رغم اجتهاد الباحثين والمحللين فى توصيف الثورات العربية أو الحراك منذ بداية العام الحالى فإن ما شهدته عدة دول عربية مؤخرا لا يعدو عن كونه عملية تحول كتلك التى شهدتها مناطق أخرى فى العالم، مثل أمريكا اللاتينية وآسيا وشرق أوروبا لكن ما قد يميز عملية التحول فى العالم العربى، ويجعلها محط اهتمام متزايد هو أهميتها الاستراتيجية البالغة بإنتاجها ومخزونها الضخم فى النفط والغاز وموقعها المتحكم فى طرق التجارة الدولية، فضلا عما أتاحته التقنيات المتقدمة من متابعة لصيقة للتطورات المحلية عبر وسائط الاتصال الحديثة. ••• من هذا المنطلق، فإن عمليات التحول تحمل فى طياتها مخاطر وتحديات عادة ما ترتبط بالمدى القصير، كما أنها تبلور فى نفس الوقت فرصا وإمكانات على المدى المتوسط والبعيد. إلا أن تقييم المخاطر والتحديات التى تطرحها عمليات التحول الجارية فى المنطقة العربية لا ينبغى أن يتغاضى عن حقيقة أن معظمها لا ينبع فى واقع الأمر من المعطيات الجديدة الناتجة عن عملية التحول، فالحديث عن خطر الإرهاب والتطرف وانتشار الأسلحة النووية والنزاعات المسلحة وتهربب المخدرات والجريمة المنظمة والمخاطر البيئية والهجرة غير المشروعة، فضلا عن استمرار احتلال الأراضى العربية، لا يبدو جديدا أو متصلا بالثورات العربية، بل يمكن القول إن خطر الكثير من تلك التهديدات كان سيتعاظم إذا ما استمرت مواجهته بالأساليب الأمنية المؤقتة، بعيدا عن تطبيق برامج التنمية الاجتماعية الشاملة والبحث فى معالجة الأسباب الحقيقية لظهور تلك المخاطر. كما أنه من المهم أيضا لدى التوقف عند مظاهر عدم الاستقرار الناشئة عن عمليات التحول أن يتم التعامل معها حسب كل حالة وباعتبارها مظاهر وقتية بحيث تظل الرؤية الأبعد هى المحرك الرئيسى، ألا وهى اتخاذ الخطوات التى تكفل تحقيق ما قامت الثورات من أجله وإعادة بناء نظام أمنى وسياسى واقتصادى واجتماعى عادل، وكذلك من الضرورى استبعاد أى محاولات خارجية للتدخل أو التأثير على عمليات التحول، ضمانا لأهم ما يميزها ألا وهو ملكيتها للشعوب التى حركتها وتدفع بها إلى منتهاها. ••• أما بالنسبة للفرص والإمكانات التى فجرها الحراك العربى، فدون الدخول فى شروح لأسبابه، يمكن الوقوف على خيوط تربط بين هذه الأسباب وبين الفرص التى تتيحها الثورات العربية عندما تصل إلى غايتها من حيث تحقيق المشاركة السياسية والممارسة الديمقراطية السليمة وتعزيز مظاهر الدولة العصرية. حيث يهيئ تحقيق هذه الغايات، فضلا عن أهميتها لذاتها، الفرصة للتعامل بطريقة أفضل مع التحديات التى تواجهها الدول العربية والمنطقة ككل وبنهج أكثر رشدا، كما يطرح أمام الأطراف الخارجية إمكانية التعامل مع شركاء أكثر عقلانية لمعالجة أى مخاطر مشتركة. فكلما كان هؤلاء الشركاء يمثلون دولا أكثر ديمقراطية تضاعفت مسئوليتهم أمام شعوبهم فى المقام الأول مما يمنحهم الحجة الصائبة والتفويض السليم فى الدفاع عن مصالحهم فى مواجهة الأطراف الخارجية، خصوصا أن خضوع الحكومات المنتجة للمحاسبة يحد من أى جنوح للحلول المؤقتة أو الضيقة فى نظرتها للمصلحة الوطنية. على أن تلك النظرة المتفائلة للمستقبل لا ينبغى أن تحول دون معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة، والتى كان لتفاقمها نصيب من دوافع الحراك السياسى، لأن الإصلاح الاقتصادى يجب أن يتلازم ويتتابع مع الإصلاح السياسى فى علاقة عضوية، فعلى سبيل المثال، لم يكن النمو الذى شهدته مصر قبل الأزمة المالية العالمية كافيا، لا لخفض نسبة الفقر التى تشمل 40٪ من السكان، ولا لاستيعاب البطالة المتزايدة خصوصا بين الشباب، والخريجين الجدد بشكل أخص، ومن ثم سيتحتم على كل من يتصدى للعمل العام، فى ظل مناخ سياسى أكثر حرية، أن يتقدم بتصورات عملية وحلول خلاقة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية. كما يتعين على الأطراف الخارجية، توخيا للفرص والإمكانات، التى تتيحها عملية التحول، أن تتقدم بدعم حقيقى غير مشروط، يؤمن الثورات الوليدة من مخاطر عدم الاستقرار ويسد الفجوات التمويلية التى تواجهها. ولا شطط فى التأكيد على ضرورة التمحيص فى كل عون أو دعم خارجى، مع الحاجة إليه، والوقوف عند محاولات ربط هذا الدعم باتباع سياسات بعينها بما يعنى إعادة تدوير الأوضاع السابقة أو كون ذلك الدعم مجرد تدوير لموارد سبق تخصيصها بهدف الإيحاء بتبنى الثورات العربية أو مد عباءة الرعاية أو الوصاية عليها. ولعل من بين أوجه الدعم المثيرة للجدل فى هذا السياق هو الاستثمارات الخارجية المباشرة، فى ضوء حساسيتها البالغة للأوضاع الأمنية والأطر القانونية التى من شأنها توفير الحماية لها، فالحكومة المنتخبة لن تتراجع عن التزاماتها الدولية أو الوطنية ما دامت تدرك أنها ستتعرض للمحاسبة من قبل ناخبيها، الأمر الذى يملى عليها أن تأخذ فى الاعتبار مصالح مواطنيها ضمن إطار يتسم بالمسئولية تجاه الحقوق والحريات المدنية والتحديات الوطنية والدولية. ••• إن مرور المجتمعات بانتفاضات هو أمر طبيعى، والمجتمعات العربية ليست استثناء من تلك السنة الكونية، ولا يمكن حصر نتاج الثورات العربية فى نماذج محددة، إنما ما يميزها هو ملكيتها للشعوب ونبوعها من تطلعاتها. وما من شك أن ما ستفرزه الثورات العربية من مجتمعات ديمقراطية وتعددية من شأنه توفير بيئة سياسية وأرضية مشتركة أفضل للتعاون والتفاعل مع العالم الخارجى فى مواجهة المشكلات على المدى القصير والبعيد، من منطلق تبادل المصالح والاشتراك فى المسئولية.