حول التمثيل والإنابة: منذ تراجع صراع المنظومات الدولية التى اعتبرت حاملة لإيديولوجيات، توسع فعل مقولات صراع الحضارات (وغالبا ما توضع الديانات كنواة فى مركز الثقافات من قبل أصحاب هذه المقولات). وانتشرت كالنار فى الهشيم صناعة الحوار بين الأديان، والحوار بين الثقافات وغيرها. وكنا قد عبَّرنا عن رأينا أن النموذج، الذى يرى حركة التاريخ كنتاج للصراع بين الحضارات والثقافات والديانات والتصور، الذى ينصِب الحوار بينها كرد عليه، هما وجهان لنفس العملة. مع الفرق أن تصور إمكانية الحوار بين الثقافات والديانات كبديل للصراع بينها هو ليس نظرية بل مجرد رد فعل على نظرية. فنموذج الصراع أو التناقض بين الثقافات يستحق اسم نظرية رغم اختلافنا الكامل معها ورفضنا المطلق لها. أما تصور الحوار بينها فيقبل بمسلمات نظرية الصراع، ولكن ليست لديه مفاعيلها التحليلية. فهو عبارة عن موقف معيارى وعظى يقوم على اعتبار فرضيات نظرية الصراع كأنها مسلمات. وهى تسلم أن الإنسانية تنقسم بين ثقافات وديانات متجانسة فى مركزها أفكار وصفات وعقليات مميزة لها، وأن هذه الثقافات الكبرى هى المحدد الرئيس فى ثقافة وسلوك الدول والجماعات والأفراد، وأنها توجد فى حالة تناقض وصراع. وطبعا نحن ندعى أن الثقافات متنوعة غير متجانسة، وأنها غير محكومة بمبدأ واحد يفسرها (مثل المادة، الروح، الحرب، السلم، الشك، التسليم، العقلانية، العنف.. إلخ). كما ندعى أنها متغيرة ومتشكلة تاريخيا، وأن الديانات والثقافات تتفاعل فى الزمان والمكان عبر التاريخ. وأنه لا حدود لفعل هذه العملية، التى تنفى وجود ثقافات نقية. فقلما نجد دينا لم يرث من غيره عناصر عديدة إن كان ذلك فى نصوصه وإن كان ذلك فى أنماط تدينه الشعبى، أما الثقافات فبحكم تعريفها ليست نقية. يقوم هذا التفاعل عبر الحروب والتجارة والتنقل والترجمة والهجرات والحملات والكوارث الطبيعية وغيرها.. الثقافات والديانات تتفاعل وتتداخل وتتطور خلال ذلك وتتنوع. ولكنها لا تتحاور. البشر يتحاورون. والبشر يتفاوضون. وسوف نميز بين التحاور والتفاوض لاحقا. ولكن يهمنا أولا التأكيد أن جمع عدد من رجال الدين أو المثقفين المنتمين إلى ديانات مختلفة أو ثقافات مختلفة حول طاولة فى فندق أو فى كهف، لا يعنى أنه فى هذا المقام يجرى حوار بين الديانات والثقافات، بل يعنى أن هناك حديثا يدور بين أفراد، هم فى هذه الحالة رجال دين أو مثقفون. وفى أفضل الحالات يمكن القول إن هؤلاء الأفراد يمثلون تصورات مختلفة لثقافاتهم ودياناتهم، هى تصوراتهم الفردية التى ربما يشتركون فيها مع آخرين. أما إذا ادعى كل منهم أنه يمثل ثقافة أو دينا بعينه، فإنه كمن يعتبر نفسه تجسيدا لثقافة أو لدين. ولكى يفعل ذلك يثبت تصورَه هو للدين أو للثقافة كأنه حقيقة هذا الدين وهذه الثقافة بعينها، محددا صفات لهذا الدين أو لهذه الثقافة يتحدث هو باسمها بعد تعيينها. بعد أن يفعل ذلك يكون عليه أن يمنح للآخرين الجالسين مقابله هذا الحق، فى عملية تكاذب مشتركة. هذه العملية من التكاذب التى تقصى من يختلف معهم، وتمنح لهؤلاء الأفراد احتكار تمثيل دياناتهم وثقافتهم، هى نقيض التسامح نحو «الداخل» بالضرورة، ولكنها تتظاهر بالتسامح والوداعة نحو «الخارج»، لأنها تتيح لما تسميه «الآخر» نفس القدر من احتكار الحقيقة وعدم التسامح. ولا توجد فى الواقع ديانات متسامحة مع غيرها. فديانات الوحى بشكل خاص تعتبر الحقيقة الدينية هى حقيقتها، وإلا لما كانت دينا موحيا به. وغالبا ما تتسامح مع الدين السابق عليها، وتعتبر نفسها مكملا له، مع اتهام من يستمرون باعتناقه بإساءة تفسيره. ولكن الديانات لا تتسامح البتة مع الدين اللاحق تاريخيا. التسامح هو فكر وفعل المتدينين وليس الدين. ونقصد أولئك الذين توصلوا إلى ضرورة التسامح أو يتحلون بموقف أخلاقى يستتبع تفسيرا متسامحا للنص وللعقيدة. المتسامح مع الديانات الأخرى هم أفراد، ومنهم متدينون يدينون بدين ما ويفسرونه على نحو متسامح. إن تثبيت صفات جوهرية للدين وللحضارة هو محاولة دون كيشتوتيه لمنع تطورها. ولكنها لا تمنع تطور الدين أو الحضارة، بل تنجح فقط فى منع تطور المشاركين أنفسهم. فالحوار يفيد فى تطوير هؤلاء إذا أدركوا واعترفوا أنهم أفراد فقط، مجرد أفراد. هنا يصبح للحوار معنى. وللحوار معنى بكل تأكيد، ولكن إذا جرى بإدراك متواضع أن المتحاورين هم أفراد يتحاورون، وليسوا طرفين أو أكثر. وخلافا لما يروج فى مثل هذه الحالات لا يمثل رجال الدين الديانات، ولا ينوبون عن المتدينين من أبناء ملتهم. ولا يمثل المثقفون الثقافات، ولا ينوبون عن المثقفين من أبناء شعبهم. عقد الحوار بينهم كأنهم ممثلون للديانات والثقافات هو فعل سياسى مقصود، لا علاقة له بالحوار، بل بتنصيب أصحاب برامج وأفكار محددة كممثلين لدياناتهم وثقافاتهم. والحوار هنا ليس حوارا بل أداة سياسية أو إعلامية، أو كليهما، فى خدمة هدف سياسى. الحوارات الحقيقة تدور بين الأفراد فى الحياة اليومية وليس حول طاولات تحولهم إلى ممثلى أطراف. (ب): حول الحوار والتفاوض: وحتى لو تم انتخابهم للقيام بمهمة، فإنهم ينوبون عمن انتخبهم لهذه المهمة، ولا ينوبون عن الدين وعن الثقافة. وحين يجلسون لمهمة انتدبوا لها من قبل مؤسسة أو دولة أو جماعة فى مقابل آخرين انتدبوا مثلهم، فإنهم يتحدثون ليس بصفتهم رجال دين أو مثقفين بل بصفتهم سياسيين. ولكن فى مثل هذه الحالة فإنهم يفاوضون ولا يحاورون. فالشرط فى الحوار لكى يكون مجديا هو أنه يدور بين أفراد بصفتهم كأفراد ذوى رأى مستقل وشخصية مستقلة. أما إذا اتخذوا صفة تمثيلية عن غيرهم فإن الحوار ليس حوارا بل تفاوضا. والتفاوض يخضع لمبادئ معينة انتدبوا للدفاع عنها، وهو يخضع لموازين قوى وحساب المصالح وغيرها. كما أن الأخذ والرد بين الأفراد هو تفاوض إذا مثلوا مصالح أو شركات أيضا فى نطاق علاقات عمل. وطبعا قد يشوب التفاوض بعضا من عناصر الحوار كلما تمتع المفاوضون بهامش فردية يتيح لهم استفادة فكرية أو ثقافية. كما يشوب الحوار عناصر تفاوضية أحيانا. ولكن بالمجمل يمكننا على أساس ما أسلفنا التمييز بين الحوار والمفاوضة. وإذا جرى الخلط بينهما مفهوميا فقد يخسر أصحاب الشأن العالمين، عالم الحوار وعالم المفاوضة. فيتفاوضون حين يصح الحوار، ويتحاورون حين تصح المفاوضة. ولتصوير العواقب اخترنا للقارئ مثلين من عالمين مختلفين، ولكن القارئ يصادفهما عدة مرات فى العام الواحد: يطرأ ارتباك هائل عندما يأتى من ليس لديه صفة تفاوضية وليس مخولا للتفاوض باسم حركة تحرر أو حزب او دولة للقاء شخص آخر لديه مثل هذه الصفات. الأول يحاور حوارا غير ملزم لأحد إما بنية حسنة، أو ليتسلى، أو ليشتهر أو ليؤثر فعلا لأهداف معينة، أما الثانى فيفاوض باسم جسم أو بشر خوّلوه تمثيل قضية. وكل ما يقوله يحسب عليه. فنجد مثلا صحفيا أجنبيا أو مثقفا ليبراليا إسرائيليا «مؤيدا» لحقوق الشعب الفلسطينى يطالب حاكما عربيا أو قائدا فلسطينيا بتنازلات لإرضائه أو لينقلها إلى رأيه العام، فيما هو غير مخول بتقديم أى تنازلات.. فهو يحاور فقط بصفته الفردية. فى مثل هذه الحالة يتحول هذا المثقف أو الصحفى الى أداة تطبيع علاقات، تبدو كأنها متكافئة وهى غير متكافئة. كما يتحول إلى أداة فى خدمة بلده إذ يجلب تنازلات سياسية من خصم دون أن يستطيع تقديم مقابل أى مقابل لا شىء. يجرى التفاوض عادة بين طرفين أو أكثر. حتى لو مثلهما أفراد. فلا علاقة بين عدد الأفراد وعدد الأطراف. وبمجرد بدأ العملية، التى تسمى تفاوضا ينشأ الوهم أن هناك فريقين متكافئين. ومن هنا فإذا كانت العلاقة غير متكافئة مثل علاقة المحتل والخاضع للاحتلال مثلا يفضل أن تحل القضايا الرئيسية قبل التفاوض، وإلا فإن كل الأطراف الأخرى تفترض أن الطرف المظلوم مثلا قادر على أخذ حقوقه بيده، أو أن مجرد جلوسه على طاولة المفاوضات حولته إلى طرف متساوٍ الحقوق. فالمفاوضات لا تخلق وهم التساوى دون مساواة فحسب، فهى إذا جرت بغير أساس متفق عليه تهمش جميع القرارات والقوانين الدولية ريثما يتفق الطرفان. للتفاوض قواعد وأسس يفضل أن يعرفها من يعتقد أنه لا يخسر شيئا لمجرد التفاوض. تجرى حالة أخرى تماما من الخلط والإرباك حين يفرض تفاوض بدل الحوار على أفراد من نفس الشعب ومن نفس المجتمع وكأنهم يمثلون طوائف أو ثقافات أو ديانات مختلفة. يجرى ذلك حين ينقل نموذج « الحوار بين الديانات» أو بين «الثقافات» لتحويل الحوار بين أفراد فى نفس المجتمع ونفس الشعب كأنه صناعة من صناعات الحوار بين ثقافات أو ديانات الموصوفة أعلاه. فيفترض مثلا أن مذاهب أو طوائف مختلفة من نفس المجتمع ونفس الشعب تتحاور فيما بينها عبر رجال الدين. والحقيقة أن ما يفرض على الشعب فى هذه الحالة هو تفاوض وليس حوارا. وهو تفاوض يقوم على انقسام بين وحدات يدعى هؤلاء تمثيلها، ويختلقونها حيث لا توجد لغرض تمثيلها. ويتم تثبيتها جوهرا، كما يتم احتكار الحديث باسمها أو باسم أفرادها فى إنتاج واضح لقيادات سياسية جديدة لم ينتدبها أحد، ولكنها تنشِئُ واقعا طائفيا أو مذهبيا سوف ينتدبها إن عاجلا أو آجلا. يجرى هذا فى مجتمع يتحاور أفراده ويتصارعون كأفراد فى العمل والحياة الخاصة والعامة ويتعاونون ويتخاصمون ويتطورن ويطورون مجتمعهم من خلال عملية الحوار الواقعية الحية لأبناء نفس المجتمع، ولو كانوا من عائلات تعتنق ديانات ومذاهب مختلفة. ولكن حين يطلق على علاقتهم الفردية الاسم الجماعى: «علاقات سنية شيعية» أو «علاقات بين المسلمين والمسيحيين»، فإن ما يجرى هو تثبيتها كجماعات متجانسة لها مصالح وعقليات مختلفة.. وهى موجودة فى حالة صراع أو تعايش أو «تآخى»، وغير ذلك من وجوه نفس العملة، التى تحول الأفراد ليس إلى أسياد لأنفسهم، بل إلى ذرات فى جماعات تكتسب خصائصها من العضوية فى هذه الجماعات. وقد تخضع العلاقات بين هذه الجماعات حتى لمتغير خارجى طارئ. فمؤخرا كرر الإعلام العربى لغة وعبارات عن زيارة البابا ك«مضرة» أو «مفيدة» «للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين»، والمقصود بذلك هو أبناء نفس المجتمع ونفس الشعب ونفس الوطن ونفس اللغة، أو قيل مثلا إن «البابا فى ضيافة المسلمين»، مع أن المسيحيين والمسلمين هم أبناء شعب واحد مضيف ومضياف.. هذه فقط أمثلة نذكرها ليس لأنها الأهم، بل لأنها وليدة الأسبوع الأخير.