تشهد مصر منذ فبراير الماضي حالة من الفوران السياسي، والاضطراب الطبيعي الذي يلي أي ثورة كبيرة كالتي بدأت في مصر في 25 يناير، ومن أهم ملامح هذا الاضطراب هو ظهور العديد من الأفكار والجماعات المتنوعة والمتناقضة، التي يسعى كل منهم جهده للانتشار. ومن الطبيعي أن يكون من ضمن هذه الأفكار والجماعات ماهو قائم على الحماسة الثورية غير ذات ملامح ولااتجاه محددين، ومنها ماهو مبني على استغلال وتوظيف اللحظة، والاستعجال بطرح رؤى غير ناضجة ولا مكتملة، ولا نستغرب أيضا من وجود أطروحات منقولة من أفكار بلدان أخرى بطريقة مبتسرة كما ناقشنا سابقا عند الحديث عن الأحزاب المبنية على فكرة ال"مابعد"، وال"لاأيديولوجية "، التي تسوّق لنفسها على أنها الحل المبتكر للصراع المذهبي، والعلاج لحالة الاستقطاب الطائفي التي تتصاعد تدريجيا. لكن من أخطر الأفكار على الحياة السياسية المصرية هي فكرة تكوين تجمعات وأحزاب مبنية على التسويق السلعي لمفهوم التيار الأساسي للمستشار طارق البشري عام 2008. الفكرة التي طرحها البشري هي أن لأي مجتمع كي يستفيد من تنوع وغنى مكوناته لابد أن يسعى دوما لتأكيد عوامل الوحدة الموجودة به والتي تجمع وتحفظ هذه التنوعات، ففي مجتمع يحي تجربة سياسية ناضجة وغنية لابد أن يؤدي التفاعل بين الأفكار المتباينة لأطيافه إلى إنتاج اتفاق على مجموعة من الخطوط العريضة التي تمثل حدا أدنى وقاسما مشتركا بين التنوعات والخلافات المطروحة، وأن هذا التوافق على القيم والأفكار والأهداف المشتركة، لا يأتي إلا بعد اختلاف، وتفاعل، وجدل، هادف ومثمر. وفكرة الوحدة في إطار التنوع (1) ليست بالجديدة في علوم السياسة ولا الاجتماع، فقد سبقتنا شعوب كثيرة لتأكيد مفهوم الوحدة في إطار التنوع ورفعه كشعار أساسي للعمل الوطني المشترك في مراحل من تاريخها مثل: الاتحاد الأوربي، وإندونيسيا، وغينيا، والولايات المتحدة، وهو أيضا مفهوم أساسي من مفاهيم علوم الطبيعة، ومفاهيم التصميم المعماري والتشكيليي، حيث البحث دوما عن التنوع الغني في إطار عام من الوحدة. وقد صور البشري هذا القاسم المشترك بين أطياف ومكونات المجتمع المصري بتيار رئيسي لنهر الأمة الذي تلتحم فيه جميع تيارات والروافد ويضاف زخم كل منها للآخر، فأسماه "التيار الأساسي". ويصف طارق البشري التيار الرئيسي بأنه: "الإطار الجامع لقوى الجماعة، الإطار الحاضن لهذه القوى, الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت ذاته. إنه ما يعبر عن القائم المشترك لجماعات الأمة وطوائفها ومكوناتها السياسية والاجتماعية". ويؤكد البشري أن فكرة "التيار الأساسي" نتيجة لخصائصها هي فكرة لابد لها أن تنمو نموا عضويا طبيعيا، ولا تصلح أن تنشأ بقرار أومجهود من أفراد أو جماعات، ولا تنمو بالدعاية لها، والترويج عنها، بل هي بناء عضوي ينمو خلال عملية التفاعل السياسي بين قوى وأطياف العمل السياسي المتنوعة والمختلفة، في مجتمع ما، في زمن ما، فيقول البشري "إن فكرة التيار الأساسي فكرة يستعصي تحقيقها من خلال المبادرات الفردية، لكونها تولد من رحم التفاعلات السياسية والفكرية المتنوعة، حيث لا معنى لها مع غياب اختلاف ينتهي إلى صناعتها وطرحها، تتويجا لجدل يحيط بها". ويضيف البشري في أنه في حالة المناخ الإيجابي تكون مقومات التيار الأساسي بصفاتها الموحدة والجامعة هي السائدة، أي أن ما يسيطر على إرادة المجتمع الناجح الناضج هو التمسك بما يجمعه، ويحفظ التآلف بين خصائص كل القوى والفئات، ويكون للمجتمع القدرة على وضع صيغة للتوازن بين القوى، بحيث تكون كل قوة هي إضافة للأخرى – وليس خَصما منها - في محصلة إجمالية إيجابية للمجتمع. ويتضح مما سبق: إن التيار الأساسي ليس أحد قوى أو فصائل المجتمع، بل هو المحصلة الكلية للقيم المشتركة بالمجتمع ، التي قد تكون إيجابية دافعة للأمام في حالة سيادة روح توافقية، أو تكون محصلة سلبية دافعة للتشتت والتراجع في حالة سيادة روح النزاع والانقسام. إن التيار الأساسي ليس تصورا كاملا وتفصيليا لتوجهات مجتمع ما في زمن ما، بل هو حد أدنى لما يمكن التوافق عليه بين تيارات مختلفة ومتنوعة. أو هو حد الوحدة ضمن التنوع. إن التيار الأساسي لا ينشأ بقرار ولا بمجهود أفراد، بل هو تطور طبيعي لحركة تفاعل مجتمعية سياسية. إن وضوح، وتبلور، وفاعلية التيار الأساسي وقيامه بدوره الموحد الجامع لتنوعات المجتمع لا يتم ولا يزدهر بطرق اصطناعية، فلن تتوحد قوى مجتمع وتتآلف بالدعاية والملصقات، ولا بحملات إعلانية، أو جمع توقيعات بأسماء رباعية، ولا بمحاضرات يحضرها البعض في صالات مكيفة، والتيار الأساسي الجامع لأي مجتمع ليس شيئا ميتا يسعى بعض الأفراد لإحيائه بتسجيلات فيديو ومقالات في الجرائد، فعوامل الوحدة داخل أي مجتمع هي مخلوق حي وكامن، ويحتاج للنمو من خلال العمل المجتمعي والسياسي الناضج، ومحاولة التقارب صادقة النية بين الأطراف الفاعلة، ويتم هذا كله من خلال الممارسة الطبيعية للحياة المجتمعية والسياسية، وعلى مدى مناسب من الوقت، وليس بطريقة حقن المنشطات والإنفاق الدعائي. فالمجهود الحقيقي المطلوب لإنعاش التيار الأساسي في أي مجتمع هو العمل الجاد على تصحيح بنية الحياة السياسية، ومتابعتها بإزالة شوائب الفساد والممارسات غير النزيهة، ثم ترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي. إن مباديء التيار الأساسي لا يتم الدعوة إليها، ولا معنى لمجهودات يبذلها البعض لإيصالها للناس، فالعكس هو الصحيح، وإن مباديء التيار الأساسي تستخلص مما يتوافق عليه الناس وتأخذ منهم. إن التيار الأساسي لا يمكن أن يكون هو الأساس الفكري لجماعة أو حزب، ولا معنى لأن تدّعي جماعة ما بعينها أنها تتميز بأنها تملك خصائص التيار الأساسي، لأن أفكار التيار الأساسي هي حد أدنى مشترك لا يخص أحدا بعينه، بل هو القاسم المشترك بين الجميع أو المعظم، مثل سائل الماء الذي هو عامل مشترك بين كل المحاليل المائية، ويصبح من العبث توصيف محلول ما لنفرقه عن الآخرين بأنه يتميز بوجود الماء. إذا ادعت جماعة ما أنها تتميز عن غيرها بمجموعة من المقومات والصفات والأهداف والمباديء، فبالضرورة تصبح هذه المقومات مخالفة للتيار الأساسي. إن قيم التيار الأساسي الجامع والموحد لمجتمع ما ليست قيما إنسانية عامة مثل الحرية والعدالة، فهذه القيم العامة – رغم علوها – لم تكن كافية لتوحد الإنسانية في مجتمع واحد، بل هي خصائص متفردة آنية يتوافق عليها مجتمع ما في زمن ما، وهي ليست ثابته بل متغيرة مع الزمن والظروف. إن تشكل ونضوج ملامح التيار الأساسي الذي يمكنه أن يوحد قوى مجتمع ما هو أمر لاحق لا سابق، وهو نتيجة لا مقدمة، فلا يمكن أن يتم الاتفاق عليه مسبقا أو يفترض مسبقا في شكل وثائق مزركشة، ويتم الدعوة إلى تبنيه، أو عمل حملات توعية به، أو توجيه للرأي العام إليه، بل يحدث الأمر بأن تتفاعل أطراف المجتمع بصورة طبيعية حرة غير موجهة، ثم ينتج عن هذا التفاعل الحر التوافق على القاسم المشترك الذي يشكل التيار الأساسي. شواهد وتوقعات: يرجع مكمن الاعتراض على تكوين الأحزاب والجماعات بالارتكاز إلى ما يسمونه الآن "التيار المصري"، أو "التيار الرئيسي" لأسباب منها أنها تحمل نوعا من الانتهازية السياسية، والرغبة في التعامل بالأسلوب التسويقي الهوليودي بالاعتماد على الأفكار الجادة التي طرحها المستشار البشري منذ ثلاثة سنوات، في أسلوب لا يختلف عن الأحزاب التي تسوق لنفسها برفع راية اللا أيديولوجية، حيث السبب الرئيسي هو البحث عن واجهة براقة مواكبة لأحدث الموضات، تخفي خلفها ملامح الرغبة المتعجلة في اقتناص اللحظة وتأسيس كيان لم يكتمل تشكيل توجهه حقيقي بعد، وما يدعونا لتاكيد هذه الملاحظة هو خلو برامج وتعريفات هذه التجمعات لنفسها من اي جديد أو أي تميز بل تأكيدها على أنها لا تحمل فكرة أو توجه، واعتبار هذا من وجهة نظرهم ميزة، والجديد المميز الوحيد لديهم هو شعار "التيار الرئيسي"، و"التيار المصري"، لذا نجد بوادر معركة قد تبدو وشيكة بين الفريقين على الاسم، فهو جل ما يملكانه، وعليه مدار أمرهما. أما الخطر الأكبر في ادعاء أي حزب أو جماعة أنه يرتكز إلى مقومات التيار الأساسي أو يعمل على تدعيمها، فبالإضافة لما تم إيضاحه سابقا من أنه لا معنى له - لأن التيار الأساسي هو ما يملكه الجميع ويفقون عليه - فهو يؤسس لنوع جديد من الشمولية الفكرية التي تسعى إلى إلغاء غيرها، فهذه الجماعات تدعي أنها تمثل المجتمع أو أغلبه، أوتمثل الجانب الإيجابي من المجتمع الذي يمثله التيار الأساسي، وأنها كتجمع أو جماعة أو حزب لها صفة الفوقية الأصولية والمرجعية على غيرها من التجمعات والأحزاب بما تملكه من صفات التيار الأساسي وسيادتها على غيره من المذاهب والاتجاهات. أو أن القائمين على هذا التجمعات يسعون للاضطلاع بدور" المنظم و المراقب لنشاطات المجتمع السياسي". (2) وهذا التوجه السياسي الراغب في الهيمنة الذي بدأت مؤشرات بزوغه في مصر، تشبه نشأته نشأة أي فكرة أصولية، تسعى للسيطرة وإقصاء المخالف، ويمكن تشبيهها وإلى حد بعيد بالدعوة الوهابية، التي بدأت بالدعوة إلى الرجوع إلى الأصول الإسلامية المتفق عليها بين جميع المذاهب، ثم تطور الأمر إلى الدعوة إلى نبذ المذهبية ومحاربتها، وتصوير دعوتهم على أنها هي الأصل الوحيد الصحيح الذي يأخذ مباشرة من الأصول المتفق عليها، ويعلو فوق المذاهب، ثم محاربة أي تنويعات أو تفريعات مخالفة، ومحاولة السيطرة المطلقة، وعدم الاعتراف بأي آخر. فالتاريخ يثبت أن أي توجه فكري يبدأ بالادعاء أنه يشمل الجميع، لابد أن سينتهي بأن يقصي ويرفض الجميع، وكل من يدعي أنه جاء ل"ينظم ويراقب" المذهبية ينتهي به المطاف أن يكون أكثر المذاهب تعصبا وإنكارا للآخرين. ما يحدث الآن على الساحة هو خطوات قد تعقبها خطوات لتشكل جماعة أو محفل يدعي أنه الوحيد الذي يمثل كل المصريين، وأنه يملك الوصاية على كافة ما عداه من قوى سياسية، وهذا ليس مستبعد من جماعة تحظى بدعم من رئيس السلطة التنفيذية في البلاد، وتملك تمويلا لا تفصح عنه، ويصرح منظروه بأنهم يسعون ليكونوا الرقيب على الحياة السياسية في مصر.