فى عام 1867م عرفت مصر الصحف الأهلية (الخاصة، أو الشعبية أو المستقلة كما يُطلق عليها البعض) وهى الصحف التى امتلكها وأصدرها أفراد من الأهالى/ الشعب الذين دخلوا فى ذلك الميدان جنبا إلى جنب مع الحكومة (السلطة الحاكمة) والتى ظلت تتمتع وحدها بحق إصدار الصحف دون سواها ولسنوات عديدة منذ صدور (الوقائع المصرية) عام 1828م. كان ذلك حين صدرت صحيفة (وادى النيل) لصاحبها عبد الله افندى أبو السعود إذ هى أول صحيفة أهلية يصدرها مواطن مصرى. ليتوالى بعدها ظهور الصحف الأهلية، فقد اجتمعت مجموعة من العوامل التى شجعت على ظهور تلك الصحف فى عصر الخديو إسماعيل (1863 1879م) منها: إن إسماعيل أسس فى عام 1866م مجلس شورى النواب، ورأى ضرورة وجود صحيفة أهلية تمثل اتجاه هذا المجلس الشعبى وتساير فكرته، إذ لا يصح أن تعبر الصحافة الرسمية عن هذا المجلس الشعبى الوليد ومن ثم فقد أوحى إسماعيل إلى أبو السعود بإصدار صحيفة (وادى النيل) حتى تساير فكرة مجلس شورى النواب، وكان إسماعيل من أكبر المساعدين لها لأنها كانت تخدم أفكاره فى إخلاص تام واعتدال. ورغم تلك النشأة شبه الرسمية، إلا أنه فى الواقع يظل لصحيفة (وادى النيل) فضل الصدارة والدفعة الأولى فى صحافة مصر الأهلية. رغبة إسماعيل فى الاعتماد على الصحافة فى الدفاع عنه ضد الباب العالى، وكذا ضد الأجانب المقيمين فى مصر وحكوماتهم، حيث أيقن الرجل أن للصحافة الأهلية هنا مصداقية أكبر من الصحف الرسمية. وكان للصحف الفرنسية الفضل الكبير على اهتمام إسماعيل بالصحافة وكذا اهتمام المواطنين بإصدار الصحف العربية. فقد عز على إسماعيل كثيرا أن يرى الصحف الأجنبية الفرنسية منها على وجه الخصوص تنشأ وتنتشر فى بلاده تهاجمه حينا وتهادنه أحيانا فيضطر إلى إرضائها وشرائها بالمال. وجود السيد جمال الدين الأفغانى فى مصر خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، ففى أثناء وجوده «نفخ فى الحياة العلمية والأدبية ثم السياسية روحا من اليقظة خطت بها خطوات إلى الأمام»، وكان أسلوب الأفغانى فى التدريس هو «مخاطبة العقل وفتح أذهان تلاميذه ومريديه إلى البحث والتفكير، وبث روح الحكمة والفلسفة فى نفوسهم وتوجيه أذهانهم إلى الأدب والإنشاء والخطابة وكتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية فظهرت على يده نهضة فى العلوم والأفكار أنتجت أطيب الثمرات». فقد تتلمذ على يديه الكثيرون من طلاب العلم المتعطشون لكل ما هو جديد كما أنه تبنى عددا من الصحفيين مشجعا إياهم على إصدار الصحف. حيث أدرك الأفغانى حقيقة الشرق الضعيف وحقيقة الغرب القوى فأراد أن يحيى وحدة الشرق الممزقة وينهضه من رقدته فكانت غايته إحياء الشرق الإسلامى على أسس سياسية ثقافية واجتماعية، ومن ثم أخذ يبذر بذور الثورة الفكرية ويغرس فى المصريين حب الحرية والنخوة الشرقية. وكان من بين تلاميذه ومريديه إذ ذاك محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم ويعقوب صنوع. هجرة بعض الصحفيين والكتاب الشوام إلى مصر هربا من القوانين الجائرة التى أصدرها السلطان العثمانى عبد الحميد، ومن جهة أخرى فقد شجعهم إسماعيل على الإقامة فى مصر وإصدار الصحف ظنا منه أنها ستكون لسان حاله ضد الباب العالى إلا أنهم تحولوا إلى معارضته تحت تأثير الأفغانى فشاركوا بوضوح فى أسباب النهضة المصرية آنذاك. ولعله يُلاحظ أن أغلب هؤلاء الصحفيين الشوام كانوا من المسيحيين الذين هربوا إلى مصر من الاضطرابات الطائفية التى وقعت فى بلاد الشام سنة 1860م، هربا من القيود المفروضة على حرية التعبير، ومن هؤلاء الشوام برز أديب اسحق وسليم عنحورى وسليم النقاش وغيرهم من الذين أخذوا صف جمال الدين الأفغانى خلال إقامته فى مصر. قيام الحرب الروسية التركية سنة 1877م وازدياد اهتمام المواطنين بها، وبالأخص مع تلك المساجلات التى دارت بين الصحف المصرية والصحف التى ترد من الخارج، بالإضافة إلى تشجيع الحكومة للصحف على التحدث فى الأمور السياسية خاصة بعد انتصار روسيا على تركيا فى الحرب، ورغبة إسماعيل فى تقليل التزاماته تجاه السلطان العثمانى، فقد كانت تلك الحرب بمثابة أول مسألة خارجية اهتم بها المصريون لأنها تتصل بالدولة العثمانية صاحبة السيطرة عليهم فكثرت الصحف الأهلية والتى رأت ضرورة الاستجابة لرغبات قرائها فقلدت فى ذلك الصحافة الغربية و«انطلقت فى إيراد الحوادث ونشرها» بتعبير إبراهيم عبده. ومن ثم فقد سمح الخديو إسماعيل بوجود الصحافة الأهلية للمصريين والشوام والأجانب على حد سواء إلا أنه «أجاز لبعضها البقاء وأغلق مَن تجاوزت حدودها، ولم يكن فى النصف الأول من حكمه يسمح بصحافة لا تماثل فى اتجاهها وتفكيرها (الوقائع المصرية)»، إذ لعله أراد صحافة أهلية وحرية صحفية تخدم أهدافه وتمتدح أعماله فلم يكن ليتحمل النقد أو الهجوم على شخصه وأعماله ولكن إذا كان ذلك فى أول الأمر فإنه سرعان ما نمت الصحف الأهلية وتطورت لتخرج عن الإطار الذى حدده الحاكم ورسمه لها. ومع كل فالحق هو أن الصحافة الأهلية تُعد إنجازا رائعا فى ذلك الوقت من تاريخ الوطن. وحسب أنور عبد الملك فقد «ظل الحدث الأكثر أهمية فى ذلك العصر هو ظهور الصحافة غير الرسمية التى ستترك آثارها عميقة فى الحياة المصرية بدءا من ثورة 1881م حتى ثورة 1952م بقيادة (الضباط الأحرار)». وحسب المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فإنه كانت لهذه الصحف «فضل كبير فى إنارة البصائر والأفكار، وتوجيه الأنظار إلى العناية بشئون البلاد العامة، وانتقاء الأعمال التى تصدر عن الحكومة، فكانت أداة لظهور حرية الآراء السياسية، ولها الفضل أيضا فى نشر العلوم والمعارف، وتهذيب لغة الكتابة، وترقية أساليب الإنشاء، فكانت من هذه الناحية من عوامل نهضة الأدب فى العصر الحديث». ويُقسم عبد اللطيف حمزة الصحف الأهلية التى صدرت فى ذلك العصر إلى قسمين.. فهناك أولا الصحف الأهلية التى تولتها أقلام مصرية وعقول مصرية مثل (وادى النيل) و(نزهة الأفكار). و(روضة الأخبار) و(الوطن).. ثم هناك ثانيا الصحف الأهلية التى تولتها أقلام وعقول شامية مثل (الأهرام) و(مصر) و(التجارة) و(المحروسة). بالإضافة إلى أن عصر إسماعيل قد شهد تنوع وتعدد الصحف الأجنبية فى مصر، بسبب تزايد الأجانب فى البلاد واتساع نفوذهم السياسى. وتستمر الصحف المصرية الخاصة فى الصدور لتمثل لونا مميزا له مذاق خاص يختلف عن غيرها من الصحف المملوكة للدولة، وكذلك الصحف التى تصدر عن الأحزاب السياسية.