فى الوقت الذى أذهلت فيه ثورة 25 يناير العالم كله من حيث فاعليتها ونقائها وقدرتها على التعبئة وحشد المشاركة، بقدر ما كشفت بجلاء عن الحاجة الملحة فى مصر والوطن العربى إلى ثقافة الديمقراطية، وهو ما يتوافق مع ما ذكره المفكر اللبنانى المتميز غسان سلامة بأنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين؛ فمهما تم من إنشاء للمؤسسات السياسية ومن وضع دستور راقٍ ومتميز ومن الإقدام على إجراء استفتاءات وانتخابات، إلا أن نجاح الديمقراطية يتوقف، أولا وأخيرا، على مدى وجود وانتشار وفهم ثقافة الديمقراطية، وهى التى تعنى الاعتقاد الراسخ لدى المواطنين بأن السيادة لهم، وأنهم مصدر السلطات، وأن القائمين على الأمر يعملون لتحقيق المصلحة العامة، وتعنى كذلك سيادة القانون على الجميع دون تحيز أو استثناء أو انتقاء، كما تمتد إلى الإعلاء من قيم المحاسبية، سواء كانت سياسية أو شعبية، وتغطى أيضا الحق فى التنظيم وتحفز المواطنين على المشاركة الفاعلة، وتعنى فوق ذلك وبعده احترام الاختلاف وتقدير الرأى الآخر دون حساسية أو عداء. ولا يغرب عن البال، كم اندثرت الثقافة الديمقراطية فى مصر فى أعقاب ثورة 1952، والتى ألغت الأحزاب السياسية، وحولت النظام السياسى إلى نظام الحزب الواحد وآمنت بالديمقراطية الاجتماعية واختصمت الديمقراطية السياسية بما فيها المشاركة الحرة، وتجذرت هذه السمات فى الفترة ما بين 1981 2011 إلى الحد الذى تحول النظام السياسى برمته إلى نظام شمولى يسوده الحزب الوطنى الديمقراطى وتسير فى ركابه الأحزاب الأخرى الهزيلة، والتى تحولت، مثلها مثل الحزب الوطنى، إلى أحزاب نخبوية لا علاقة لها بالجماهير، وانتفى دورها جميعا فى عملية التنشئة السياسية بما فيها غرس ثقافة الديمقراطية بين المواطنين، ومما زاد الطين بلة أنه لم توجد مادة واحدة أو موضوع واحد فى أى مقرر دراسى مصرى فى مختلف مراحل التعليم حول ثقافة الديمقراطية وكيفية الانتقال من النظام الشمولى إلى النظام الديمقراطى، وقد اتضح ذلك بصورة جلية فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذى جرى يوم 19 مارس؛ حيث دفعت تيارات سياسية بعينها المصريين إلى التصويت حسب رؤاها ومصالحها نظرا لبساطة الثقافة التى تسود المجتمع المصرى فى كل من الريف والمدينة. ●●● إن التحول الديمقراطى الذى ينبغى أن يرقى إلى مستوى الثورة، والذى يعد نقطة فاصلة عن النظام الشمولى، يتطلب، وبصورة ملحة، نشر وتعميم ثقافة الديمقراطية داخل المجتمع المصرى وبين ربوعه بصورة تدفع المواطنين إلى الاحترام المتبادل والمشاركة الطوعية الفاعلة والاختيار الحر، وتبدأ الثقافة الديمقراطية من مؤسسات التنشئة السياسية، سواء كانت الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو الكنيسة أو المعبد أو النادى أو الحزب السياسى وغيرها من منظمات المجتمع المدنى، وعلى الرغم من أنها عملية معقدة وطويلة الأمد، نظرا لتجذر الثقافة الشمولية والسلطوية، إلا أن هناك أبعادا ملحة ينبغى على جميع مؤسسات المجتمع أن تتعامل بها وتبذل قصارى جهدها فى نشرها، وهى تلك الأبعاد التى تعد المواطنين، فى مرحلة التحول الديمقراطى الراهنة، إلى فهم دورهم السياسى ومحاولة الإعلاء منه. ولا يمكن أن يتأكد الدور السياسى للمواطنين، فى مرحلة التحول إلى النظام الديمقراطى، إلا إذا أيقنوا أنهم يشكلون عصب الحياة السياسية وأنهم أصحاب الكلمة العليا فى النظام السياسى، كما أنهم أساس الإرادة العامة، كما رأى جان جاك روسو، وأنهم الطرف الأقوى فى العقد الاجتماعى بينهم وبين السلطة السياسية، كما رأى جون لوك، وهكذا يصبحون أصحاب القوة السياسية الفاصلة ولديهم الرغبة والإرادة فى استخدامها إزاء السلطة الحاكمة بما فيها رئيس الدولة، ويقتضى هذا الفهم المعرفة التامة بالدستور ومبادئه الأساسية التى تجعل الشعب مصدر السلطات، كما أنها تقضى بالمساواة التامة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو النوع أو المستوى الاقتصادى، ويعود الفضل لثورة 25 يناير فى إعطاء المصريين هذا الإحساس الجياش بالقوة والقدرة على التأثير، بيد أن التحدى الرئيسى فى هذا الشأن يكمن فى استدامة هذا الشعور وتوظيفه فى العملية السياسية. ويرتبط بما سبق، التأكيد على حرية المصريين فى التنظيم السياسى، بما فى ذلك إنشاء الأحزاب السياسية، وهى مسألة جد جديدة ومن نتاج الثورة أيضا؛ فقد درج المصريون على أن الحزب الوطنى الديمقراطى، عن طريق سكرتيره العام، وهو رئيس لجنة الأحزاب، يتحكم بصورة مطلقة فى حق المصريين فى التنظيم السياسى، وهكذا؛ فإن أكثر من 85% من الأحزاب القائمة فى مصر الآن، هزيلة كما هى، قد أنشئت بقرار من المحكمة الإدارية العليا، على الرغم من أن النظام السابق قد اخترقها وجندها وروضها كما شاء، وقد ثبت، منذ قيام الثورة وحتى الآن، أن ثقافة التنظيم السياسى غائبة بدليل أنه على الرغم من حتمية إنشاء أحزاب سياسية تمثل الثورة، إلا أن الجهود لم تتمخض بعد عن إنشاء أحزاب جديدة، وفى استطلاع للرأى أجريناه بأنفسنا، تبين أن هناك شغفا كبيرا وحاجة ماسة إلى شرح وتوضيح وتبيان الحق فى التنظيم وكيفية بنائه وشروطه ونشاطه ومآله. ●●● إن جوهر الديمقراطية يرتبط بمعدل المشاركة السياسية، والتى تختلف عن التعبئة السياسية؛ فبينما الأولى اختيارية طوعية؛ فإن الثانية إكراهية وإجبارية، وبينما تستمر الأولى وتنمو وتتسع؛ فإن الثانية سرعان ما تنهار وتودى بالنظام السياسى برمته، كما حدث للاتحاد السوفييتى والدول الشمولية، مثل مصر حتى 2011، ولا شك أن تحفيز المواطنين على المشاركة يستلزم قناعتهم وثقتهم فى التطور السياسى وفى العملية السياسية وبدورهم المؤثر والفعال فى نتائجها وفى حرص النظام السياسى على احترام اختيارات المواطنين، وإذا كانت الساحة السياسية مفتوحة أمام الجميع للمنافسة على هذا التحفيز إلا أنه ينبغى على المؤسسات التعليمية ومؤسسات المجتمع المدنى أن تلعب دورا موازيا إن لم يزد، فى هذا الصدد، عن الجماعات ذات الاتجاهات الأيديولوجية أو الدينية المختلفة؛ فمما لا شك فيه أن أحد سمات الديمقراطية التى يجب أن نتعلمها هى التنافسية واستخدام الفرص المتاحة، وحتى تزيد معدلات المشاركة فى الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة والاستفتاء على الدستور الجديد يجب أن تزيد معدلات المشاركة على 60% على الأقل ممن لهم حق التصويت. إن نجاح الديمقراطية يقتضى الإعلاء من قيم وأدوات المحاسبية والمساءلة، سواء كانت السياسية أم الشعبية، وتستلزم كذلك احترام وتنفيذ قرارات أجهزة الرقابة المالية وغيرها من الأجهزة الرقابية، كما أنه يجب تمكين المجتمع المدنى من الرقابة على الأداء الحكومى والتنفيذى حفاظا على الحياد والموضوعية فى الأداء وحرصا على عدم التحول مرة أخرى إلى نظام شمولى يسلب المواطنين حقوقهم. إن ضمان التحول إلى ديمقراطية تشاركية حقيقية فى مصر يقتضى، بادئ ذى بدء، نشر وتعميق ثقافة الديمقراطية بما تعنيه من احترام الآخر والقبول بالأغلبية والاقتناع بأن الأقلية اليوم يمكن أن تصل إلى الحكم ويتم تداول السلطة بناء على اختيارات المواطنين.