يمكننا التماس العذر للناس فى الشرق الأوسط، إذ يئسوا من فهم السياسة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية تلك الدولة الديكتاتورية القمعية الفقيرة، التى تجلب العزلة لنفسها، وتمتلك برنامجًا معلنًا للأسلحة النووية، بل وقامت بتجربة جهاز نووى فى أكتوبر عام 2006. وترجع هذه الحيرة، إلى أن الناس فى الشرق الأوسط يرون كيف تتعامل واشنطن مع إيران بلغة صارمة وتفرض عليها عقوبات كثيرة بسبب برنامجها النووى والذى تؤكد أنه سلمى، بينما تتجاهل عمليًا كوريا الشمالية بالرغم من انخراطها الفعلى فى التسلح النووى الصارخ، وقيامها باستفزاز الولاياتالمتحدة بشكل متواصل. وعلى سبيل المثال، أجرت كوريا الشمالية فى أوائل شهر أبريل الماضى تجربة إطلاق صاروخ طويل المدى قادر على حمل رءوس نووية وإن كانت قد فشلت فى هذا الاختبار. وعندما أدان مجلس الأمن الدولى التابع للأمم المتحدة هذا السلوك، طردت بيونج يانج فورًا المفتشين الدوليين من منشآتها النووية، وهددت بتنشيط مفاعلها النووى، وزيادة حجم ترسانتها النووية. ولو فعلت إيران أيا من هذه الأشياء، فالله وحده الذى يعلم كيف كان سيصبح رد فعل الولاياتالمتحدة إزاءها؟. لكن من المؤكد أن إيران ما كانت ستفر بفعلتها ببساطة، كما فعلت كوريا الشمالية. وفى ظل جولة الاستفزازات الأخيرة من جانب بيونج يانج، كان رد الولاياتالمتحدة هو عموما التجاهل، إضافة إلى الإدانة الضعيفة من قِبل مجلس الأمن الدولى. بالطبع يمكننا أن نعزو اختلاف السياسة الأمريكية تجاه إيران عنها تجاه كوريا الشمالية إلى نفوذ اللوبى اليهودى فى الولاياتالمتحدة. ففى حالة إيران، عمل اللوبى الإسرائيلى على إعاقة تبنى نهج دبلوماسى أكثر تصالحية. ولكن بالرغم من أهمية العامل المتعلق بإسرائيل، وإن لم يكن حاسمًا، حيث تواجه الولاياتالمتحدة فى تعاملها مع كوريا الشمالية مجموعة من التحديات، تختلف عن تلك المتعلقة بإيران إن لم تكن أكثر صعوبة ويجبر ذلك واضعى السياسة الأمريكيين على التعامل مع بيونج يانج بدرجة أكبر من الحذر. وكان جورج بوش من بين من اختاروا طريقًا حذرًا ودبلوماسيًا للتصرف مع كوريا الشمالية، حيث كان أول من واجه واقع تحول كوريا الشمالية بشكل علنى إلى دولة نووية عام 2002. أما باراك أوباما، فقد ورث هذه السياسة فحسب. إذن ما هى العوامل التى تقيد الخيارات الأمريكية تجاه كوريا الشمالية؟ فى البداية، لا تعد العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية التى تمثل أدوات القسر الأساسية التى استخدمت ضد إيران فعالة فيما يتعلق بكوريا الشمالية المعزولة بالفعل، والتى لا تشارك بكثافة فى التجارة الدولية مع أى بلد (باستثناء الصين). وقد جربت الولاياتالمتحدة فرض عقوبات محدودة، مثل حظر تصدير السلع الفاخرة (كالكونياك الفرنسى) بفرض أن هذا الإجراء سوف يضير النخبة الحاكمة. كما أنها حاولت قطع الصلات بين كوريا الشمالية والنظام المصرفى العالمى (وهى نفس العقوبة التى فرضتها واشنطن على طهران). وربما تكون تلك الإجراءات قد كدرت النظام الحاكم فى كوريا الشمالية لأنها جعلت استيراد السلع الفاخرة أو تحويل الأموال للخارج عملية أصعب وأكثر تكلفة. لكن لا يبدو أنها أدت إلى حدوث تغيير فى سلوك بيونج يانج. أما فيما يخص الخيار العسكرى، تواجه الولاياتالمتحدة أخطارًا جسيمة أيضًا؛ ذلك أن التهديد بتوجيه ضربة عسكرية ضد بلد يمتلك بالفعل أسلحة نووية، ويعرف طريقة استخدامها، يثير شبح الحرب النووية، وهو ما ترغب الولاياتالمتحدة فى تجنبه ما دام لم يحدث ما يعرض أمنها للخطر. فقد تكون كوريا الشمالية بلدًا غارقًا فى الفقر، ولا يستطيع أن يطعم أبناءه، لكنها تحتفظ بترسانة عسكرية ضخمة، كما أنها مسلحة إلى حد كبير بالصورايخ والمدفعية طويلة المدى، التى تستطيع حال حدوث مواجهة عسكرية تدمير مناطق فى كوريا الجنوبية بما فى ذلك العاصمة، وإلحاق أضرار خطيرة باليابان. وفى هذه الحالة، سوف تصل العواقب إلى مستويات كابوسية. والواقع أن الرئيس بيل كلينتون رحب عام 1994 بخيار ضرب المنشآت النووية فى كوريا الشمالية، لكن مستشاريه أثنوه عن ذلك، بسبب الكارثة التى لا يمكن تخيل حدودها، التى كانت ستنجم عن عمل من هذا القبيل. كما تعيق الديناميكيات الإقليمية لمنطقة شرق آسيا تبنى نهج حاسم إزاء كوريا الشمالية. ذلك أن الولاياتالمتحدة ليس لديها فى هذه المنطقة سوى حليف واحد يؤيد تبنى إستراتيجية صارمة ضد بيونج يانج وهو اليابان ويعد موقف طوكيو تجاه كوريا الشمالية أكثر تشددًا فى الواقع من موقف واشنطن. لكن الدول التى تهم كوريا الشمالية أكثر، وهى كوريا الجنوبية والصين، ترفض بحسم مثل هذا النهج. فعلى عكس الولاياتالمتحدةواليابان، لا تمانع الصين وكوريا الجنوبية فى تطوير كوريا الشمالية لأسلحة نووية، طالما تفعل ذلك بهدوء. والأكثر من ذلك، أن الصين ترغب فى الإبقاء على كوريا الشمالية كحاجز إستراتيجى ضد الولاياتالمتحدة، التى لديها 30 ألف جندى فى كوريا الجنوبية. ومن جانبها، لا تريد كوريا الجنوبية أن تصبح جزءًا من صراع عسكرى، ستنجم عنه أضرار بالنسبة إلى شعبها واقتصادها تفوق الوصف. كما أن سول تعلم أنه إذا انهارت كوريا الشمالية بفعل العقوبات (بالرغم من أن العقوبات نادرًا ما تسفر عن ذلك) فسيكون عليها تحمل كامل الفاتورة الضخمة لإعادة إعمار هذا البلد وتنميته. ونتيجة لذلك، تؤيد كل من الصين وكوريا الجنوبية تبنى نهج لين نحو كوريا الشمالية، بالرغم من أن تلك الإستراتيجية لا تؤدى إلى نتائج ملموسة. وفى ظل القيود المفروضة بفعل هذه العوامل الجيوبوليتيكية، اضطرت الولاياتالمتحدة إلى الاعتماد على حل إقليمى دبلوماسى. وتمثل المحادثات السداسية التى تضم الولاياتالمتحدة والصين واليابان وروسيا والكوريتين الآلية الرسمية المرتبطة بهذا الحل. وبالرغم من أن هذه المحادثات مازالت مستمرة منذ عدة أعوام، فإنها لم تقدم الكثير. ولعل الأمر الإيجابى الوحيد الذى يمكن أن يراه المرء فى المحادثات السياسية، هو أنها لم تجعل الأمور تسير بشكل أسوأ. والآن حيث يهدد الكوريون الشماليون بتصعيد الأزمة، ما الذى يجب القيام به؟ ليس هناك سوى دولتين يمكنهما التأثير على سلوك كوريا الشمالية، أهمهما الولاياتالمتحدة، التى يريد الكوريون الشماليون التمتع باعترافها الدبلوماسى ومساعداتها الاقتصادية. وقد تُجبر التنازلات الأمريكية كوريا الشمالية على العودة إلى طاولة المفاوضات وإعادة إغلاق منشآتها النووية. لكن ذلك ليس مرجحًا، لأن واشنطن سارت من قبل فى هذا الطريق، كما أن الرئيس أوباما ليس على استعداد للوقوع ثانية فى مصيدة كوريا الشمالية. ولا يبقى سوى الصين التى تستطيع دفع بيونج يانج إلى احترام التزاماتها بشأن نزع التسلح. ذلك أن الصين تمد كوريا الشمالية بمعظم احتياجاتها من النفط، وتعد شريكها التجارى الأهم. ومن ثم فإن فرض الصين عقوبات ضد كوريا الشمالية حال حدوثه سوف يضيرها بالفعل. غير أن الصين ليست مستعدة لفرض مثل هذه العقوبات. فبالرغم من استياء القادة الصينيين من رفاقهم فى كوريا الشمالية، فإنهم ليسوا راغبين فى القيام بإجراء قد يؤدى إلى سقوط النظام هناك، وهو ما يمثل فرصة إستراتيجية للولايات المتحدة. إذن فالولاياتالمتحدة، التى تعد القوة العظمى الوحيدة فى العالم، والصين، التى تمثل منافسها الأكثر احتمالا، ليس باستطاعتهما فعل الكثير إزاء هذه الدولة الصغيرة الفقيرة، التى تلوح بالعصا النووية أمام المجتمع الدولى. وإذا ما طبقنا الدروس المستفادة من خبرة واشنطن فى التعامل مع كوريا الشمالية، فسيكون علينا إدراك أن التوصل إلى حل جيد لمشكلة إيران النووية سيكون أصعب كثيرا، لا أسهل. خاص «الشروق»