والإشارة هنا ليست إلى موظفى الأجهزة الحكومية ممن لهم سلطة وضع الأختام الرسمية على معاملات المواطنين. بل إلى نشطاء سياسيين وفصائل حزبية وتيارات دينية تدعى أن لها سلطة أخلاقية ومعنوية تمكنها وبمعايير مختلفة من فرز المصريين فى لحظة التغيير الكبرى الراهنة إلى أخيار وأشرار، وتعطى لها الحق فى المطالبة بسطوة الفئة الأولى وإقصاء الثانية. وفى مثل هذه الممارسات، لو يعلمون، خطر بالغ على بناء الديمقراطية فى مصر والذى لن يأتى إلا باستيعاب ودمج حقيقى للقطاع الأكبر من المصريين. هناك بداية حملة ختم «الشباب الثورى» بعد «ثورة الشباب». هؤلاء، وبعضهم فاعلون فى ائتلافات وجبهات واتحادات شباب الثورة، يقسمون شباب مصر إلى «ثوريين» ساهموا فى تفجير الثورة العظيمة (البعض يدعى أنهم صنعوها بمفردهم) ولهم من ثم الحق فى تحديد وجهتها، و«مستتبعين» لم يشاركوا فى العمل الثورى وبالتالى لا دور لهم اليوم فى بناء مصر الديمقراطية والحرة. على امتداد الجمهورية فى الكثير من المحافظات التى شرفت بزيارتها خلال الفترة الماضية تكررت أمامى وعلى هامش محاضرات عامة مشاهد لمواجهات بين مجموعات شبابية تدعى كل منها أحقيتها بصفة الثورية وتتهم الآخرين بكونهم «فى الحقيقة فلول». ختم «الشباب الثورى» يوظف أيضا باتجاه القطاعات العمرية الأخرى فى المجتمع التى باتت تطالب بإثبات نقائها الثورى بقبول الاستتباع للشباب والتغنى صباحا ومساء بدورهم القيادى فى المجتمع والسياسة. وهو ما يأخذ فى الكثير من الأحيان أشكالا هزلية كمداخلات إجبارية «لشباب الثورة» فى مؤتمرات متخصصة حول الاقتصاد والموازنة والبطالة والفقر تحت عنوان «والآن نستمع إلى رأى شباب الثورة». بالقطع هناك الكثير من الشباب القادر على تناول مثل هذه القضايا بموضوعية والإسهام فى التفكير فى سبل معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية والأمنية التى تمر بها مصر اليوم، إلا أن الشريحة الأكبر من هؤلاء الشباب، وهم بين أكاديميين ومهنيين وناشطون فى المجتمع المدنى والمبادرات الأهلية، حرمت من ختم «الشباب الثورى» ولم تتمكن من ثم من تصدر المشهد الإعلامى أو إيصال رأيها. ثم يأتى فى مرتبة ثانية بين الأختام الموظفة اليوم فى فرز المصريين إلى أخيار وأشرار ختم «النقاء الثورى» الذى تسعى طائفة من السياسيين والإعلاميين إلى احتكار منحه وتحديد مضامينه ومن ثم احتكار حق الحديث باسم الثورة. والخطير هنا هو جوهر الاستبعاد المرتبط بختم النقاء الثورى هذا. فكل من شارك فى النظام القديم، وبغض النظر عن طبيعة دوره وفعله ومواقفه، يتعين استبعاده إن من المؤسسات الرسمية أو الحياة السياسية أو إخراجه من ساحة الفعل العام. وينطبق ذات الأمر على المصنفين غير الأنقياء بالمعايير الثورية فى المجال الإعلامى، فهذا محور يتعين استبعاده وذاك ينبغى التشكيك فى مصداقيته وآخر تلصق به التهم المسبقة بغض النظر عن مضمون فعله. بل إن البعض من حملة ختم النقاء الثورى يمارسون الاستبعاد ضد قطاعات بأكملها من المواطنين (أصحاب الأعمال والمستثمرين) أو مؤسسات حيوية بداخل بناء الدولة المصرية كالأجهزة الأمنية (ويتهور البعض ويزايد ملوحا بغياب النقاء الثورى باتجاه القوات المسلحة وهى الضامن الوحيد للتحول الديمقراطى). ثم هناك بالطبع حملة الأختام الدينية، وأولئك اعتدنا عليهم فى مصر قبل الثورة واليوم يوسعون من دائرة فعلهم ليوزعوا أختامهم على القوى السياسية والوطنية والنشطاء. فذاك ناشط إسلامى ملتزم بصحيح الدين، وذاك ليبرالى يعادى الدين، وآخر محل اتهام مسبق إلى أن يتضح أمره. توزع الأختام هنا، ليس بالضرورة من قبل التيارات السياسية المستلهمة للمرجعية الدينية، على نحو قاطع فلا يفيد تأكيد الليبرالى على عدم تعارض الحرية مع الدين واحترامها له ولا يقنع اليسارى حين يتحدث عن أولوية الأجندة المجتمعية على حساب أجندة الحريات الشخصية. أختام خطيرة واستبعاد ترسخه فى مرحلة انتقال ديمقراطى ممارسات لا علاقة لها بقيم الديمقراطية من قريب أو بعيد.