نعم نزل القرآن ثورة سياسية بكل ما فى المصطلح المعاصر من معان وقيم إنسانية راقية وما فيه من مظاهر الثورة السياسية التى جاء الإسلام يبينها ويمارسها. ثورة على الاستبداد والتعالى.. فها هو القرآن يحمل حملة شعواء على الاستبداد لا تخمد حتى يوم القيامة.. وكانت مصرنا حماها وحفظها الله هى مسرح ومدرسة رفض الاستبداد، وتدريس مقاومته وبيان أساليب تفريغ الاستبداد من محتواه، وتفكيك قواه.. إن الاستبداد قد تجسد فى الفرعونية نظام الحكم المصرى القديم فرعون موسى يهدر القيم الإنسانية العليا ويقلب معايير الحكم الرشيد فيحيل الأمانة إلى خيانة، والحراسة والرعاية إلى عدوان، والكرامة الإنسانية تتحول إلى ذل واستعباد. اسمع القرآن يحكى عن هذا المستبد. ((وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِى البِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14))) الفجر (10 14). ((وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) العنكبوت(39). كان فرعون يعبر عن رغبته، ويشير إلى فكرته، ويدعى الحرص والأمانة. لقد ادعى فرعون زمننا الحكمة وقال أمام أتبعاه وعلى مرأى ومسمع من مليارات البشر عبر الفضائيات ووسائل الإعلام.. قال: «الكفن مالوش جيوب». أى أنه راض بدخل الوظيفة، ولا يحتاج إلى زيادة طبيعية أو غير طبيعية.. وصدق المصريون هذا الإدعاء. ويبقى مردد هذه العبارة «الكفن مالوش جيوب» ناهبا للناس ليروا بأعينهم وليسمعوا بآذانهم أنه قد استبدل الجيوب ب«بنوك»، استحدث للكفن «بنوكا» مادام الكفن من غير جيوب، واسترد من أعماق التاريخ فكرة «التوريث» فهو يورث ابنه حقوق المصريين، ويعمل جاهدا ليرث ابنه حكم مصر واستمرار استنزاف مواردها وإرسالها للبنوك والشركات خارج الحدود. وهذه صورة من صور الفرعونية: ليس مجرد الاستبداد بالرأى، بل إرهاق المواطنين وتجويعهم وإذلالهم داخليا فى طوابير العيش! والبوتاجاز، وطوابير أخرى كثيرة. لو أن للكفن جيوبا لأخذ الفرعون معه بضع مئات أو آلاف من الجنيهات لكن وللأسف الشديد قد استحدث الفرعون للكفن بنوكا حتى قبل أن يلبس الكفن وشركات وأسهما وسندات.. إلخ. لقد استثمر الفراعنة قديما وقت فيضان النيل وتعطل الفلاح المصرى عن الإنتاج واستعملوه فى إنشاء الأهرام ليتيحوا للفلاح عملا مقابل أجر ليحققوا نتيجتين هما عمل المواطن وعدم بطالته، وضمان حياته وكسبه دون انقطاع، فإذا هم قد أضافوا إلى النتيجتين حضارة وشاهدا عليها.. كما لو كانوا يدركون أنه سيأتى من بعدهم من يخرب البلاد ويجهض العباد، ويعطل الإنتاج فأنشأوا الأهرام تجذب عيون سواح الدنيا ليعوضونا بحضورهم دخلا للشعب المكلوم والمهزوم نفسيا، الشعب الذى تمزقت جيوبه، وتوقفت مصانعه، ونهبت موارده، وبيعت ثرواته لأعدائه، ويورث أرضه لاستخدام كل ذلك فى تأسيس مشروعات جديدة ولكن خارج الحدود تساهم فى إعمار بلاد أخرى إلا مصر. يتم تخريبها بنهب مشروعات توظيف الأموال، ثم بيع القطاع العام، ثم تحكير جميع موارد البلاد لصالح الفرعون وهاماناته وجنودهم وما أكثرهم.