فتحت عيني مع أذان الفجر في الساعات الاولي من صباح ذلك اليوم دون أن أدري أين أنا. شعرت ببلل أسفل مني وبجوع شديد وانتابني الذعر من الظلام الدامس الذي يلف ما حولي، فاجهشت في البكاء، لحظات وغشي نور الفضاء من حولي وسرت بجواري حركة بدأت متثاقلة ثم صارت نشطة وسرعان ما سري ماء دافئ علي جسدي، ثم وضعت علي ثياب نظيفة وألقمت ثدياً حانيا وهبني لبناً دافئاً أسكن جوعي، وعلي ترانيم نبض قلب أمي هدأت نفسي وقرت عيني وإستسلمت للنوم. لا أدري كم من الوقت مضي لكنني استيقظت علي يد أمي تربت علي بدعة وحنان، وتضع علي الثياب وهي تغني و تضاحكني، ثم تحملني في الطرقات حتي إذا ما إنتهينا لدار عظيمة، أسلمتني لإمرأة أنكرتها، هشت لي وهي تعدني بقليل من الدرس كثير من اللهو واللعب، وأسرعت تنتزع يدي وتصحبني الي قاعة إمتلأت بأقران لي يلهون، نظروا لي بفضول وإستهجان لغريب يشاركهم درسهم ولعبهم ، فعدت للبكاء معترضاً حتي يأست فسكنت وغشيني النعاس. مرت برهه، ثم إذا بيد تهزني بحزم وهي تحذرني ان عقارب الساعة تشير للسابعة صباحاً وتدعوني للنهوض من الفراش لألحق بحافلة المدرسة، قمت متثاقلاً فوضعت علي ثيابي والتقطت حقيبة كتبي وطويت الدرج عدواً حتي أدركت الحافلة قبل أن تغادر ميعادنا. الثامنة وخمس وأربعون دقيقة، دق جرس انتهاء الحصة الاولي فوجدت أبي يخاطبني ناصحاً؛ القضاء مهنة الانبياء، أجادله حباً في جداله واستغلالاً لسعة صدره؛ والأطباء رسل الشفاء، يشفق علي فيقول بحنان؛ مشوار طويل وعسير، أصم آذاني وأقول بحماسة الشباب: تعب كلها الحياة، يهز رأسه بأسف؛ قد جمعت امهات الكتب ومراجع القانون في مكتبتي هذه، وإهتز القلم ووهن البصر فحيل بيني وبين خط رحيق سنوات طوال قضيتها علي منصة القضاء، أستبسل في الدفاع عن حلمي؛ لا يطيب لنفسي إن تتحذ من الوشاح الاخضر عن المعطف الابيض بديلاً ولا ارضي بالقلم عن المشرط خديناً، أطرق أبي بأسف وتمتم بقلب مفعم بالشفقة علي: الله المستعان وسامحني فما قصدت أكراهك، حنانه كاد يصرع عنادي وأوشكت أن ألبي رجاءه، لكنه غادر مجلسنا الي مخدعه، فأقبلت عليه وقبلت رأسه: أراض انت عني؟ يربت علي رأسي ويردد الرقية ختمها بقوله وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، قبلت يده وانصرفت كي ألحق بمحاضرتي الاولي في علم التشريح. العاشرة صباحاً، إنتصف وقت المحاضرة، فسمعت صوت أبي يقول: سأرحل، أجبته ملتاعاً وقد فطنت لمقصده: الان؟ فأومأ برأسه وقال قد كشف الغطاء والبصر الان حديد، هرعت إلي فراشه فشد علي يدي وهش لي، فلما رأي الدمع في عيني قال "والذين أمنوا وإتبعتهم ذريتهم بأيمان ألحقنا بهم ذريتهم"، ثم مضي. وضعت نظارته في جيبي وطويت كتبه وكتاباته وأسندت عصاه الي حافة الخوان كعادته، وإنصرفت. العاشرة والنصف، مازال بوسعي أن أدرك محاضرة طب الأطفال. رفيقة الصبا قد بُعَِثت برسالة الحب كنبيات الجمال يفدن اليك برسالات الحسن والعشق، وما كان حب طفولة صار عشق ولهان، و زهرتي الجميلة قد فاح أريجها وفتن الوجود جمال ألوانها، وأمتدت يد الطامحين يطلبون جوارها فأسرعت أمدد يدي أقطفها، حتي إذا ما دعي الداعي لصلاة الظهر، بنيت بها وصار قلبي بستانها الجديد. وبين الإقامة والصلاة، جائتني أمي وعلي وجهها الحبور، فقد ضمخ عطر المرو الطيب دارنا، و منّ الله عليينا فصارت هي جدة وصرت أنا للمرو خالاً. إنتهيت من صلاة الظهر، فشد عميد الكلية علي يدي وأسلمني إجازتي، فوقفت بباب الله راجيا، "وما من دابة في الارض الا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين"، فإذا بإستغاثة إمرأة قد أجاءها المخاض تشق صمت المسجد الخاشع ،فحمدت الله كثيراً، فذلك فضل من البطر الشرير التنكر له وأرتديت معطفي الأبيض وألقيت في جيوبه مفكرتي وقفازاتي الجراحية، وأسرعت أطوي درج المستشفي عدواً حتي ولجت الي غرفة الولادة وسمعت المرأة تستنجد بي وتقول الغوث يا طبيب الولادة فإبتسمت ولبيت النداء. لا أدري علي وجه الدقة كم مر من الوقت ما بين الولادات والجراحات، عشر دقائق أو يزيد، ثم جائتني أمي وعلي وجهها الحبور، زهرتك قد أنبتت برعما حسنا صرت له أباً، ولقد مننا عليك مرة أخري. إشتد قيظ الظهيرة، فهدأ الكون من حولي، وران الصمت علي حياتي، تلفت فوجدت حماي وقد ملك برعمنا عليه أمره فجعله يدور في فلكه كالعاشق الولهان، وجدته متكيأً علي الأريكة قد غلبه النصب فهمس لي: سأرحل، صحت أستبقيه: صحتك علي ما يرام ولا يزال في العمر متسعاً، قال لا صبر لي علي المرض وبلاءه، و قد كشف الغطاء والبصر الان حديد، ثم شد علي يدي وطبع قبلة علي جبين زهرتي وقال "خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً"، ثم ضم برعمنا الغافل ومضي. يزعم برعمنا أنه لا يزال يذكر ذاك العاشق الولهان، ويذكر لهوهما وضحكهما وعبثهما معاً. نصف ساعة بعد منتصف النهار، عدت أدور في ناعور الحياة حتي شعرت بنقر علي يدي، تلتفت فوجدت برعم جديد قد نما من زهرتي، فلما رأني ضحك وقال أحمد الله، هاك عمل جديد ورزق جديد في بقعة جديدة. هبطت من القطار الذي اقلني من الاسكندرية الي القاهرة ووقت العصر قد دخل ، فقام المنادي يستعد لرفع اذانه، دلفت الي مسجد المحطة أسأل الله من فضله، غريب في ناعورة جديدة ،أكبر وأقسي من ناعورتنا، العاصمة تسحق عظام أولادها فما بال الغريب فيها، تكف الأبصار برباط أسود وتلهب الظهور بسياطها فينقلب المرء ثوراً كفيفاً يدور ويدور بلا توقف ولا رجاء. رفع المؤذن صوته بالأذان فأغمضت عيني متمتماً بالحمد والتسبيح، أفضل وقت للدعاء ما بين الأذان والاقامة، نادتني زهرتي أن أغثني، قد فتك زائر ثقيل بأمها، تعلقت الأفئدة بباب الله واهب الشفاء، دعوناه ان يكون رحيما بنا، وقضي أن يكون رحيماً بها، تعجل الإمام إقامة الصلاة، فشدت علي أيدينا وطبعت علي جبين براعمنا قبلة ثم مضت. نبع حنان قد جف، سنة الحياة، وقضاء الله في الأرض ولا راد لقضائه. اصطف المصلون لأداء الصلاة، ورفع الإمام يديه الي صوان أذنيه وقال “الله أكبر” واذا بزهرة السوسن في بستاني تنفض أوراقها وتمضي فجأة. ينخلع القلب ويذهل العقل لفراق القرين والصديق، أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد، يا ربي انت قضيت ولا راد لقضاؤك، أرفق بنا واجبرنا يا جبار. تمت الصلاة، فإذا بنقر علي كتفي من جديد، قد مننا عليك مرة بعد مرة. نظرت لوجه مليكتنا وفيه طيف سوسننا، فابتسمت وقالت؛ هاك عمل جديد في بقعة جديدة في ارض جديدة مع أناس جدد. تسافر؟ قالها أخو أمي وهو أخي مستنكراً، نعم قد سئمت العيش في ديارٍ ينعق البوم علي أطلالها، أرض تمنح الفاسدين جنانها وتمسك عن الشرفاء خيراتها، وطن يسقي الجهل أدعية وصلوات ويبني مجده بالبخور والشموع والترانيم، و أي خير في بلاد تضن حتي بالعيش الكريم علي أبنائها، يستجير أولادها بجوف البحر يصرعهم من شواطئها المسمومة، نظر لي بإمتعاض وقال هو الوطن قلت بل قل وطن، أطرق برهة ثم رفع رأسه لي وابتسم بحزن وقال ومن يشوي اللحم للقوم يوم عيدهم؟فطنت لمقصده فقلت بلوعة، أكشف الغطاء وصار البصر حديد؟ أومأ برأسه فقلت بإرتياع ألا تحنق علي وطن أطعمك سماً فتك بكبدك، أولازلت تسميه وطنك؟ تباً له وطن، فقال غاضباً وطن بعيد عن الوطن لا يكون الا غربة، وشد علي يدي ومضي. لا سنة للعصر بعد الصلاة، فحزمت حقائبي وركبت مطيتي حتي استقريت بالأرض الجديدة. الوجوه هاشة وجادة ومتجهمة، مرحبة وغير عابئة ونافرة، ناعورة أكبر من كل نواعيرنا، ناعورة تمتص الحياة وتسحق العظام وهي تنعي، تسقي الأرض عمراً لا ماءً ، أرض من زرع فيها حصد، ومن جد فيها وجد، وعلي قدر الورود تكون الأشواك، هنا تتيه بانك حر ابن حر، وأنت موقنن بأنك عبد ليس لك من الأمر شئ. يهب لمن يشاء الذكور ويهب لمن يشاء الإناث ويجعل من يشاء عقيماً. أبحث في ظلمات بحور العلم عن ترياق لعقم عود يابس، أبتغي المجد في شفاء العاجز، و يفتح لي ربي، فأتيه بما أتيت وأنسي شكر ربي فيلكزني لكزة المحب الرحيم، انما يخشي الله من عباده العلماء. من بعيد تأتيني الأخبار، الوطن انتفض للحرية، مخاض صعب لكرامة شعب عاش دهراً مهدور الكرامة مستباح العرض منهوب الثروة غارقاً في الجهل. حلم تحقق أوله، ودرب طويل شاق مضني نحو المجد، “ولو أن اهل القري امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض”، تهفوا نفسي لوطني الذي أعرفه وأتمناه، ممتن لوطن فتح لي ذراعه، لكن وطن غير الوطن لا يكون الا غربة. يأتي المغرب فجاءة ولا يمكث الا قليل، جبريل صلي بالرسول الأمين كل صلاة في أول وقتها وفي أخر وقتها، الا المغرب، صلاه في اليومين في اول الوقت، المغرب غريب وكذلك ابن آدم، لا يلبث الا قليلا، يحسبه كثيرا وهو أقل القليل. ستغرب الشمس وأصلي المغرب، ثم يدركني العشاء، فأصليه، وأغمض عيني، فيكشف الغطاء ويصير البصر حديد، وأمضي.