كلما جئت إلى كندا، أفكر فى أن العالم لا بد أن يكون بسيطا. فالناس لطفاء، ومهذبون. ولا يوجد زحام. والشخصيات التى يفترض أن تكون غاضبة فى أجواء أصعب، تتحول إلى شخصيات ألطف تحت السماء الكندية الواسعة، ولكن لا يمكن أن يأتى الجميع إلى كندا، وهذا أمر يدعو للأسف. فهو مكان جيد، حتى لو لم يتجاوز مايكل مور القمة. ومع ذلك، كان أوسكار وايلد قاسيا للغاية عندما وصفها بأنها «نسخة اسكتلندية حزينة من أمريكا»، فالأمر أقل قتامة من ذلك، والأمور خارج كندا متوترة لأن هناك تحولات مزلزلة تجرى، بعضها واضح: فالقرن الأمريكى بسبيله للانتهاء، وبعضها غير واضح: فلم يتوقع أحد الربيع العربى لأن أحدا لا يستطيع التنبؤ بما ينجم عن الروح الإنسانية. فلدينا صيغ ومعادلات لأشياء عديدة، ولكن ليس من بينها النقطة التى يتحطم عندها الخوف. ••• فعلى الرغم من جميع الصعاب، وجد الناس أنفسهم ينتفضون، يواجهون البنادق، وينتزعون حريتهم من قامعيهم. حدث ذلك فى تونس، وفى مصر، واليمن. ويتواصل النضال فى سوريا وليبيا، فما هى كيمياء تحطم الخوف؟ لا نعرف. إنه تيار غامض يسرى بين الناس. وأرى أن إمكانية هائلة للخير تكمن فى ذلك الغموض. ونحن مازلنا نسمع تلك العبارة المخيفة الرافضة «الشارع العربى». عليها اللعنة! فقد كانت شجاعة العرب ملحوظة فى شوارعهم وهم يطالبون بكرامة حرموا منها طويلا. وتحمل هذه الشجاعة المتحدية مبررا لتصديق أن هذا القرن الذى أصابه الغضب الإسلامى عند بدايته، مازال قادرا على الوفاء بوعده. غير أننا لا نعرف ماذا يخبئ المستقبل. وهذا أحد دروس المفاجأة العربية. ويمكننا القول إن التكنولوجيا تشكل ما نحن بصدده. فقد تحول جدل على الفيس بوك فى مجتمع افتراضى، فى تونس، إلى ثورة إقليمية. ويبزغ عالم عابر للقومية من خلال وسائل الاتصال الاجتماعية. فالمؤسسات عالمية، وسلاسل التوريد عالمية، والمحادثة عالمية، والعالم يتكامل كما لم يحدث أبدا من قبل. ومع ذلك، تدافع الدول عن سيادتها بضراوة. وتتمثل المفارقة فى: أن الدولة القومية تبدو ثابتة كما كانت فى القرن التاسع عشر، فكرة صلبة تستولى على القلوب وتسخر من المنطق، غير أن التكنولوجيا سحبت الحدود القومية بعيدا. وسوف تميز التوترات بين العالمين القديم والافتراضى القومى والعابر للقومية معظم أحداث القرن الواحد والعشرين. ••• ونحن، حتى الآن، لم ننجح فى صياغة نظام عالمى جديد يعكس المجال الدرامى للتكامل العالمى. وكان إنشاء مجموعة العشرين إحدى المحاولات، ولكن سيكون من اللازم إنشاء المزيد من المؤسسات ذات سلطات أكبر إقليميا وعالميا لتحل محل سلطة الحكومات القومية. وقد اقترح جان كلود تريشيه، رئيس البنك المركزى الأوروبى، إنشاء وزارة مالية أوروبية لإنقاذ اليورو. وهو أمر ضرورى بالطبع. فلا يمكن قيام عملة موحدة بين 17 دولة تتباين سياساتها المالية. ولكن، فى وقت يتميز بالمصاعب الاقتصادية، تتميز الحركات ذات القوة الدافعة فى الغرب بأنها قومية مثل جبهة مارى لوبان القومية فى فرنسا أو حفل الشاى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تجر القبيلة قاطرة التكنولوجيا التكاملية، غير أن محرك هذه القاطرة لا يرحم، وسوف يسود فى الوقت المناسب. والآن، صارت حتى القوى الكبرى مترابطة. وهى تعمل معا للمرة الأولى فى التاريخ،على نحو ليس دائم التناغم، ولكن بصورة مستمرة. وخلال وقت ما من العقد المقبل، سوف تصبح قوة أوتقراطية، هى الصين، أكبر اقتصاد فى العالم، أكبر من اقتصاد الولاياتالمتحدة. وكان صعود الصين إلى المسرح العالمى سلسا على نحو ملحوظ. وقد وضعت قيادة الحزب الشيوعى الصينى الاستقرار العالمى فى قلب سياستها الخارجية؛ لأنها تريد أن تصل الدولة سريعا إلى تحقيق التنمية الكاملة بحلول منتصف القرن. ويعتبر هذا التطلع الصينى إلى عقود من استقرار أحد عوامل الاستقرار فى العالم. صحيح أن العلاقة الصينية الأمريكية تنافسية، غير أنها أيضا شكل من أشكال التعايش. حيث تحتاج الصين إلى أن تنمو السوق الأمريكية بصورة سريعة نحو 8 فى المائة لضمان الاستقرار السياسى. وتحتاج أمريكا إلى أن تشترى السلع الصينية رخيصة الثمن فى وول مارت، وإلى الائتمان الصينى من أجل تمويل العجز الهائل الذى فاقمه جمود واشنطن. ولا أتوقع أن يفقد هذا الترتيب جاذبيته قريبا. والغموض الكبير يتمثل فيما إذا كان يمكن للقيادة الصينية أن تصبح بارعة بما يكفى للحفاظ على الاستقرار الداخلى. ورهانى هو أن هؤلاء الطغاة الصينيين، البارعين، والأذكياء، والقساة أحيانا، يمكن أن يطرحوا خيارا معدا جيدا على نحو يمكن تحمله. ولكن الأمر الغريب، أن العالم العربى هو الذى وضع حدودا لجاذبية الاستبداد، وأثار موجة من الذعر الصينى. فقد سبب العقد الأول من هذا القرن ارتياحا للمستبدين، سواء فى الصورة الصينية أو الروسية. ويبدو هذا الآن مجرد انحراف قصير الأمد. ••• وعندما كنت فى ميدان التحرير بالقاهرة فى أثناء الثورة، جاءت لحظة بدا فيها أن قوة الدفع ضاعت. وكانت النتيجة غير معروفة، ثم عاد وائل غنيم المدير التنفيذى بشركة جوجل الذى كان قد اختفى لأيام فى متاهة مبارك الوحشية، إلى الظهور وكتب فى تويتر «الحرية نعمة تستحق الدفاع عنها». وقد أثارت العبارة الحماس فى الميدان. ومع ظهور غنيم على شاشة التليفزيون تلك الليلة، فتحت الطريق لسقوط مبارك. وكانت الطاقة التى ولدتها هذه العبارة تذكيرا بروح اللحظة التى ذاب فيها الخوف. تلك اللحظة هى أكثر ما تخشاه الأنظمة المستبدة. نعم، الحرية نعمة تستحق الدفاع عنها.