من الذى يستحق هذا الوصف والعنوان أكثر من عبدالمنعم إبراهيم «24/12/1924 18/11/1987» ذلك الفنان الذى تسلل إلى شاشة السينما المصرية، لطيفا ناعما، ومنحنا، بيسر وبساطة، شيئا من البهجة الرقيقة.. وبلا ضوضاء، انسل من بيننا دون أن ننتبه إلى أنه من اللآلئ الثمينة فى حياتنا. تمتع وجه عبدالمنعم إبراهيم بنوع من الصفاء الفريد، يبدو فى نقاء وشفافية طفلا لم يتعرض ولم يمارس أيا من شرور الدنيا، يملك قدرة فائقة على الحب والتواصل مع الآخرين. يخفق قلبه مع خفقات قلوب العاشقين. يعيش ويعايش آلام المحزونين،، يقف إلى جانب الضعفاء والمهزومين.. وبهذه السمات دخل عالم السينما ليغدو الصديق الحميم، الحنون، للبطل، مكمن سره ومجفف دموعه، وهو فى هذا ينضم إلى مجموعة الأصحاب المخلصين على الشاشة الفضية، عبدالسلام النابلسى، إسماعيل ياسين، محمود شكوكو، فؤاد المهندس، وغيرهم.. ولعل ظاهرة الصداقة لا تتجلى فى أى سينما من سينمات العالم بقدر حضورها القوى فى أفلامنا، وهى فى هذا تعبر عن جزء أساسى من مكونات الشخصية المصرية، تحتاج لمن يرصدها ويحللها، واقعيا وفنيا. شارك عبدالمنعم إبراهيم فى أكثر من «120» فيلما، قام فيها بأدوار ثانوية، فيما عدا بعض الأعمال القليلة، اضطلع فيها بالبطولة، مثل «سر طاقية الإخفاء» لنيازى مصطفى 1959، الذى ينطوى على فكرة جميلة تؤكد أن القوة المطلقة هى الشر المطلق، وبالتالى يسهم «عصفور» عبدالمنعم إبراهيم فى حرق الطاقية.. وثمة «لعبة كل يوم» لخليل شوقى 1971، حيث يلهث بطلنا الباحث، بجلد، عن لقمة عيش شريفة، فينتقل من مهنة هامشية لأخرى، ويتعرض لسطوة الفتوات وجبروت أصحاب المال والسلطة.. ويأتى أداء عبدالمنعم إبراهيم، بلمساته الكوميدية، ذات الطابع العفوى، لينقذ الفيلم من قبضتى الميلودراما والعنف. لم يتقيد عبدالمنعم إبراهيم بنمط واحد، ذلك أنه قام بأدوار من شتى المهن، ومختلف الطبقات، وتحاشى تماما أن يسخر منها، بل جسدها على نحو يبرز جوانبها المضيئة، فى «السفيرة عزيزة» لطلبة رضوان 1961 تقترب منه سكين الجزار وهو يدافع عن زميله «شكرى سرحان»، وبرغم الرعب المرتسم على وجهه، لا يهرب، ولكن يستنجد، بطريفية، من الشرفة قائلا «الغوث، الغياث الغياث»، متسقا مع كونه مدرسا أزهريا للغة العربية.. ويرتفع فناننا الاستثنائى بشخصية «الأزهرى» وببلاغة اللغة العربية فى «المراية» لأحمد ضياء الدين 1970.. هنا، الجميلة المدللة، المغرورة «نجلاء فتحى»، ترفض العرسان، واحدا تلو الآخر، إلى أن يحين دور المدرس الأزهرى الذى يدرك ما تنطوى عليه طبيعة الفتاة من استعلاء، فيواجهها بفضل الله الذى منحه «دارا ودوارا ودوارة ودردارة»، ولأنها لا تعرف معنى كلماته، يشرح لها: دار أسكن فيها. دوار استقبل فيه الزائرين. دوارة هى الساقية التى تروى أرضى. دردارة هى الطاحونة التى أطحن بها الغلال.. فى هذه المرة، هو الذى يرفضها، لأنها لا تصلح زوجة، فلا يكفى أن تكون المرأة جميلة فقط. وفى لحظة تنوير، تحطم الجميلة مرآتها لتبدأ حياتها من جديد. وصل عبدالمنعم إبراهيم إلى مستوى رفيع فى الكوميديا بأدائه الممتع لشخصية «سكر هانم» للسيد بدير 1960، فبعيدا عن الهزل أو المغالاة، انتقل بسلاسة من انفعال إلى آخر، ما بين استمتاعه بالاقتراب من الجميلتين «سامية جمال» و«كريمان»، وذعره من «عبدالفتاح القصرى» وهربه من مطاردته.. وفى ثلاثية نجيب محفوظ، أسند له حسن الإمام دور «ياسين»، فجمع عبدالمنعم إبراهيم بين الكوميديا والتراجيديا، فبينما أثار الضحك وهو يتعقب امرأة بدينة يكتشف أنها أخته «هدى سلطان»، يمس شغاف القلب حين تغرورق عيونه بالدموع بسبب عبارات والده الجارحة عن أخلاقيات والدته. فى «عودة مواطن» لمحمد خان 1986 يجسد دورا بديعا، عميق الجذور، كتبه عاصم توفيق.. إنه من فرسان الجيل الماضى، حاول مع رفاقه أن يحقق العدالة فزج به فى السجن. عاش فترة متنقلا من معتقل لآخر، ودارت الحياة دورة ودورتين، فاته الكثير، وضاعت فرصته فى تكوين أسرة، لكنه لايزال يعمل، فى مصنع الحديد والصلب.. وها هو يشهد تفكك أسرة شقيقته المتوفاة تماما كالمجتمع المصرى وبرغم أن حبات المسبحة انفرطت، كل واحدة تسير فى اتجاه، إلا أن كلا منهم يجد فيه، على نحو ما، مرفأ أمان. وبقلبه الكبير، يحتضنهم جميعا، يحاول أن يضىء لهم الأنوار، وأن يجمعهم، بنظرة عين حانية، لا تخلو من عتاب ممزوج بالأسى. على الشاشة الصغيرة، فى السنوات الأخيرة، ازادت التجاعيد حول عينيه من إحساس المتفرج بقلبه النابض بالرحمة، هذه الرحمة التى تجلت فى مسلسل «زينب والعرش» ليحيى العلمى 1979، عندما مثل شخصية «عم صالح»، فراش بمؤسسة صحفية أقرب إلى الغابة، يرى ويفهم ويسمع ولا يقول إلا الكلمة الطيبة، يعطف على الضحية ويرثى للمصير الذى سيلقاه الجلاد. وفى تلك الأحراش الوحشية لا تجد «زينب» ضميرا أنقى من ذلك الرجل الوحيد، الذى يغدو أقرب إلى الأب. يشعرها، ويشعرنا معها، أنه حتى فى الغابة.. يوجد من له قلب.