ما أجمل أن يحترم الأستاذ الجامعى التخصص حتى لو كان محيطيا، فلا يفتى بغير علم، ويكون قدوة لغيره من البشر، يتأسى به من أراد صدقا فى القول والافتاء. قرأت مقالا فى صفحة الرأى، الصفحة رقم 11 بجريدة الشروق بالعدد رقم 904 يوم الأحد 24 يوليو 2011 بقلم الأستاذة منى أبو سنة، أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس وأمين عام منتدى ابن رشد للتنوير. بعد أن شرحت الأستاذة منى معنى كلمة العلمانية شرحا جميلا، تساءلت: «هل يفقد المؤمن إيمانه لمجرد أنه يفكر بطريقة نسبية فى أموره النسبية؟.. أى فى أمور حياته اليومية، من مأكل ومشرب ومسكن وعمل وتعليم وصحة وعلاقات إنسانية..؟ وهل التفكير بشكل نسبى، أى بشكل يتلاءم وطبيعة تلك الأمور النسبية والمتغيرة، يصرف المؤمن عن الإيمان، أى عن مجال ما هو مطلق وثابت؟»، ثم أجابت: لن يفقد المؤمن إيمانه فى هذه الحالة، لكنه سيفقد خضوعه وانصياعه لفتوى الشيوخ، أى أنه سيتحرر من وصاية هؤلاء الشيوخ على عقله وحياته». ثم تساءلت الأستاذة منى مرة أخرى: «والسؤال الآن: هل لهذا السبب يهاجم بعض الشيوخ وأعضاء جماعة الإخوان العلمانية؟!، الجواب عند هؤلاء بالإيجاب، حيث إنهم يعتقدون أنه إذا تحرر عقل الإنسان من سلطة الفقهاء والشيوخ، أى تحرر من وصايا هؤلاء وأصبح تفكيره علمانيا، أى أنه أصبح معتمدا على عقله فى تسيير أمور حياته، فإن هذا الشخص يصبح بالضرورة ملحدا وكافرا». ثم عادت مرة أخرى لتثير سؤالا آخر: «هل هذا صحيح؟ هل المؤمن الملتزم بأداء فروض دينية والملتزم بمبادئ دينية فى المعاملات مع الناس، والذى يستخدم عقله العملى فى فهم أمور من سياسة واقتصاد وعلاقات إنسانية، ويكتشف بنفسه الحلول العملية لتطوير أحواله المعيشية بما يتفق وقوانين وقواعد المجتمع.. هل صحيح أنه يصبح فى هذه الحالة كافرا وخارجا عن دينه؟». تتساءل الأستاذة منى أسئلة خطيرة، ثم تجيب ببساطة شديدة كما نرى. ثم أجابت على هذا السؤال: «لن تتغير درجة إيمان هذا الشخص، لكن الذى سيتغير هو وعيه بقدرته العقلية، وهذا الوعى سيحرك رغبته فى المشاركة فى تغيير أحواله المعيشية، وأحوال من حوله، وهذه الرغبة ستولد لديه إرادة المشاركة فى الحياة العامة.. وهذه أولى خطوات الوعى بالمشاركة السياسية، وهو أمر ممتنع الآن بحكم تسلط التيار الإخوانى على عقول الناس من أجل منعهم من التحرر من وصايتهم، إلى الحد الذى يكفرون فيه كل من يحاول الخروج عن دائرة سلطانهم، وهذا التكفير والإرهاب الفكرى أمر ضرورى ولازم لهؤلاء المتسلطين، حيث إنه مرتبط بالسلطة السياسية التى ينشدونها ويسعون إلى الوصول إليها من أجل الاستيلاء على الحكم». إلى هنا انتهى كلام الأستاذة منى، وقد وجهت التهم التالية للإخوان المسلمين: 1 وصاية الشيوخ على عقل وحياة المؤمنين. 2 مهاجمة العلمانية. 3 الاعتقاد بأنه إذا تحرر عقل الإنسان من سلطة الفقهاء والشيوخ ووصايتهم وأصبح تفكيره علمانيا أصبح بالضرورة ملحدا وكافرا. 4 تسلط التيار الإخوانى حاليا على عقول الناس من أجل منعهم من التحرر. 5 الإخوان يكفرون كل من يحاول الخروج عن دائرة سلطانهم. 6 التكفير والإرهاب الفكرى أمران ضروريان ولازمان لهؤلاء المتسلطين. 7 الإخوان ينشدون السلطة السياسية ويسعون إلى الوصول إليها من أجل الاستيلاء على الحكم. ويسرنى أن أحيل الأستاذة منى أبوسنة إلى رسالة واحدة من رسائل الامام البنا، مؤسس دعوة الإخوان المسلمين رحمه الله تعالى، وهى رسالة التعاليم، لترى كيف يكون الفهم والادراك، وكيف يفهم الإخوان المسلمون الدين الإسلامى، وكيف يقدر الإخوان المسلمون العقل ويضعونه فى موضعه المناسب. وأنهم أبعد الناس عن التكفير. يقول الإمام البنا فى رسالة التعاليم فى الأصل الثامن عشر من أصول الفهم «والإسلام يحرر العقل ويحث على النظر فى الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شىء فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها». هذا هو النص الأول الذى أريد أن ألفت نظر الأستاذة منى إليه، وهو نص لا يحتاج إلى تعليق كثير. وأظن أن الأستاذة منى تحسن فهم اللغة العربية ببلاغتها، وتدرك معنى تحرير العقل، ومعنى الحث على النظر فى الكون، وهو للأسف الشديد ما لا يفعله أحد اليوم ولا حتى الجماعات ولا الأحزاب الإسلامية، ولا الأحزاب العلمانية الذين حرروا عقولهم بالطريقة العلمانية التى تعرفها الأستاذة منى وتزكيها، ولذلك سبقنا الآخرون فى برامج الفضاء والرياضيات والفيزياء والحساب كذلك. هذا رغم أن القرأن العظيم يعلى شأن العقل الذى به يفهم المؤمن إيمانه ويحسن المسلم به إسلامه. ونحن كنا فى شهر القرآن الذى يتلوه المسلمون ويرتلونه ويعتكفون فيه أكثر من أى شهر آخر، ولكنهم لا يدركون معنى بعض ما يرتلون. نقرأ مثلا فى القرآن الكريم فى سورة آل عمران الأيات 190 191 ما يلى: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاما وَقُعُودا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...الخ» فكيف يتفكر الإنسان المسلم فى خلق السماوات والأرض؟ هل يتم ذلك بلا عقل؟ ثم نقرأ فى سورة الإسراء آية 12 الآية الكريمة: «»وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا». وتعرف الأستاذة منى أن اليابانيين والكوريين وطبعا الأمريكيين والصينيين والهنود واليهود وغيرهم يعرفون عدد السنين والحساب أكثر من المسلمين جميعا، الإسلاميون منهم والعلمانيون الذين تشيد الأستاذة منى بعقولهم. نحن جميعا فى حالة تخلف شديد. العالم العربى بأكمله حكاما ومحكومين. ألا يكفى أننا حراس سايكس بيكو حتى الآن. كما يسرنى أن ألفت نظر الأستاذة منى إلى الأصلين التاسع عشر والعشرين اللذين جاءا فى رسالة التعاليم للامام البنا رحمه الله تعالى وهما يوضحان قضيتين مهمتين أساسيتين فى فهم الإخوان المسلمين للإسلام، والنظرة إلى العقل والحقائق العلمية والتوافق بين العلم والدين ثم إلى قضية التكفير الشائكة: أما الأصل التاسع عشر فيقول: «وقد يتناول كل من النظر الشرعى، والنظر العقلى ما لا يدخل فى دائرة الآخر ولكنهما لن يختلفا فى القطعى، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة. ويؤل الظنى منهما ليتفق مع القطعى، فإن كان ظنيين فالنظر الشرعى أولى بالاتباع حتى يثبت العقلى أو ينهار». ويقول الأصل العشرون: «لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض برأى أو معصية، إلا إن أقرّ بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن أو فسَّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر». أردت فقط أن أوضح نقطتين، الأولى: هى العقل وتقدير الإسلام ودعوة الإخوان المسلمين للعقل، والثانية: هى قضية التكفير الشائكة؛ وهى من أخطار القضايا فى الفقه الإسلامى والتى يترتب عليها أحكام شرعية عديدة تتعلق بالزواج أو استمرار الزواج والدفن والميراث وإقامة الحدود وفيها اختلافات فقهية متعددة، حتى أن الخوارج كفروا الإمام على بن أبى طالب واستحلوا دمه وهو من المبشرين بالجنة. وهنا يوضح الامام البنا فى رسالة التعاليم التى أريد أن تقرأها الأستاذة منى بدقة شديدة، ولعلها تناقشها يوما ما فى منتدى ابن رشد، كما يسرنى طبعا شرحها أو الرد على استفسارات المستفسرين من أعضاء هذا المنتدى الكريم. يوضح الإمام البنا هنا عدة نقاط من أهمها: 1 أن النظر الشرعى والنظر العقلى قد يتناولان بعض المسائل المتبانية بحكم التكوين.. إلخ. 2 أن النظر الشرعى والنظر العقلى لن يختلفا فى القطعى وهو ما سمته الأستاذة منى المطلق والثابت. 3 لن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة وإلا انهار الدين كله. 4 ينبغى أن يَؤول النظر الظنى النسبى عند الأستاذة منى ليتفق مع القطعى. 5 لا يمكن التفكير فى تكفير أى مسلم يقر بالشهادتين ويعمل بمقتضاهما والباء هنا كما تعرف الأستاذة منى للتبعيض كما يقول علماء اللغة. لا تكفير برأى أو معصية، حتى المعاصى أو الكبائر لا تكفر المسلم ولا تخرجه عن الإسلام. وهناك خلاف فى قضية نواقض الإسلام بين المذاهب ولكن هذا هو فهم الإخوان 6 هناك ضوابط شديدة للتكفير كلها تعود إلى الشخص الذى وقع عليه التكفير، ويحتاج هذا الشخص إلى أن يصحح وضعه ليعود إلى الإسلام إذا أخرج نفسه منه. ماذا تقول الأستاذة منى فى مسلم يقر على نفسه بالكفر أو ينكر معلوما من الدين بالضرورة أى ما يعرفه العالم والجاهل مثل أركان الإسلام، أو يرى أن القرآن غير صحيح وليس كلام الله تعالى، أو يقحم نفسه فى تفسير القرآن ببلاغته وهو لا يجيد اللغة العربية، أو أن يعمل عملا لا يحتمل تأويلا إلا الكفر مثل الذى يقول مثلا حاشا لله تعالى: لو نزل ربنا سأضعه فى السجن أو الذى يدوس على المصحف بالحذاء أو يلقيه فى الحمام والقاذورات ولا يعترف بما فيه. ويقول الأستاذ البنا رحمه الله تعالى فى الأصل الخامس عشر «والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعى فى كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة». وأذكّر الأستاذة منى بما جاء فى الحديث الصحيح من أنه إذا قال مسلم لآخر يا كافر فقد باء بها أحدهما أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإمام البنا بذلك يحل مشكلة عويصة إذ إن بعض الفقهاء يكفرون من يدعو الله تعالى متوسلا إليه بأحد من خلقه، فاعتبر الإمام البنا ذلك خلافا فرعيا فى كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة. و إن فعل أو قال أحد من الإخوان أو الشيوخ غير ذلك فلا يمكن أن يعبر بذلك عن رأى الإخوان المسلمين حتى وإن كان فى أعلى درجات التنظيم. هذا ما أردت أن أوضحه ردا على مقال الأستاذة منى فى الشروق يوم الأحد 24 يوليو 2011.