حوالى الثانية بعد منتصف الليل، يعبث سائق التاكسى فى مفتاح الراديو، فيأتى صوت فيروز: بكتب اسمك يا حبيبى عالحور العتيق، تكتب اسمى يا حبيبى عا رمل الطريق... يسترخى الراكب، مستمتعا بالمغنى وليل القاهرة، تدور الدردشة بينه وبين السائق الذى يبدو عليه عدم الانبساط: «كل اللى عامللى نفسه مثقف بيسمع فيروز، هى وسيد درويش والناس دى..». يسرح الراكب، فى تلك المسافة التى بعدت كثيرا بين ألوان الفن والثقافة الحقيقية وبين المواطن العادى، ويندهش أكثر، فربما يكون معقولا أن تترك فيروز هذا الانطباع لدى سائق التاكسى، نظرا لبعض الأمور، مثل اختلاف اللهجة وعمق الكلمات والألحان، ولكن لماذا يعتبر الرجل أن سيد درويش نخبوى؟، وهو الذى لقب يوما بفنان الشعب، ولم تتعال أغانيه أبدا على رجل الشارع: شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك، لابد عن يوم برده ويعدلها سيدك، وان كان شيل الحمول على ضهرك يكيدك، أهون عليك يا حر من مدة إيدك... هناك مسئول ما عن حالة البعاد هذه، وأحد أطراف الإشكالية هم المثقفون أنفسهم، الذين طالما اتهموا بأنهم بعيدون عن الشارع، ومنغلقون على أنفسهم، يقولون كلاما نظريا فى ندوات لا يحضرها غيرهم، يكتبون مقالات عن بعضهم البعض، لا يقرأها إلا الكاتب والمكتوب عنه، ومعهما بعض الأصدقاء. هذه تأملات جاءت بعد حضور احتفالية «الفن ميدان» السبت الماضى، وبعد سماع شكاوى القائمين عليها، من عدم استجابة كبار المثقفين لحضور هذه الاحتفالية، رغم أن الأمر مشجع، وليس مملا أو متعبا فى شىء، فهى تظاهرة ثقافية فنية كبيرة يقوم عليها ائتلاف الثقافة المستقلة منذ انتهاء الثورة، بهدف تحسين علاقة الشارع بالفن وخلافه. يذهب شباب الائتلاف صباح السبت الأول من كل شهر لتحضير ميدان عابدين، وتهيئته لاستقبال الجمهور، بل ويصعدون إلى البيوت المحيطة به، لدعوة السكان إلى الحضور بأطفالهم والاستمتاع. وفى رحاب القصر التاريخى، تجد المكان مزدحما بالبشر، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، منتقبات ومحجبات وفتيات أطلقن شعورهن، لا يلتفت أحد إلى الآخر، وكل يستمتع على طريقته. السبت الماضى كان حافلا، فى مدخل الميدان من ناحية باب اللوق، نُصب صوان كبير بداخله مسرح، تقام عليه أنشطة مختلفة: إحدى فرق الفنون والآلات الشعبية، مسرح العرائس، سينما ميدان التحرير، أمسية شعرية، وغيرها من الأنشطة. تخرج من الصوان لتستقبلك ساحة الميدان، وقد ازدحمت بورش فنية للأطفال ومعارض للوحات الكاريكاتير والتصوير الفوتوغرافى، وإحدى فرق التنورة، ومعرض صغير للكتاب يعرض فيه عدد من الناشرين كتبهم للبيع، أو بعض الجماعات المستقلة التى تسعى إلى استبدال الكتب المستعملة. تلتفت إلى ركن هناك، فتجد الفنان التشكيلى محمد عبلة قائما على رأس ورشة صغيرة للأطفال يصوغون محاولاتهم الأولى فى بعض الرسومات، وبجانبه، جلس بعض الشباب والفتيات يبيعون لوحات فنية ومشغولات يدوية. تتمشى وسط هذه الأجواء الثقافية الشعبية لتصل فى آخر الساحة إلى المسرح المكشوف، ربما تستهويك إحدى الفرق المستقلة مثل «كاميرا باند»، «صدفة»، «وسط البلد»، أو فرقة الإنشاد الدينى، تلتقط أذنك حديث أحد الشباب لمذيعة تجرى معه حديثا: «زى ما حضرتك شايفة، الناس كلها مبسوطة، ومتجاوبة مع بعضها، وحاسين بالحرية اللى حصلت بعد الثورة». ترتفع معنوياتك عندما تشعر أن الأمر مجدى، وأنه لمّس مع الناس فى الشارع، وتتذكر المرارة التى أصابتك، عندما مرت سيارة الأجرة بجوار عابدين واحتفاليته فى اليوم ذاته من الشهر الماضى، وعندما تساءل أحد الركاب عما يحدث فى عابدين، رد عليه راكب آخر بسخرية فجة: «رجالة الثورة يا سيدى عامللنا حفلة، البلد أصلها استقرت، والناس لاقية تاكل فبيحتفلوا». يومها ذهبت إلى منزلك محملا بأعباء الدنيا بعدما فشلت فى إقناع الراكب بأن الأمر لا ضرر منه، وأن القائمين عليه مستقلون، بل وإنه غير مجبر على الذهاب والاستمتاع إطلاقا. لذا أسعدك مشهد الميدان اليوم، والأطفال الذين راحوا يلهون بأمان، يجربون الرسم حينا، ويحاولون ارتداء التنورة حينا. هذه الصورة البديعة، كانت ستكتمل أكثر بإقبال الكتّاب والفنانين، الذين من المفترض أنهم وجدوا فرصة جيدة للقاء المواطن، ربما تقابل عددا قليلا من شباب الكتاب والصحفيين، أو يلفتك وجود وزير الثقافة د.عماد أبو غازى وهو يجلس متنسما على النجيلة بجوار الناقد د.محمد بدوى، جاء يستمتعان بالأجواء، ولكن أين الباقون؟. وكنا سمعنا منذ فترة عن بدء إقامة هذا الحدث فى اليوم نفسه شهريا بباقى محافظات مصر كمحاولة لنشر الحالة، حاولت الاستفسار عن مدى نجاح المسألة، فى إطار التعرف أيضا على المشاكل الأخرى التى يعانى منها القائمون على الاحتفال، عندما سألت سمية عامر بدا عليها الضيق لأنه: «باستثناء محافظة الوادى الجديد لم يفلح الأمر إلى الآن فى المدن الأخرى»، ألم تحاولوا الاستعانة بمقار هيئة قصور الثقافة؟، تجيب: «الهيئة لا تتعاون معنا بالشكل الكافى، حتى الأجهزة البسيطة كآلات العرض لا تجدها بسهولة فى قصور الثقافة المختلفة، لدرجة أننا عندما ندعوهم لإرسال الفرق التابعة لهم لتقديم عروضها الفنية، تجاب الدعوة بصعوبة، ويكون المبرر أن الفرق دائما مشغولة بالمشاركة فى مهرجانات دولية». وماذا عن التمويل؟. تقول: «رغم أننى، عن نفسى، لا أجد أى مشكلة فى أن يكون هناك تمويل من مؤسسات أجنبية، إلا أن هذا لا يحدث كما يردد البعض طوال الوقت، ولكن يمولنا أشخاص ومؤسسات مصرية تتغير من شهر لآخر، ولو زرت صفحتنا على فيس بوك شهريا، ستجد أسماء الممولين للحدث كل شهر بمنتهى الوضوح، وأحيانا يشترك القائمون على الاحتفالية فى التمويل كل بقدر استطاعته». تغادر ميدان عابدين بعد منتصف الليل، ليتوقف تاكسى يستقله الناشر محمد هاشم، ويدعوك لمرافقته وحضور اجتماع منسقى الأحزاب فى مقر مشيخة الطريقة العزمية، الاجتماع الذى سبقكم إليه د.عمار على حسن، تذهب بدافع الفضول، هناك، ينشغل هاشم بالتنسيق تليفونيا مع بقية الحركات الوطنية، وتنهمك أنت فى مطالعة الصحف حينا والاستماع لمنسقى مليونية اليوم حينا، والتى، حتى مثول الجريدة للطبع، لا يعرف مصيرها أحد، خصوصا بعد إعلان المجلس الأعلى للطرق الصوفية عدم احتضانه لها، وكان الجميع يتصورون أن هناك 18 مليون صوفى سوف يشاركون فيها. فى الطريق من مقر الطريقة العزيمة إلى البيت، يعبث سائق التاكسى فى مفتاح الراديو، ليخرج صوت الشيخ سيد مكاوى، بكلمات الرائق الكبير فؤاد حداد: المشى طابلى والدق على طبلى، ناس كانوا قبلى قالوا فى الأمثال، الرجل تدب مطرح ما تحب، وانا صنعتى مسحراتى فى البلد جوال، حبيت ودبيت كما العاشق ليالى طوال.. مسحراتى صاحب نِدا منقراتى كده كده، فى إيدى طبلة مُجوِدة، أمشى على ريحة الندا، والنسمة فى الجو منشدة، إصحا يا نايم وحّد الرزاق.. رمضان كريم.