مع توديع عام مضى واستقبال آخر جديد يحاول البعض استعادة خبراته السابقة ومراجعة ما أنجزه فى الفترة الماضية، داخل المعتقل ليس هناك مجال لهذا الترف، بل هناك واقع آخر: «الأسئلة داخل المعتقل مختلفة تماما، إذ تعيش كأنك فى برزخ بين الحياة والموت، كل ما هو مهم ليس له أهمية، خاصة حين تكون معتقلا سياسيا لا تعرف متى يكون الخروج، وليس لديك نقاط فاصلة أو إحساس بتوالى الزمن»، هكذا يرى الناشط والروائى مسعد أبوفجر تجربة الاعتقال السياسى لمدة 30 شهرا أفرج عنه بعدها فى الصيف الماضى. شتان بين لحظة دخول العام الماضى 2010 واللحظة الحالية مع استقبال العام 2011، إذ يقضى حياته اليوم محاولا الاستمتاع بتفاصيل أخرى لم يدرك قيمتها أثناء فترة الاعتقال، منها ما ذكره: «أبحث عن الأشخاص الذين افتقدتهم فى السجن، استمتع بمشاهدة البحر ومتابعة صيانة سيارتى، الوقت الآن به حسابات أخرى، على عكس أوقات السجن حين كان أقصى طموحى أن أنام فأحلم بحلم جميل يخفف من وحشة الاعتقال». فى غياهب المعتقلات أعداد غير محددة من المعتقلين تتراوح بين المئات حسب تصريحات مسئولين ذوى صلة بوزارة الداخلية بينما يرتفع الرقم إلى آلاف المعتقلين حسب تقديرات الحقوقيين، وجميعهم يقضون تلك الفترة بعيدا عن إحساس الانتقال من عام إلى عام أو غيرها من مناسبات مثل الأعياد. فى كتابها «مذكراتى فى سجن النساء» (دار الآداب، 2008) استخدمت الكاتبة نوال السعداوى فقرة تعبر فيها عن فترة اعتقالها فى العام 1981 لمدة شهر، إذ قالت: «لا يموت الإنسان فى السجن من الجوع أو من الحر أو من البرد أو الضرب أو المرض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحول الزمن إلى اللازمن، والشىء إلى اللا شىء، والمعنى إلى اللا معنى». يرى أحمد سيف الإسلام حمد المحامى الحقوقى أن أكثر التجارب صعوبة للمعتقل هى إحساسه بالانعزال عن الحياة الاجتماعية وقطع الصلات بينه وبين أهله، وكان سيف الإسلام أحد من تبنوا قضية مسعد أبوفجر أثناء اعتقاله. يقول أحمد سيف الإسلام: «من خلال تعاملى مع هذا النوع من القضايا قابلت حالات قليلة أصيبت بانهيار عصبى حاد بسبب الإهانة والعزل التام داخل السجن، خاصة أن بعض السجون شديدة الحراسة لا تسمح بالخروج من الزنزانة إلا لدقائق.. لكن حالات الانهيار تلك تعد على أصابع اليد الواحدة». هذه الحياة القائمة على العزل عن المجتمع وكسر الإحساس بالزمن والتطور لم تهزم كثيرين، أحدهم هو المعتقل السابق عبدالمنعم منيب الذى قضى 14سنة فى المعتقلات المصرية حتى أفرج عنه فى 2007، يرى عبدالمنعم منيب أن المعتقل لا يهزم السجين إلا من يستسلم، فعلى مدار سنوات اعتقاله وعزلته تطورت التكنولوجيا بدءا من ظهور الهاتف المحمول وانتهاء بظهور الانترنت بقوة على الساحة، وهى تطورات ليس لها وجود بين جدران المعتقل، يعلق قائلا: «الأمر يختلف من شخص لآخر فى إدراك ما يحدث من تطورات والإحساس باختلاف الزمن، كل شىء يعود إلى فاعلية الشخص وحيويته، عن نفسى كنت أستغل كل فرصة للتعليم حتى إن كان ذلك عن طريق سؤال المعتقلين الجدد، حاولت استكمال دراستى العليا، بعض رفاق السجن نجحوا فى الحصول على الدكتوراه بينما أخفقت أنا فى استكمال دراستى العليا، إلا أننى عوضت ذلك بمجرد الإفراج عنى». نجح عبدالمنعم بعد خروجه بأسابيع فى تعلم الانترنت وأسس مدونة باسمه وعاد إلى الصحافة من جديد. فى كتاب الناشط السياسى السيد يوسف «مذكرات معتقل سياسى» (الهيئة المصرية للكتاب، 1999) يذكر هذه الفقرة: «بينما يحتفل العالم بليلة رأس السنة وبداية السنة الجديدة 1959 انطلقت خفافيش الظلام وزوار الليل يطرقون آلاف الأبواب، يروعون الأطفال والأمهات والزوجات من نومهم لاختطاف المناضلين من أحضان أبنائهم وزوجاتهم والزج بهم فى غياهب السجون والمعتقلات»، هكذا يصور أحد معتقلى العهد الناصرى صورة نادرة انشغل فيها المعتقل باستقبال عام جديد بالخوف من مطاردات الأمن بعيدا عن أجواء يعيشها بقية العالم. وتحت واقع استمرار الاعتقالات حتى اليوم، يرى المحامى أحمد سيف الإسلام الصورة بشكل آخر يحفظ فى الحد الأدنى بعض حقوق المعتقلين إذ يقول: «فى الأوضاع الطبيعية يجب توفير مراجع للباحثين فى السجون وتعميم المكتبات، وإتاحة ممارسة الهوايات والأنشطة، لكن هذه الأمور لا تتوافر فى جميع المعتقلات خاصة شديدة الحراسة التى يخرج فيها المعتقل من زنزانته لفترات قصيرة فى اليوم، وسط أجواء مهينة تكرس الإحساس بالعزل». هذه الأجواء شبهها مسعد أبوفجر بأنها حالة «أهل الكهف» لحظة خروجهم من نومهم الطويل. وفى هذه المسافة الضيقة بين عامين قد لا يدرك قيمتها سوى من شعر بغيابها مع كل عام يمر عليه فى السجن، حيث يغيب ترف الاستمتاع بمرور الزمن ومحاسبة النفس ومراجعة الذات.