقمار الاصطناعية. يؤكد الدكتور الزعفرانى، أمين عام لجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب: «كانت ميزانيتنا حوالى 11 مليون جنيه، أنفقنا منها 8 ملايين خلال مهمتنا تلك بليبيا، وكنا بحاجة سريعة للتمويل. وقد قمنا بتقديم العلاج لخمسين مصابا بالمستشفيات المصرية، وصلت تكلفة العمليات التى أجريت لبعضهم مائتى ألف جنيه». تبرعت مجموعة من رجال الأعمال لنقل الجرحى على متن طائرة خاصة، كما تعاقد الأطباء مع السفارة الإسبانية لإدخال سيارات إسعاف مجهزة خاصة إلى المناطق الصحراوية المترامية الأطراف، فكانت بمثابة مستشفيات متنقلة. ويضيف الدكتور الزعفرانى: «سعينا للتواصل مع الهلال الأحمر الإيرانى لكى نحصل على المزيد من هذه السيارات التى صارت جزءا من حياة الناس فى مثل هذه البقع الملتهبة». الصومال.. الوضع الأسوأ