تتمثل مشكلة الإرهاب فى أنه ينجح فى بعض الأحيان، وحينها يطلق الشيطان أغانيه. وربما تنتهى حياة بارون سكاربيا (شخصية من أوبرا توسكا تمثل قائد شرطة حاول الاستفادة من الغيرة) بإغماد سكين توسكا (مغنية فى الأوبرا نفسها قتلت بدافع الغيرة العمياء) فى صدره، ولكن جلادى جافارادوسى (حبيب توسكا) حصلوا على ما يسعون إليه. فمن يستطيع مخالفة ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى السابق عندما قال الأسبوع الماضى أن منهجه المفضل فى الاستجواب قد أنقذ أمريكا من هجوم آخر مثل الحادى عشر من سبتمبر؟ ربما لا نستطيع تصديق أن ديمقراطيات مثل بريطانيا وأمريكا تستهل القرن الحادى والعشرين وهى تخوض فى جدل حول فاعلية أشكال من التعذيب كانت معروفة فى العصور الوسطى مثل التقييد الكامل والحرمان من النوم والغمر فى الماء. والآن من الواضح أن كلا من البلدين قد انحدرت بتأثير هستيريا الحرب ضد الإرهاب إلى استخدام المعلومات المنتزعة تحت التعذيب. فهل نصفح وننسى فحسب؟ تصاحب نشر الرئيس أوباما لمذكرات المخابرات المركزية الأمريكية قرار الصفح. وكان الأمر متعلقا بانتهاكات يحتمل قيام مواطنين أمريكيين بها، وذلك ليس وفقا للاتفاقية الدولية ضد التعذيب فقط، وإنما أيضا وفقا للائحة الخاصة بالمخابرات المركزية الأمريكية شديدة التدقيق إن لم تكن الرهيبة. وكما يظهر، فقد تعرض خالد شيخ محمد المخطط لهجوم الحادى عشر من سبتمبر 183 مرة إلى الإيهام بالغرق، كما واجه مائة مرة وابلا من تقنيات الاستجواب الفظة المتنوعة خلال أسبوعين، قبل أن يوقف الأطباء هذه العملية. أى أخلاق أجازت الاستعانة بالطب فى هذه المعاملة؟ وكما يزعم أبو زبيدة أكبر قيادى فى تنظيم القاعدة، فقد أرسل للتعذيب فى تايلاند قبل أن يتعرض 83 مرة تم تسجيلها إلى الإيهام بالغرق. وكان من الواضح أن هذه الأفعال لم تقتصر على أزمات «القنبلة الموقوتة» التى يتحدث عنها المدافعون عن الإرهاب. فكانت تمثل منهجا، وهدفت إلى التأكيد على أسماء المتواطئين وأحداث ماضية وتواريخ وأماكن. ويبدو أن محمد «اعترف» بكل اعتداءات العقد الماضى. وكما هو معروف منذ الحرب العالمية الثانية، فعملية التعذيب تؤدى إلى توحش من يشارك فيها حتى يصير الكابح الوحيد له هو خطورة تحمل مسئولية ما يتم. وقد نحى أوباما تلك الخطورة. وأول ما فعله فى هذا الصدد خرق معاهدة التعذيب، التى تفرض على الحكومات سجن المدانين بارتكاب التعذيب من قريب أو بعيد كواجب «ملزم». وحتى الحرب المفتوحة لا تعد تبريرا لعدم تنفيذ المعاهدة. والوفاء بذلك ينبغى أن يقوم به إيريك هولدر وزير العدل، وليس الرئيس. ونظرا لأهمية المواد التى فاضت عبر المدونات وموجات الأثير، يصعب علينا فهم السبب فى عدم قدرة هولدر على تعيين مدع خاص. وسوف يفتضح أمر التعاون البريطانى بصورة متزايدة كلما تسرب هذا السم عبر النظام. وردد وزراء الداخلية البريطانيون المتعاقبون أطروحة تشينى وهم يعملون على فتح الباب تدريجيا لتسلط الدولة. فإذا ما انفجرت القنبلة سيكون وزير الداخلية فى حاجة إلى سلطة إضافية. وإذا لم تنفجر، فإن ذلك يثبت نجاح السلطة الجديدة التى أضيفت مؤخرا. إذن فنحن نترنح باتجاه العتمة فى مزايدة مع مرتكبى التفجيرات. ودائما ما تبرر الوسائل غاية «وزير الداخلية». أخلاقيات التعذيب لا يشوبها إلا الدعاوى والدعاوى المضادة حول فاعليتها فقط. ويعتبر البعض أن التجاوز مقبول فى حالات «القنابل الموقوتة». ومع ذلك يتم إقرار هذا التجاوز فى الغالب الأعم من قبل فلاسفة يلفتون النظر إلى خطورة أى نقل عن مثل هذه الأخلاقية الظرفية إلى النظرية العامة للتعذيب، حيث تم تبريرها بصرف النظر عن وضع حدود معينة لحالة الخطر التى تتعرض لها الدولة. وفى الواقع، تحظر الإساءة الجسدية أو المعنوية للسجين قانونا على مستوى العالم باعتبارها شيئا بغيضا، وكعلامة على تطور مسيرة الحضارة بغض النظر عن الفاعلية. يعترض المدافعون عن التعذيب (الذين يعيدون تعريفه دائما، فلا يصل ما يحدث إلى اعتباره تعذيبا بشكل كامل) حيث يعتبرون أنه لابد فى بعض الأحيان من الرجوع خطوة إلى الوراء لمنع مرتكبى التفجيرات من اتخاذ خطوتين إلى الإمام. وهذا منطق مجنون، حيث إن مثل هذا التراجع الصريح سرعان ما يتغذى على نفسه، كما كان الوضع بالنسبة للقانون المضاد للإرهاب فى بريطانيا. يكمن التعذيب فى عدونا القديم، الحرب على الإرهاب، التى تمثل سمة لعهد يبدو أنه كان موسما لمصطلحات الخوف، التى يسعى أوباما عن حق إلى الحد منها. كانت المذابح فى نيويورك وبالى ولندن ومدريد ومومباى أمرا فظيعا، ولكنها ضئيلة الشأن سياسيا. وافتقرت حتى إلى برنامج لتغيير السياسات كما هو الحال بالنسبة للجيش الجمهورى الأيرلندى. كانت مجرد صراخ غضب لنزعة متعصبة مختلة، تهدد حياة وأملاك الدولة ولكن ليس أمنها. ويتمثل أفضل تعامل معها فى اعتبارها حوادث عارضة للعولمة. وتقع مهمة حماية المواطنين على عاتق الحكومات، ولكن ذلك يعد دورا متعلقا بالشرطة. كما يشكل تهديد الإسلام المتطرف معركة دون شك. وقد يكون من شأن اجتهادات الشرطة أن تحول دون المزيد من الهجمات (التى ليست سوى أحلام فى رءوس الحالمين وشرطة لندن )، ولكن يصعب تصديق أن التعذيب سيسهم فى ذلك. إذا كان الأمر كذلك وهذا هو الرأى الذى يجادل تشينى لإثبات صحته فعلى الليبراليين قبول أن هناك دائما ثمنا للحرية لابد من دفعه. (هناك ما يفوق بكثير السماح للناس بركوب الدراجات البخارية (كان الحادى عشر من سبتمبر فى حد ذاته ثمنا للرقابة السيئة، مع أخذ الهجوم على الهدف نفسه فى 1993 فى الاعتبار. ثمن حظر التعذيب، إذا كان هناك شىء من ذلك، سوف يدفع فقدان حياة أشخاص وبتحطيم حوائط، وليس بمستقبل الدولة الديمقراطية. خطر الإرهاب المبالغ فيه أنه يعنى وجود صناعة تنتظر أن تنقض. وسوف تنحدر «حرب» الدمدمة أو «أمن الدولة» أو «تهديد المدنية» وفرسان سفر الرؤيا إلى صيغة من صيغ الفروسية. وأشار لورد ويست وزير الداخلية فى المملكة المتحدة هذا الأسبوع إلى إجمالى عدد المقبوض عليهم من قبل الفرسان، وكان ذلك فى المقابلة التى أجراها لإعلان خطط «لتصعيد الحرب ضد القاعدة من خلال الكشف عن خطة لحماية كل مبنى حكومى فى بريطانيا». يقول ويست إنه يريد إعادة تعزيز كل مركز تجارى وساحة رياضية ومدرسة ومستشفى ومطعم ضد مرتكبى التفجيرات الانتحارية. وباستخدام ميزانيات ضخمة للغاية، عقد اجتماع لمجموعة من مستشارى الأمن والدفاع وأعضاء جماعات الضغط ومقاولى البناء وخبراء الحرب الإلكترونية وتجار القلق بشأن الصحة والأمان. ولن يتوقف عن ذلك حتى يتيح للقاعدة (التى نقول عنها باستمرار إنها فى مرحلتها الأخيرة) استنزاف الميزانية الضئيلة والنزول بالمواطنين البريطانيين إلى مستوى الثرثرة غير المجدية عن الخوف. الدولة البريطانية، والتسامح البريطانى والطريقة البريطانية فى الحياة مهددة إلى حد بعيد من لورد ويست وأمثاله أكثر مما هى مهددة من أشياء تافهة الشأن فى مدرسة باكستانية. إن إساءة استخدام لغة الإرهاب من أجل تعظيم الذات سياسيا وتجاريا أمر مخز. وهو بالضبط المزاج الذى يأمل أوباما فى تغييره. إنه يجرد كلمة الأمن من أى معنى نسبى لها، وتنتهى الحال بالأمر فى غرف التعذيب فى جوانتانامو. Copyright: Guardian News & Media 2009