تستمر أزمة الحكم فى السودان رغم التغييرات الدراماتيكية الأخيرة ممثلة فى التصويت لخيار الانفصال. فقد توقع الكثيرون أن ينشغل الشماليون بالتفكير الجديد. للوصول إلى الصيغة القومية الجامعة لحكم ما تبقى من البلاد بطريقة تمنع التفتيت والانقسامات اللاحقة. ولكن البلاد دخلت مجددا فى حالة استقطاب حادة ومناورات حزبية عقيمة، تكشف عن عقل سياسى يبدو أنه لم يتعلم كثيرا حتى من تاريخه القريب. فمن الملاحظ أن الحياة العامة فى السودان التى نصفها دائما بالتعدد والتنوع هى فى حقيقتها تتجه نحو التشرذم والانقسامية بصورة غير صحية. إذ يغيب الاتفاق حول أهداف قومية تجمع الناس ويرتفعون عن خلافات ثانوية دوما. ويكاد هذا الميل نحو التشرذم والانقسام يصبح طبيعة ثانية لدى السودانيين، وهذا ما يجعل تحليل الواقع السياسى صعبا. وتصبح محاولات استشراف المستقبل أو التنبؤ بما سوف يحدث فى السودان مهمة يمكن أن يقوم بها قارئ فنجان وليس المحلل السياسى. وذلك بسبب تبدل المواقع والمواقف، لأن الناطق الرسمى باسم التجمع المعارض (السيد فتح الرحمن شيلا) مثلا يمكن أن يكون خلال أيام قليلة هو نفسه الناطق الرسمى باسم المؤتمر الوطنى الحاكم! أو أن نقرأ فى الصحف خبرا عن «انسلاخ» 300 شخص من قبيلة كذا وهم أعضاء فى حزب الأمة أو الاتحادى الديمقراطى وأعلنوا الانضمام لحزب المؤتمر الوطنى والعكس ممكن أيضا. وهكذا يعيش السودان سيولة سياسية تجعل رسم خريطة سياسية ثابتة نسبيا فى تحالفاتها ومواقفها السياسية، مسألة فى غاية الصعوبة. والأخطر من ذلك فى الشأن السودانى غياب الرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى فى تناول قضايا الوطن. فالجميع حكومة ومعارضة يتعامل بردود الفعل أو تجزئة القضايا أو ما يسمى فى السودان: رزق اليوم باليوم. وهذا سبب تغيير المواقف السريع والمتواتر. يخضع السودان منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل فى 2005 لما يسمى بشرعية نيفاشا. وهى شرعية دولية وإقليمية ودولية؛ وليست شعبية دستورية داخلية رغم أنها وضعت دستورا انتقاليا يعيبه أن الاتفاقية كانت أقوى أو أعلى من الدستور، بمعنى أنه فى حالة تعارض نص دستورى مع بند فى الاتفاقية، يؤخذ بالاتفاقية. لذلك استمر اتهام المعارضة الشمالية بعدم شرعية النظام القائم. وكان الضامنون للاتفاقية يرون الحل فى إنفاذ البنود المتعلقة بالتحول الديمقراطى. ولكن المؤتمر الوطنى الشريك الأكبر فى السلطة، كان يرى فى التحول الديمقراطى حسب قول أحد قياديه انتحارا سياسيا. ولذلك مارس قدرا هائلا من الالتفاف والتحوير والتهرب فى عملية التنفيذ. ولم يواجه بحسم لأنه متيقن من عدم التصعيد خشية من انهيار الاتفاقية. وقد لعب هذه الحيلة جيدا، واستفاد من السنوات الست فى «التمكين» فى الدولة والمجتمع. ومن هنا كان الإصرار على إجراء الانتخابات بعد أن تأخرت كثيرا، وتمت هندسة قوانينها لصالح المؤتمر الوطنى. فقد كان واثقا من اكتساح الانتخابات والتحول إلى شرعية برلمانية شعبية. جرت الانتخابات فى أبريل 2010 وترددت الأحزاب المعارضة ولكنها قررت فى اللحظات الأخيرة عدم المشاركة والمقاطعة. ورغم أن المراقبين تحفظوا وسجلوا موقفهم رسميا بأن الانتخابات لم ترق إلى مستوى المعايير الدولية إلا أنهم اعترفوا بالنتائج! وهكذا كان المجتمع الدولى وبالذات الولاياتالمتحدةالامريكية وأوروبا الغربية، يكيلون بمكيالين ويمارسون عنصرية ضمنية. إذ إن دولا مثل السودان يجوز فيها التزوير لأنها لا تملك الضمير والقيم التى تمنع ذلك فى دول أخرى. هنا تتغلب المصلحة على كل شىء. فالغرب كان يهمه فقط قيام الاستفتاء فى الجنوب، الذى لابد أن يقوم تحت ظل حكومة منتخبة يغض النظر عن عيوب الانتخاب! وأصبح المؤتمر الوطنى صاحب أغلبية كاسحة فى البرلمان (أكثر من 90% من مقاعد المناطق الشمالية) لذا فهو نظريا الحزب الأكبر فى الخريطة السياسية. وهنا لابد أن نفرق بين النفوذ والشعبية. فالحزب يهيمن على مفاصل الدولة حصريا لأن الوظائف والمناصب مقصورة على الأعضاء والمتعاطفين حتى أدناها. واستطاع الحزب تكوين طبقة جديدة وجماعات من المنتفعين، ولكنها ليست قاعدة شعبية. فمازالت طائفتا الختمية والأنصار تستطيعان حشد مئات الألوف فى المناسبات الدينية والاجتماعية. يحتل حزبا الأمة القومى «الأنصار» والاتحادى الديمقراطى «الختمية» موقع الصدارة فى الخريطة الحزبية السودانية، ولكنهما يعانيان من علل الأحزاب التقليدية التاريخية وعلى رأسها الجمود وغياب الديمقراطية الداخلية. فالحزبان تحولا إلى كتل أو حشود بشرية تلتف حول رمز دينى أو شخصية «كارزمية» مع غياب المؤسسية. وقد أصبحت منذ الاستقلال بدون أيديولوجية أو برنامج سياسى مفصل وقابل للتطبيق. وقد أدركت الحركة الإسلامية هذه الحقيقة مبكرا، لذلك اعتبرت نفسها الوريث الشرعى لهذه الاحزاب المرتكزة على الفكر الدينى. وعملت الحركة بعد الانقلاب فى 1989 على اختراقها وجذب كوادرها خاصة تلك التى كانت تعمل فى السوق والذى احتكره نظام الإنقاذ. ولذلك تعانى هذه الأحزاب من الانشقاقات والانقسامات المستمرة التى بلغت 3 و4 أجنحة فى الحزب، بعضها مشارك فى السلطة. كما أن نظام الإنقاذ استخدم سلاحا قاتلا وهو تشجيع القبلية بحيث يكون الانتماء للقبيلة بديلا عن عضوية الحزب. وقد حقق ذلك نجاحا ظاهرا مع منع النشاط الحزبى فى فترات والتضييق فى مراحل أخرى. وقد كان سلاحا ذا حدين، لأن بعض القبائل تمردت ورفعت السلاح بسبب مطالب سياسية واقتصادية. وصارت وكأنها حزب سياسى وهذا هو دهاء التاريخ. وأخيرا تسبب غياب الحزبين عن البرلمان فى مزيد من التهميش ولا يبقى سوى الضغط من الشارع، وهذا يفسر لحد ما الحراك الأخير. فقد تجمعت المعارضة فى كيان اتخذ اسم: قوى الإجماع الوطنى، وهى فى الأصل أحزاب تجمع جوبا ناقصا الحركة الشعبية التى لا تشترك الآن. بسبب تطورات الجنوب الحالية. شهد السودان خلال الفترة القصيرة الماضية بالذات مع الاستعداد للاستفتاء استقطابات حادة. فقد انتظمت الأحزاب المعارضة فى الداخل والخارج فى اجتماعات متصلة وخرجت ببيانات حددت فيها مطالبها وبرنامجها المرحلى. فبالإضافة لقوى الإجماع الوطنى فى الداخل، تكونت فى لندن: الجبهة الوطنية العريضة لإسقاط النظام. وتطالب المعارضة بوضع دستور جديد وحل البرلمان، وقيام حكومة قومية مهمتها إجراء الانتخابات، وحل قضية دارفور؛ ثم معالجة الأزمة الاقتصادية. وتهدد المعارضة بالنزول للشارع خلال الأيام القادمة. وجاء اعتقال الشيخ حسن الترابى ليوتر الأجواء أكثر. وبالفعل خرجت مظاهرة محدودة العدد عقب ندوة لأحزاب المعارضة يوم 17 يناير الماضى، أرادت أن تستوحى المناخ التونسى. وفى هذا الوقت أطلق الرئيس البشير «بالون اختبار» بإعلانه أنه لا يمانع فى قيام حكومة «ذات قاعدة عريضة». وهذا يعنى ضم عناصر جديدة بلا تغيير فى برنامج المؤتمر الوطنى الانتخابى. ومن ناحية أخرى يتحدث الصادق المهدى عن «أجندة وطنية» تقوم على أساسها حكومة قومية. من المتوقع أن تتغير المشهد السياسى الراهن قبل التاسع من يوليو القادم، نهاية اتفاقية السلام، الذى غالبا ما يدشن قيام دولة الجنوب المستقلة. وسيكون هذا التاريخ نهاية الدستور الحالى وخروج الجنوبيين من الحكومة والسلطة. ومن المفترض عندئذ إجراء تغييرات هيكلية فى كل المؤسسات الدستورية والتنفيذية، ويأتى السيناريو الأول لتوسيع المشاركة وبالتالى الجمع بين اقتراحى القاعدة العريضة والحكومة القومية ذات الأجندة الوطنية. وهذا الاحتمال الأرجح خاصة بعد اللقاء الأخير للمهدى والبشير. ورغم دهشة الكثيرين لموقف المهدى واتهامه أنه خذل المعارضة، إلا أن المهدى يؤمن بما يسميه وحدة أهل القبيلة، بالإضافة إلى عدو مشترك ويقصد هؤلاء الذين يريدون «طرد الإسلام من الحياة العامة». وهذا الحل لو تم، سوف يحظى بالمباركة الأمريكية باعتبار أنه يحقق الاستقرار فى البلاد. أما السيناريو الثانى فهو الانتفاضة الشعبية المحمية، وهو شعار التجمع الوطنى الديمقراطى القديم. وكانت الحماية فى الماضى من قبل المقاتلين فى فصائل التجمع بما فيهم الحركة الشعبية. ولكن فى هذه المرة سوف يكون للفصائل المسلحة فى دارفور دور حاسم. ومن الواضح أن الأزمة الاقتصادية تتصاعد وقد تنجح المعارضة فى استغلالها خاصة وقد بدأت تنتشر احتجاجات صغيرة عفوية. وبعد ذلك سيأتى دور الحماية لمنع تعرض المتظاهرين للقمع المفرط. ومع تسابق البديلين تستفحل أزمة الحكم، وعندئذ يصبح الانتظار إلى أجل غير مسمى.